الحج بعيون د. مصطفى محمود
بقلم – د. مصطفى محمود
(من كتابه الإسلام ما هو؟) :
الشمس تنحدر إلى المغيب على جبل عرفات .
الجبل مزروع بالخيام.. مليون وخمسمائة ألف حاج يحطون عليه كالحمام في ثياب الإحرام البيض.. لا تعرف الواحد من الآخر.. لا تعرف من الفقير ومن الغني.. ولا تعرف من التركي ومن العربي؟
اختفت الجنسيات.. واختفت الأزياء المميزة و اختفت اللغات.. الكل يلهج بلسان واحد .. حتى الجاوي والصومالي والأندونيسي والزنجي والأذربيجاني الكل يتكلم العربية.. بعضهم ينطقها مكسرة وبعضهم ينطقها بلكنة أجنبية .. وبعضهم يمد بعض الحروف ويأكل بعض الحروف ولكنك تستطيع أن تفهم من الجميع وتستطيع أن تسمع أنهم يهتفون.. لبيك اللهم لبيك.
والذين لا يعرفون العربية تراهم قد التفوا حول مطوف يرددون وراءه الدعاء العربي حرفاً حرفا في خشوع وابتهال.
في البقعة التي كنت أقف فيها أكثر من خمس عشرة جنسية مختلفة في مكان لا يزيد على أمتار معدودة.. التركستان والباكستان وكازخستان وغينيا وغانا ونيجيريا وزنجبار وأوغندة وكينيا والسودان والمغرب واليمن والبرازيل وإسبانيا والجزائر وسيلان.. كلهم حولي يتصافحون و يتبادلون التحية، ويهنئ بعضهم بعضا .
ولولا أن المطوف أخبرني بهذه الجنسيات لما عرفتها، فالكل كانوا يبدون لعيني وكأنهم عائلة واحدة في مجلس عائلي حميم ..
على بعد خطوات كان أكثر من ستين هندياً يلتفون حول مطوف هندي، وهو الآخر فيما يبدو يقرأ لهم الدعاء العربي من كتاب في يده.. وهم يرددون خلفه الدعاء وهم يبكون وقد تخضلت لحاهم الطويلة الكثة بالدموع .
وهم قطعاً لم يكونوا يعرفون العربية، ولم يكونوا يدركون معاني ما يرددون من حروف.. وإنما شعروا بها بقلوبهم فبكوا.
كان كل واحد يشعر أنه يخاطب الله بهذه الحروف وأنه في حضرة الله وفي ضيافته وفي رحابه.. وأنه يقف حيث كان يقف محمد عليه الصلاة و السلام .. النبي العظيم البدوي الفقير الأمي.. وأنه يسجد حيث كان يسجد، ويركع حيث كان يركع، ويردد ما كان يردده من دعاء.. بذات اللسان العربي.. وفي ذات اليوم.. يوم الجمعة من ذي الحجة.. ولعل ذبذبات صوت النبي وأصوات أصحابه مازالت في الفضاء حوله.. فلا شيء يفنى في الطبيعة ولا شيء يستحدث.
عرفت أن هؤلاء الستين هم من أفقر طائفة هندية وأنهم جاءوا إلى مكة على الأقدام وعلى سفن شراعية وعلى جمال.
وكان زعيمهم يحمل علماً عبارة عن خرقة ممزقة.
وبعضهم جاوز الثمانين.. وبعضهم كف بصره.. وبعضهم كان يحمل بعضا.
وكان الكل يبكون بحرقة و يذوبون خشوعاً.
كانوا فقراء حقاً.
وعلى بعد خطوات كان هناك هندي آخر، قال لي المطوف إنه مهراجا يملك عدة ملايين.. وكان بذات ملابس الإحرام البيضاء.. وكان يبكي بذات الخشوع.. وكان مشلولاً يحمله أتباعه على محفة.
كان فقيراً هو الآخر حقاً.
ومن منا ليس فقيراً إلى الله!
إن الملايين لا تعفي أحداً من الشيخوخة والعمى والمرض والموت .
إن السيد وخادمه يمرضان بالأنفلونزا ويمران بنفس الأعراض.. بل نرى السيد يعاني دائماً أكثر من الخادم، ويستنجد بعشرات الأدوية والعقاقير، ويجمع حوله الأطباء فلا يفعل له العلم ولا الطب شيئاً .. وكانوا يقولون لنا في كلية الطب على سبيل السخرية.. إن الأنفلونزا تشفى في سبعة أيام بدون علاج.. وفي أسبوع إذا استخدمنا العلاج.
والأنفلونزا مرض بسيط.. تافه.. هي مثل من ألف مثل لضعف الإنسان وحاجته وفقره الحقيقي مهما كثرت في يده الاموال وتعددت الأسباب.
من منا ليس فقيراً إلى الله وهو يولد محمولاً ويذهب إلى قبره محمولا وبين الميلاد والموت يموت كل يوم بالحياة مرات ومرات .
وأين الأباطرة والأكاسرة والقياصرة؟
هم وإمبراطورياتهم آثار.. حفائر.. خرائب تحت الرمال.
الظالم والمظلوم كلاهما رقدا معاً .
والقاتل والقتيل لقيا معاً نفس المصير.
والمنتصر والمهزوم كلاهما توسدا التراب.
انتهى الغرور.
انتهت القوة.. كانت كذبة.
ذهب الغنى.
لم يكن غنى.. كان وهماً.
العروش والتيجان والطيالس والخز والحرير والديباج .. كل هذا كان ديكوراً من ورق اللعب.. من الخيش المطلي والدمور المنقوش.
لا أحد قوي ولا أحد غني.
إنما هي لحظات من القوة تعقبها لحظات من الضعف يتداولها الناس على اختلاف طبقاتهم.
لا أحد لم يعرف لحظة الذل، ولحظة الضعف، ولحظة الخوف، ولحظة القلق.
من لم يعرف ذل الفقر، عرف ذل المرض، أو ذل الحب أو تعاسة الوحدة، أو حزن الفقد، أو عار الفضيحة أو هوان الفشل أو خوف الهزيمة.
بل إن خوف الموت ليحلق فوق رءوسنا جميعاً.
كلنا فقراء إلى الله.. كلنا نعرف هذا.
وهم يعرفون هذا جيداً.. ويشعرون بهذا تماماً، ولهذا يبكون.. ويذوبون خشوعاً ودموعاً .
سألني صديقي وهو رجل كثير الشك: وما السر في ثياب الإحرام البيضاء وضرورة لبسها على اللحم وتحريم لبس المخيط.. وما معنى رجم إبليس و الطواف حول الكعبة.. ألا ترى معي أنها بقايا وثنية؟
قلت له: أنت لا تكتفي بأن تحب حبيبك حباً عذرياً أفلاطونياً، وإنما تريد أن تعبر عن حبك بالفعل.. بالقبلة والعناق واللقاء.. هل أنت وثني؟
وبالمثل من يسعى إلى الله بعقله وقلبه.. يقول له الله: إن هذا لا يكفي.. لابد أن تسعى على قدميك.
والحج والطواف رمز لهذا السعي الذي يكتمل فيه الحب شعوراً وقولاً وفعلاً .
وهنا معنى التوحيد.
أن تتوحد جسداً وروحاً بأفعالك و كلماتك .
ولهذا نركع ونسجد في الصلاة ولا نكتفي بخشوع القلب.. فهذه الوحدة بين القلب والجسد يتجلى فيها الإيمان بأصدق مما يتجلى في رجل يكتفي بالتأمل.
أما ثياب الإحرام البيضاء فهي رمز الوحدة الكبرى التي تذوب فيها الأجناس ويتساوى فيها الفقير والغني.. المهراجا وأتباعه .
ونحن نلبسها على اللحم.. كما حدث حينما نزلنا إلى العالم في لحظة الميلاد وكما سوف يحدث حينما نغادره بالموت.. جئنا ملفوفين في لفافة بيضاء على اللحم .. ونخرج من الدنيا بذات اللفة.
هي رمز للتجرد.. لأن لحظة اللقاء بالله تحتاج إلى التجرد كل التجرد.
ولهذا قال الله لموسى : ((اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)).
هو التجرد المناسب لجلال الموقف.
وهذا هو الفرق بين لقاء لرئيس جمهورية.. ولقاء مع الخالق.
فنحن نرتدي لباس التشريفة لنقابل رئيس الجمهورية.
أما أمام الله فنحن لا شيء.. لا نكاد نساوي شيئاً.
وعلينا أن نخلع كل ثياب الغرور وكل الزينة.
قال صديقي في خبث: ورجم إبليس؟
قلت: أنت تضع باقة ورد على نصب تذكاري للجندي المجهول، وتلقي خطبة لتحيته .. هل أنت وثني؟
لماذا تعتبرني وثنياً إذا رشقت النصب التذكاري للشيطان بحجر ولعنته.. إنها نفس الفكرة .
إنها كلها رمزيات.
أنت تعلم أن النصب التذكاري مجرد رمز، وأنه ليس الجندي.
وأنا أعلم أيضا أن هذا التمثال رمز، وأنه ليس الشيطان.
وبالمثل السعي بين الصفا والمروة إلى حيث نبعت عين زمزم التي ارتوى منها إسماعيل و أمه هاجر .. هي إحياء ذكرى عزيزة و يوم لا يُنسى في حياة النبي والجد اسماعيل وأمه المصرية هاجر.
وجميع شعائر ديانتنا ليست طقوساً كهنوتية بالمعنى المعروف، وإنما هي نوع من الأفعال التكاملية التي يتكامل بها الشعور والتي تسترد بها النفس الموزعة وحدتها ..
إنها وسيلة لخلق إنسان موحد.. قوله هو فعله.. فالكرم لا معنى له إذا ظل تصريحاً شفوياً باللسان، وإنما لابد أن تمتد اليد إلى الجيب ثم تنبسط في عطاء ليكون الكرم كرماً حقيقياً.. هل هذه الحركة وثنية أو طقساً كهنوتياً.
وبهذا المعنى، شعائر الإسلام ليست شعائر، وإنما تعبيرات شديدة البساطة للإحساس الديني.
ولهذا كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي بلا طقوس وبلا كهنوت وبلا كهنة .
ألا تراهم أمامك أكثر من مليون يكلمون الله مباشرة بلا واسطة ويركعون على الأرض العراء حيث لا محاريب ولا مآذن ولا قباب ولا منابر ولا سجاجيد ولا سقوف منقوشة بالذهب ولا جدران من المرمر والرخام .
لا شيء سوى العراء.
ونحن عراء .
ونفوسنا تعرت أمام خالقها فهي عراء.
ونحن نبكي.. كلنا نبكي .
وسكت صديقي وارتفعت أصوات التلبية من مليون و خمسمائة ألف حنجرة.. لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك .
وكنت أعلم أن صديقي مازال بينه وبين الإيمان الحقيقي أشواط ومراحل ومعراج من المعاناة.
مازال عليه أن يصعد فوق خرائب هذا البناء المنطقي الذي اسمه العقل ويستشرف على ينابيع الحقيقة في تدفقها البكر داخل قلبه .. حينئذ سوف يكف عقله عن اللجاجة والتنطع ويلزم حدوده واختصاصه، ويدرك أن الدين أكبر من مجرد قضية منطقية، وأنه هو في ذاته منطق كل شيء.. وأن الله هو البرهان الذي نبرهن به على وجود الموجودات لأنه قيومها (هو الذي أوجدها من العدم فهي موجودة به وبفضله)، فهو برهان عليها أكثر مما هي برهان عليه.. وكيف يكون العدم برهاناً على الوجود.. وكيف يكون المعدوم شاهداً على موجد الوجود.
إنها لجاجة العقل .. وهي سلسلة من الخرائب المنطقية لابد أن نمر بها في معراجنا للوصول إلى الحقيقة .. وهذا عيب العصر الذي يدّعي فيه العقل أنه كل شيء.
وعصرنا للأسف عصر العلوم الوضعية والمنطق الوضعي.. هو عصر الألكترونيات والكهرباء والكيمياء والطبيعة .
والواحد منا في بداية تلقيه لهذه العلوم الوضعية، ولفرط انبهاره بها وبمنجزاتها يتصور أنها علوم كلية يمكن أن يناقش بها الأمور الكلية مثل الوجود الإلهي فيقع في خطأ من يحاول أن يقيس السماء بالشبر ويزن الحب بالدرهم.
وتمضي عليه سنوات من التمزق والمعاناة قبل أن يكتشف أن الطبيعة والكيمياء علوم جزئية تبحث في المقادير العلاقات واختصاصها هو القضايا الجزئية، وهي لا تصلح بطبيعة معاييرها للحكم على الدين لأنه قضية كلية.
الدين هو العلم الكلي الذي يحتوي على كل تلك العلوم.. في حين لا يحتوي عليه أي منها .
وعندنا نور آخر نستدل به على الحقيقة الدينية، نور القلب وهدى البصيرة واستدلال الفطرة والبداهة.
هنا نور نستشف به الحقيقة بدون حيثيات.
هنا منطقة في الإدراك هيأها الله للإدراك المباشر.
وهي مرتبة أعلى من مراتب الشعور العادي.
وكما أن العقل أعلى في الرتبة من حاسة مثل الشم واللمس، كذك البصيرة أعلى في الرتبة من العقل من الإدراك بالمنطق العقلي الجدلي.
والبصيرة هبة متاحة لكل منا، ولكن صدأ العرف والتقليد والادعاء العقلي، والأحكام الجاهزة الشائعة، هذا عدا الغرور وظلمة الشهوات والرغبات وسعار الأحقاد والمطامع.. كل هذه الغواشي ترين على مرآة البصيرة فتحجب أنوارها الكاشفة.
ويمضي العمر والإنسان يصارع هذه الرغبات و يتمزق، ويعاني ويسأل ويتساءل ويحفر في داخل نفسه حتى تنتهك الأستار، وتنجلي الغواشي، ويبدأ يدرك الحقيقة بهذه الرؤية الكلية التي هي هبة بصيرته.
وهنا يبدأ يعرف ما هو الدين.
وقد يرى بالبصيرة من لا يحمل الشهادات .
وقد تعمى بصيرة المتعلم المؤهل في الجامعات .
وجلاء القلب فضل إلهي قد يوهب و قد يكتسب، لا توجد شروط في المعارف الإلهية، وهذا الهندي المسلم الفقير الحافي العاري الغارق في دموعه قد يعرف عن الله أكثر مما نعرف نحن الذين نكتب في الدين والله.
وربما لو سألته عن شعوره لما استطاع أن يشرحه في عبارات مثل العبارات المنمقة التي نكتبها.. وهو أمر لا يهم.. فالمعارف العالية قد تعلو على العبارة وقد تعجز عنها الإشارة .. فلا يبقى إلا الصمت و الدموع .
ولهذا هم يبكون على عرفات في لحظة لقاء مع النفس والله.. تبدو فيها الكلمات مبتذلة.. واللسان عاطلاً، والعبارات خرساء، فلا تبقى إلا الدموع، وهي دموع فرح وحزن وندم وتوبة وتطهر وميلاد .
وهي فجر روحي يعرفه من جربه .
وقد توحي اللحظة الواحدة و الظرف الواحد بشيئين مختلفين تماماً و ربما متناقضين ، فحينما كنا نطوف بالكعبة في زحام من ألوف مؤلفة، كان صديقي يلهث مختنقاً و كل ما يخطر له بالمناسبة هو تخيله لو كانت هذه الكعبة في أوروبا في برلين مثلاً، إذن لاختلف الأمر ولطاف حولها الأوروبيون في طوابير منظمة لا يزحم فيها الواحد الآخر.. بينما كنت أنا أنظر إلى الألوف المؤلفة التي تدور كالذرات البيضاء وأرى فيهم الملايين بلا هوية ممن حجوا وطافوا وعاشوا وماتوا.. أرى فيهم أبي وأمي.. كانوا هنا يطوفون منذ سنوات في هذا الزحام نفسه.. ومن قبلهم جدي الذي جاء إلى هنا على ظهور الإبل.. ثم الأجداد.. وأجداد الأجداد من قبل إلى أيام النبي الذي خرج من مكة مهاجراً وعاد إليها فاتحاً .. كنت أنظر في الجموع الحاشدة من منظور تاريخي وفي خناق الزحام نسيت نفسي تماماً، وفقدت هويتي ، ولم أعد أعرف من أنا.. هأنذا قد مت أنا الآخر.. وهذا ابني يطوف ويذكرني وهو يطوف، ثم يموت ذات يوم ويصبح هو الآخر ذكرى.. كانت لحظة روحية شديدة التوهج فقدت فيها إحساسي بذاتي تماماً، وغبت عن نفسي وامتلأت إدراكاً بأنه لا أحد موجود حقاً سوى الله.. وتذكرت السطر الأول من قصة الخلق.
في البدء كان الله ولا شيء معه .
وفي الختام يكون ولا شيء بعده .
هو الأول و الآخر.
هو.. نعم هو ولا سواه.
كانت لحظة من المحو الكامل لكل شيء بما في ذلك نفسي ذاتها ، في مقابل ملء مطلق لموجود واحد مطلق هو الله.
وبالرغم من الإحساس بالغياب فإنه كان إحساساً في الوقت ذاته بالحضور.. الحضور الشامل المهيمن المالئ لكل ذرة من الشعور.. حضور ماذا..؟
وأحار في وصف تلك اللحظة و لا أجد الألفاظ ولا العبارات وأكتفي بأنها أعمق ما عشت من لحظات.
إنها أشبه بعدة ستائر تفتح متتالية بعضها من وراء البعض.. تفتح ستارة لتكشف عن مسرح صغير هو الواقع الفردي بتفاصيله، ثم تفتح ستارة في العمق لتكشف عن واقع آخر خلفي كبير، هو الواقع التاريخي يبتلع الواقع الأول بما فيه، ثم تفتح ستارة ثالثة في العمق البعيد تكشف عن حقيقة الحقائق التي يبهت أمامها كل شيء.
هو إحساس ديني يصعب تصويره في كلمات .
هو أشبه بموقف مقاتل على الجبهة.
إنه في تلك اللحظة ينسى همومه الصغيرة .
هموم وطنه تبتلع همومه .
وجراح وطنه تبتلع جراحه فينسى مشكلات بيته الصغير ويذوب في مشكلات مجتمعه الكبير.
هناك حضور أكبر ابتلع الحضور الأصغر.
وبالمثل لحظة الوقوف في حضرة الله.
هنا الحضرة العظمى.. حضرة الحق .
وهي حضرة هائلة تذوب أمامها الحواس تماماً.
يفنى الواقع الصغير.. واقع النفس ومشكلاتها اليومية.. ثم الواقع الزمني المحيط بتفاصيله.. ثم الواقع التاريخي كله.
ثم يكون فناء النفس ذاتها في لحظة احتواء كامل من ذات عظمى مهيمنة.
هي لحظة حب صوفية نعرفها في الحب.. ويرويها لنا المحبون.
والحب البشري لا شيء بالنسبة للحب الإلهي.
وجمال امرأة لا شيء بالنسبة للجمال المطلق الكلي.
أين كان صديقي من هذا كله؟
ما أبعد كل منا عن الآخر مع أن ذراعي في ذراعه.. كان يفكر ويمنطق ويرتب الحيثيات .
وكنت أذوب حباً وقد قفزت بي اللحظة فوق حاجز العقل وجاوزت بي الحدود والتفاصيل لتضعني على ذروة أرى منها رؤية كلية ، وأدرك منها إدراكاً كلياً .
هو الحب .
والدين في جوهره حب .. والحج هجرة إلى بيت الحبيب والطواف للعشاق.
هؤلاء لا يجدون فيه كلفة ولا تكليفاً .
وإنما يجدون حواراً مؤنساً .. ومكالمة من تلك المكالمات السرية التي تضيء مجاهيل القلب.
وما أكثر ما شعرت به في الكعبة مما لا أجد له كلمات.
قد يسأل سائل: لماذا نتكبد المشاق لنذهب إلى الله في رحلة الحج.. ولماذا هذه الهجرة المضنية.. والله معنا في كل مكان.. بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو القائل إنه (( قريب مجيب الدعوات)).. بل إن قربه لنا هو منتهى القرب.. فما الداعي إلى سفر وارتحال لنقف فوق عرفة ندعوه منها.. وهو القريب منا قرب الدم من أجسادنا.
والسؤال وجيه .
والحقيقة أن الله قريب منا بالفعل وأقرب إلينا من الدم في أجسادنا، ولكننا مشغولون على الدوام بغيره .
إنه لا يقيم دوننا الحجب ولكننا نحن الذين نقيم هذه الحجب .. نفوسنا بشواغلها وهمومها وأهوائها تلفنا في غلالات مكثفة من الرغبات.. وعقولنا تضرب حولنا نطاقاً من الغرور.. وكبرياؤنا يصيبنا بنوع من قصر النظر، ثم العمى.. فلا نعود نرى أو نحس بشيء سوى نفوسنا .. وهذا هو البعد برغم القرب..
والهجرة على القدمين وتكبد المشقات و النفقات هي وسيلة مادية للخلوص من هذه الشواغل وتفريغ القلب لذكر خالقه ، ولإيقاظ الحواس على حقيقة هذا القرب القريب لله .
ومن هنا كانت كلمة ((عرفة)).. فبعد رحلة من ألوف الأميال يتيقظ القلب على ((معرفة)).. فهو ((يتعرف)) على ربه ويكتشف قربه ((ويتعرف)) على نفسه ويكتشف بعدها..
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في هذا اليوم: ((نعم اليوم يوم عرفة لأن أهل الأرض يعرفهم أهل السماء)) هي إذن معرفة شاملة من كل الوجوه .
وحينما يفد الحاج بجسده إلى البيت يكون عقله قد أشرق على معرفة .. وإذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة فإنه سوف يدع الخلاف معه، سوف يدع الذنوب ظاهرة وباطنة وسوف يكف عن منازعته في أمر قدره وقضائه لأنه اكتشف كامل عدله وحكمته..
وسوف يدع الخلاف بينه وبين الخلق فيكف عنهم أذاه ويحتمل أذاهم ويترفق بهم ويشفق عليهم .
وسوف يدع الخلاف بينه وبين نفسه ويصل إلى حالة من الوحدة فيقول ما يبطن، ويفعل ما يقول فيصبح ظاهره باطنه وقوله فعله.
وهذا هو الانسجام مع النفس والكون والله..
وانعقاد الصلة بين الروح وخالقها.
وبلوغ السكينة التي لا تزلزلها الجبال.
والسعادة الروحية بالقرب.
يصف لنا معروف الكرخي رجلاً بلغ هذه الحال فيقول :
((رأيت رجلا بالبادية يمشي بلا زاد .. فقلت له.. إلى أين تريد .. قال لا أدري .. قلت هل رأيت رجلاً يريد مكانا لا يدريه.. قال أنا هو.. قلت فأين تنوي.. قال مكة.. قلت تنوي مكة ولا تدري أين تذهب.. قال نعم وذاك لأني كم مرة أردت أن أذهب إلى مكة فيردني إلى طرسوس، وكم مرة أردت طرسوس فيردني إلى مكة.. قلت من أين المعاش.. قال من حيث يريد.. يجوعني مرة والطعام حاضر ويشبعني مرة والطعام غائب)) .
وحال صاحبنا هو حال من انعقدت صلته بالله ..
فهو لا يعرف لنفسه إرادة إلا ما يريد به خالقه ولا يتزود إلا بالتقوى و ليفعل به الله ما يشاء.. فهو قد علم أنه لا عبرة بالطعام.. فقد يوجد الطعام بوفرة ويوجد معه المرض الذي يصد عنه.. وقد يوجد الكفاف ويوجد الشبع.. وقد يوجد الصوم ومعه الاكتفاء المشبع بصحبة الخالق والائتناس به.
ولا يفهم من هذا تواكل.. لأن الرجل يصف ما بينه وبين الله و ليس ما بينه وبين الناس.. ولو أنه وجد بين الناس شراً لقومه بالسيف.. فهذا الرجل نفسه هو المقاتل أبو ذر وأمثاله .. وهو نفسه الذي يثور على الحاكم الظالم.. فالامتثال لله شيء غير الامتثال لعباد الله، بل هو عكسه ونقيضه، فخادم الله هو أول من يثور على عباد الله دون خوف..
والخائف من الله لا تساوي عنده الدنيا شيئاً فهو أول من يضحي بها وبنفسه تحت ظلال السيوف في سبيل كلمة حق.. لأن الله عنده هو الحق.. وعشق الله هو الموت في سبيله.
وهذا هو توكل الإسلام وهو غير تواكل الكسالى والشحاذين من مفترشي الأرصفة.. وهؤلاء ليسوا مسلمين أصلاً.
وليس كل من يتمتم : ((قل هو الله أحد)) بمسلم موحد .
والمهم ماذا تقول أعماله..
إذا كان يعتقد حقاً أن الله أحد لا سواه، هو الضار النافع، فلماذا يمد اليد إلى غيره ولماذا يتزلف و لماذا يتملق، ولماذا يكدس المال والعقار وهو يعلم أن الله هو المالك الوحيد للأرض وما عليها وهو الوارث للكل؟ ولماذا يكذب والله سميع؟ ولماذا يسرق والله بصير؟ ولماذا ينافق والله حسيب؟ ولماذا يخون والله رقيب؟ ولماذا يهرب و الله شهيد؟
والتوحيد أعمال وليس تمتمة وحمحمة.
والشكر أعمال و ليس ((الحمدلله)) على اللسان..
يقول الله لآل داود .. ((اعملوا آل داود شكراً و قليل من عبادي الشكور))
لأن المقصود بالشكر الأعمال الدالة على الشكر وليس التمتمة.. اعملوا آل داود شكراً.. اعملوا..
والقرآن سياق متصل مستمر.. لكلمة اعملوا.. يبدأ بكلمة ((اقرأ)) للعلم..
وبعد العلم يكون العمل على مقتضى التوحيد.
وهذا هو الدين..
قل: لا إله إلا الله و استقم على معناها.
وهذه هي رحلة الهجرة إلى الله.. والحج والصلاة والصيام صورتها البدنية.
والحج في معناه خروج .
خروج من أسمائنا إلى أسماء الله .
وخروج من اعتدادنا بأنفسنا إلى الاعتداد به، وخروج من العبودية للأسباب (المال والولد والأرض والعقار والمنصب والسلطة والنفوذ والجاه) إلى عبودية له وحده باعتباره مسبب الأسباب.
وخروج من حولنا وقوتنا إلى حوله وقوته.
وخروج من إرادتنا إلى إرادته، ومن رغبتنا إلى رغبته يقول نبينا محمد عليه الصلاة و السلام : ((اللهم بك انتشرت، وبك آمنت، وبك اعتصمت. اللهم بك أصول وبك أجول))، ((اللهم بك أصبحت و بك أمسيت و لا فخر لي)).
ويقول عن الحج: ((من خرج يريد الطواف خاض في الرحمة)).
وتفسير الرحمة إن الله يجذب همة عبده إليه ويعصمها من التفرقة.
ويقول عن الركوب للسفر : ((فإذا ركب الحاج الراحلة في الظاهر يشهد في السر أن الله هو الذي يحمله)) وهي ذروة في التوحيد، فهو لا يعود يرى الناقة أو القطار أو الطائرة، وإنما الله هو الذي يحمل المسافر على أسبابه وقوانينه.. تختفي الأسباب ليظهر المسبب، ويختفي الخلق ليظهر الخالق.
وهكذا تكون كل خطوة بالقدم ترافقها خطوة بالقلب إلى مزيد من التوحيد.. ويكون مع طي الأبعاد طي داخلي للصفات، فيقترب العبد بصفاته من صفات ربه، فيكون الرحيم الكريم الحليم الودود الرءوف الصبور الشكور ما استطاع.. وهو صعود ومعراج لا نهاية له.. لأن كمال الله لا نهاية له.
وهكذا يقطع المهاجر إلى الله مرحلة بعد مرحلة حتى يصل إلى الميقات، فيفنى عن نفسه ويموت عن صفاته ويصبح حاله في الظاهر والباطن حال من يحيا بالله، وحينئذ يحق عليه الغسل و لبس ثوب الإحرام على العرى فهذا هو ثوب الميت المولود.. وهو ثوب من قطعتين رمزا لستر العورة الظاهرة وستر العورة الباطنة.. والحياء هنا على وجهين حياء من الخلق و حياء من الحق.. حياء من سوء الخلق الظاهر الذي تعرفه الناس، وحياء من العورة الباطنة التي لا يراها إلا الله.. ومن هنا كانت الخرقتين الرمزيتين.
أما النحر والذبح فهو في حقيقته ذبح للنفس ورغباتها وشهواتها وأهوائها.. وقد افتدى الله النفس بذبح الضحية.. فتضحي ببعض مالك رمزاً لقتل شهواتك وهوى نفسك.
أما تقبيل الحجر الأسود فهو تزود من غائب، فأنت تضع شفتيك حيث وضع النبي شفتيه صلوات الله وسلامه عليه.
والحكايات عن أصل الحجر الأسود والكعبة كثيرة .. فهي بيت العبادة الأول اتخذه آدم – عليه السلام – وأرشده جبريل – عليه السلام – إلى مكانه.. وحينما غرقت الكعبة في الطوفان استودع الله الحجر في جبل أبي قبيس.. وظل الأنبياء يطوفون بمكان الكعبة حتى جاء إبراهيم – عليه السلام – فأقام قواعدها وأعاد جبريل الحجر إلى مكانه .
وفي عام مولد النبي – عليه الصلاة و السلام – كانت غزوة الفيل المعروفة وهدم الكعبة كما أنه في عام 317 هجرية هجم أبو طاهر القرمطي على مكة وقتل وسبى ثم اقتلع الحجر الأسود وحمله معه إلى الأحساء.. وقد تبرأ عبدالله المهدي من فعل أبي طاهر ومن أخذه الحجر الأسود و قتله الحجيج، فبعث إليه برد الحجر الأسود، ولكنه لم يستجب وبقي الحجر 22 سنة ثم نقل إلى الكوفة عام 393 هجرية، ومنها أعيد إلى مكانه في البيت .
ويرد بعض المؤرخين اقتلاع القرامطة للحجر الأسود إلى محاولتهم إبطال الحج وهدم الإسلام، وإظهار عبادة النار ويرى آخرون أن الصراع كان سياسيا بحتا، وكان المقصود منه محاربة عقيدة أهل السنة.
فالكعبة لم تسلم إذن من التخريب والهدم والسلب والنهب.. وعبر التاريخ لم يبق فيها حجر على حجر.. لم يبق فيها إلا مكانها .
فهي رمز ولا يصح تقديسها إلا رمزاً وشأنها شأن القرآن حينما يقول عنه الله: ((لا يمسه إلا المطهرون)).
فالمراد هنا المعنى العميق.. ((لا يمسه إلا المطهرون)).. أي لا يمس معاني القرآن ولا يفهم أسراره إلا النفوس المطهرة من أهوائها.
وبالمثل تقوم الكعبة كرمز.. لا كحجارة.
والحج والطواف والذبح والرجم وعرفة رموز.
فإذا تجاوز تقديس البقعة إلى تقديس الحجر، خرج المؤمن عن إيمانه وسقط إلى حضيض الشرك والوثنية، وما هكذا مراد الله بالكعبة.
والذي يسأل لماذا يكون الطواف سبعة أشواط والرجم سبع حصوات.. نقول له ولماذا لا يكمل نمو الجنين إلا في الشهر السابع؟ ولماذا يولد ميتاً إذا نزل قبل السابع؟ ولماذا تكتمل النوتة الموسيقية بالدرجة السابعة فلا تكون النوتة الأعلى بعد ذلك إلا جواباً للنوتة الأولى؟
إنه سر في بناء الكون المادي والروحي إنه سباعي التكوين، وإن السبعة هي درجة الاستواء والتمام .
والنفس البشرية بالمثل سبع درجات.. أسفلها النفس الأمارة ، ثم تليها النفس اللوامة، ثم النفس الملهمة، ثم النفس المطمئنة، ثم النفس الراضية، ثم النفس المرضية، ثم النفس الكاملة.
ولهذا يكون الطواف سبعة أشواط، والرجم سبع حصيات، والسعي سبع مرات عن الأنفس السبع.
والسعي بين الصفا والمروة هو رمز لتاريخ الوجود بين المحو والإثبات .
في البداية كان الصفا.
كان الله ولا شيء معه.. الخواء والمحو المطلق.
كان الأزل وما سبق لنا في علم الله قبل أن نوجد وقبل أن يخلق الزمان.
ثم كانت المروة.. حينما نبع الماء.. وخلق الزمان وتدفق الوجود وقامت الحياة.
وكان فضل الله في الأبد، كما سبق فضله من قبل في الأزل.
والسعي بين الصفا والمروة هو شهود الفضل في الحالين.
وهو الانتقال من الحقيقة إلى الشريعة للجمع بينهما في القلب.
من الكلمة التي سبقت في الأزل.
إلى التكليف القائم في الزمان.
والسعي رمز لإجابة الأمر والتلبية .
والصوفي فيما يرمي من حصيات على إبليس.. يرمي عيوب نفسه ويرمي الدنيا.. ويرمي الأسباب..
وهو حينما يذبح الضحية يذبح نفسه الموافقة للشيطان .
وحينما يحلق رأسه يحلق الكبرياء عن عقله .
فهو يعلم أن الكنز الحقيقي الذي يستحق أن يجهد في حصيله هو كنز البراءة.. البراءة من الحول والطول والقوة والغرور والكبرياء.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. هي الكنز..
لا وجود حق سواه..
والكل هالك..
فيلزم التواضع بل الفناء في الحضرة الإلهية.
وأذكر فيما أذكر الآن ما كانوا يحكون لي عن جدي وأنا صغير وكيف أنه حج سبع حجات، وكان الحج في ذلك الزمان البعيد منذ مائة سنة على الأقدام وعلى الإبل وبالبحر في سفن شراعية بدائية وفي الحجة السابعة يروي الجد أهوالا.. عاصفة هبت على الحجيج وهم في عرض البحر واقتلعت الشراع وحطمت الدفة، والكل يصرخ ويتضرع ويستنجد، والمركب تدور في الدوامة كالفلك والدوار، والموج المتلاطم يلف الجميع.
ثم يروي كيف تفسخت المركب إلى ألواح ابتلعتها اللجة في لحظات، وكيف أفاق ليجد نفسه سابحا على طوف خشبي وأمامه جراب الزاد، وكانوا يسمونه في تلك الأيام ((الذهاب)).. كل حاج كان يطلع إلى الحج ومعه ذهابه الخاص وبه ما يلزم من المئونة والأدوات والثياب.
وكان أمرا عجيبا أن يهدأ البحر وتقلع الرياح وتنتهي العاصفة، وينجو وحده ومعه ذهابه بهذه الطريقة التي تبدو كالمعجزة.
وتدمع عينا الجد ويومض بصره الكليل، وكأنما يرى شريطا سريعا من اللقطات الرهيبة.. ويروي كيف قضى ليلتين في البحر ثم انتشله مركب شراعي آخر قاصدا إلى الحج.. وكيف أتم حجته السابعة ثم عاد بسلام .
ويروي كيف كان الموت يترصد الحاج في كل خطوة في البحر وفي البر وفي الصحارى.. وبين الحر المحرق والرمال والعطش إذا ضل طريقه أو ماتت راحلته.. وعلى أيدي قطاع الطرق إذا ألقى به سوء حظه إلى عصبة من عصاباتهم.. أو بمرض معدٍ في زمان لم يكن يعرف شيئا اسمه طب وقائي أو يسمع عن لقاح للكوليرا أو التيفود.. وكانت الرحلة تطول إلى ستة شهور وسبعة شهور وسنة، وكان الخارج إليها مفقودا والعائد مولودا.
وكان يختم قصته مبتسما بفمه الخالي من الأسنان ..
وبرغم كل هذه الأهوال فقد حجيت سبع مرات وهاأناذا أموت بينكم في الفراش كما يموت الكسالى من العجائز، لتعلموا يا أولادي أن كل شيء بأمر الله.. وأنه لا البحر يغرق ولا المرض يهلك ولا نار الصحارى تحرق، وإنما هو الله وحده الذي يصرف الآجال كيف يشاء.
وأذكر الآن قصة هذا الجد الطيب وتطوف بذهني تلك الصور وأنا أضع قدمي في الطائرة لأصل جدة في ساعتين، وفي ساعة ثالثة أكون في الحرم أطوف بالكعبة ثم في الساعة التالية أكون صاعد إلى عرفات، وبعد غروب الشمس أكون نازلا إلى منى لرمي الجمرات ثم طواف الإفاضة ثم تنتهي كل المناسك في أمان.
وأتذكر السرب الطويل من خمسين ألف عربة تحمل نصف مليون حاج وتصعد كلها في وقت واحد في عدة طرق دائرية حديثة الرصف.. وكل شيء يتم في سرعة ونظام ودون حادث وقد تناثرت وحدات الكشافة لتنظيم المرور.. وعلى الجبل تراصت مستشفيات كاملة التجهيز لعلاج وعزل أي حالة اشتباه.. وطوال ساعات الليل والنهار تطوف الرشاشات لقتل الذباب والبعوض في أماكن توالده، وتطوف فرق أخرى لجمع القمامة وحرقها .
وبين مكة والمدينة يمتد أوتوستراد أملس كالحرير تنزلق عليه العربات في نعومة ، وينام الراكب في حضن كرسيه في استرخاء لذيذة.
ما أبعد اليوم من الأمس .
وما أكثر ما نتقلب فيه من النعم .
وكلما أحاطتنا النعمة ازددنا لله هجرانا .
أين إيمان اليوم.. من إيمان النبي العظيم منذ ألف وأربعمائة سنة وهو خارج في غزوة تبوك على رأس اثنى عشر ألفا من المسلمين في شهور القيظ المحرق، ليخوض في رياح السموم والحرور القاتلة سبع ليال يتهدده العطش في كل خطوة.. وقد ترك من خلفه الأمان والظل الظليل والراحة في خيام زوجاته.. ليلقى الله وليبلغ الرسالة.. وليحارب من؟!.. الروم.. الذين احتشدوا على الحدود بمئات الألوف.
واليوم ترتفع حرارة الجو بضع درجات فندير جهاز التكييف ونغلق أبواب غرفنا لا نبرحها لأن الخروج إلى الشارع مجازفة غير مأمونة .
وما أبعد اليوم من الأمس حقاً.
وما أفدح ما خسرنا حينما خسرنا الإيمان
فيديو قد يعجبك: