ما الحكم الشرعي في زواج القاصرات عرفيًّا؟
تجيب لجنة الفتوى بدار الإفتاء المصرية:
راعى الإسلام الغرائز الفطرية في الإنسان، فلم يكبتها ولم يُقِم أمر الدين على الرهبانية، وفي ذات الوقت شرع الزواج ورفع شأنه؛ لينأى بالبشر عن استغلال الغريزة واللهاث خلف الشهوة، وليقرر كرامة الأنثى ويُعلِيَ شأنها، فأقام العلاقة الزوجية على المودة والرحمة، وراعى من أجل استمرار ذلك المواءمةَ والتوافقَ بين الزوجين، فتكلم الفقهاء عن اشتراط الكفاءة بين الزوجين، واختلفوا في تفصيلاتها التي قد تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة والأعراف والثقافات، ولكنهم لم يختلفوا في أصل مشروعيتها؛ ضرورة كونها سببًا مهمًّا من أسباب حصول المودة والرحمة والاحترام المتبادل بين الزوجين وعاملًا مساعدًا على أداء الحقوق المتقابلة بينهما، فتَحَقُّقُ أصلِ الكفاءة في عقد الزواجِ مطلبٌ شرعيٌّ وغرضٌ دينيٌّ؛ فإذا زُوِّجَت البنتُ من غير كفء من غير رضاها فلها خيار الفسخ عند أكثر الفقهاء.
ونحن هنا أمام مشكلة اجتماعية خطيرة تفتقد في مظاهرها وممارساتها معنى الزواج السويِّ ومقومات استمراره، بدءًا من أسلوب الوساطة فيه الذي يحصل بعرض الفتيات القاصرات معًا ليختار الرجل مَن تَرُوق له منهن بطريقة رخيصة كلها امتهان للكرامة وإلغاء للآدمية وكأنهن جوارٍ وإماءٌ أو سِلَعٌ تُباع وتُشتَرى، مع علم الجميع أن هذا استمتاعٌ مؤقَّتُ الأجل، فيما يُشبه الدعارة المقنَّعة، ومرورًا بسوء المعاملة الجنسية مِمَّن تزوجها، وانتهاءً برحيله عنها الذي تدركه مُسبقًا من غير ما يضمن لها حقوقها أو نسبة طفلها الذي قد يكون في رحمها من هذا الرجل، لتُعرَض بعد ذلك مع مَن يُعرَضْنَ مِن الفتيات الأخريات مرة أخرى على رجل جديد … وهكذا … لتبدأ دورة جديدة من هذا الاستغلال القذر لبناتنا اللواتي لا حول لهن ولا قوة، دون اعتبار بانتهاء عدة أو غيره، مع ما يستتبع ذلك من المضار النفسية والاجتماعية، وما يجره من تهديد الأمن الاجتماعي، وما يفرزه ذلك من أولاد الشوارع المساكين الذين لا يعرفون لهم نسبًا ولا آباءً، ليصبحوا بعد ذلك قنابل موقوتة تهدد الأمن والسلام الاجتماعيين.
وإذا كان العقلاء لا يختلفون في أن مثل هذا النمط من الزيجات هو ضرر محض على المستوى الفردي والاجتماعي، وأنه يفتقد أدنى معايير الكفاءة بل الكرامة الآدمية في الزواج، فإن في قواعد الشريعة الإسلامية وأحكامها ما هو كفيل بمنعه وردع مُمَارسه وتجريم الوساطة فيه، بل وإلغاء ولاية الأب على ابنته القاصر إذا زجَّ بها في هذا الحمأ من الاستغلال الجنسي والانتفاع المادي على حساب كرامتها وحقوقها.
فقد نصَّ الفقهاء على أن الكفاءة حقٌّ أصيل للمرأة، لا يجوز حملُها على إسقاطه ولا إكراهُها على التنازل عنه، ثم منهم مَن جعله شرطًا من شروط عقد الزواج، يكون باطلًا بدونه، ومنهم من يصححه ويجعل لها حق الفسخ إذا بلغت، أي أنهم متفقون على أنه شرط في الزواج، إما في انعقاده، أو في لزومه، فالعقد بدونه دائرٌ بين البطلان وقابلية الإبطال، وإذا كان بعض الفقهاء قد جعلوا السِّنَّ من خصال الكفاءة بين الزوجين، فلم يجعلوا الشيخ كفئًا للشابة، كما صححه الإمام الروياني من الشافعية.
قال العلامة الشهاب أحمد الرملي الشافعي: «قال الروياني: والشيخ لا يكون كفؤًا للشابة، والجاهل للعالمة، قال صاحب الروضة: وهو ضعيف، قال في الأنوار: وهذا التضعيف في الجاهل والعالمة ضعيف؛ لأن علم الآباء إذا كان شرفًا للأولاد فكيف بعلمهم، ولأن الحرفة ترعى في الزوجة مع أنها لا توازي العلم، وقد قطع بموافقة الروياني شارح مختصر الجويني وغيره، قال شيخنا: والمعتمد ما في الأنوار».
وهذا القول وإن كان المصحح عند الشافعية خلافه وخالفه الجمهور أيضًا، فإن مثل هذا النمط من زواج القاصرات لا يجوز أن يُختلَف في كونه منعدمَ الكفاءة جملةً وتفصيلًا، وإذا كان الشرع قد جعل للقاصر ذمةً ماليةً مستقلةً، وجعل تصرف الوصي في ماله منوطًا بالمصلحة بحيث لا يجوز التصرفُ في ماله إلا بما فيه المنفعة المحضة له، فإن اعتبار المصلحة في زواجه أشدُّ تأكدًا وأوجبُ شأنًا؛ لأن العرض أكرم من المال.
قال الإمام النووي الشافعي في «المنهاج»: «ويَجْرِي القولان في تزويج الأبِ بِكْرًا صغيرةً أو بالغةً غيرَ كُفْءٍ بغير رضاها، ففي الأظهرِ باطلٌ، وفي الآخر يصحُّ وللبالغة الخيارُ، وللصغيرةِ إذا بَلَغَتْ».
قال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي: «(ففي الأظهر) التَّزوِيجُ المَذكُورُ (باطلٌ) لأنه على خلاف الغِبْطَةِ؛ لأن وليَّ المال لا يصِحُّ تصرُّفُه بغيرِ الغِبْطَة، فوليُّ البُضعِ أوْلَى».
وإنما جعل الإسلامُ الأبَ أصيلًا في الولاية على بنته لأن داعيةَ الطبع التي جُبِلَ عليها تدعوه إلى الشفقة عليها، واختيار من يلائمها، وتدفعه للعمل على ما فيه مصلحتُها وأمنُها وسلامُها، فأما إذا كانت البنت قاصرًا فيرى بعض الفقهاء أنه لا يجوز تزويجُها، وهو قول الإمام عثمان البتي، حكاه عنه الإمام الكاساني الحنفي، وهو أيضًا قول الإمام ابن شبرمة وأبي بكر الأصم، حكاه عنهما الإمام أبو بكر الجصَّاص والإمام السرخسي، وحجتهم في ذلك قوله تعالى: {وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ}.. [النساء: 6]. «فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة، ولأن ثبوت الولاية على الصغيرة لحاجة المولى عليه، حتى إن فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات، ولا حاجة بهما إلى النكاح؛ لأن مقصود النكاح طبعًا هو قضاء الشهوة، وشرعًا النسل، والصغر ينافيهما، ثم هذا العقد يُعقَدُ للعمر وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ، فلا يكون لأحد أن يلزمهما ذلك؛ إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ».
وبهذا الرأي استأنس القانون المصري في تحديد سن الزواج، ومنع سماع الدعوى إذا لم تصل سن أحد الزوجين إلى القدر المحدد، ولكنه لم يمنع صحة الزواج، كما أشار إلى ذلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه.
وأجاز جمهور الفقهاء للأب -ولوصيِّه عند المالكية والحنابلة- تزويج بنته القاصر لكمال شفقته التي تدعوه إليها داعية الطبع. قال الإمام ابن عبد البر المالكي: «وللرجل أن يزوج ابنه الصغير على النظر له، وليس ذلك لغير الأب من الأولياء، وللوصي عند مالك من إنكاح الطفل على وجه النظر له مثل ما للأب».
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي: «لَيْسَ لِغَيْرِ الأَبِ أَوْ وَصِيِّهِ تَزْوِيجُ الْغُلامِ قَبْلَ بُلُوغِهِ».
وزاد الشافعية الجدَّ أيضًا لأنه أبٌ عند فَقْد الأب، ولكنهم لم يُجِيزوا ذلك لغيره من الأولياء.
قال الإمام الماوردي الشافعي: «فأما صغار الأبكار فللآباء إجبارهن على النكاح، فيزوج الأب ابنته البكر الصغيرة من غير أن يراعي فيه اختيارها، ويكون العقد لازمًا لها في صغرها وبعد كبرها، وكذلك الجد وإن علا يقوم في تزويج البكر الصغيرة مقام الأب إذا فُقِدَ الأب».
ووسَّع في ذلك الحنفيةُ فجعلوا ذلك للعصبات أيضًا، وسماها الفقهاء «ولاية الإجبار»، وأساس ثبوتها الشفقة الدافعة إلى الحرص على مصلحة المولى عليه، ورعاية أمره في حالة كونه قاصرًا وفي مستقبل حياته، وحسن الرأي وتخير أوجه النفع له، فإذا انعدم ذلك فلا ولاية له؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
أما الجمهور فإنهم اشترطوا في الولي العدالة؛ فلا تثبت الولاية عندهم للأب الفاسق، وقد قرروا أن تزويج البنت من غير كفء هو من علامات فسق الولي.
يقول العلامة البهوتي الحنبلي: «(ويَحْرُمُ) على ولي المرأة (تزويجُها بغير كفء بغير رضاها)؛ لأنه إضرارٌ بها وإدخالٌ للعار عليها، (ويفسق به) أي بتزويجها بغير كفء بلا رضاها (الولِيُّ)، قلتُ: إن تعمَّدَه».
وأما الحنفية فإنهم اشترطوا في صحة العقد في ولاية الإجبار أن يزوجها من كفء بمهر المثل، فإن زوَّجها من غير كفء أو بغير مهر لم يصح العقد؛ على اختلاف في عباراتهم بين قائل بالبطلان وقائل بالتفريق، وهذا كله إذا لم يُعرَف سوءُ اختيار الأب مجانةً أو فسقًا، فإن عُرِف لم يصح العقد إجماعًا.
جاء في «الفتاوى الهندية» في فقه السادة الحنفية: «ولو زوَّج ولده الصغير من غير كفء بأن زوَّج ابنه أمَةً أو ابنته عبدًا، أو زوَّج بغبن فاحش بأن زوَّج البنت ونقص من مهرها أو زوَّج ابنه وزاد على مهر امرأته جاز، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، كذا في «التبيين»، وعندهما لا تجوز الزيادة والحط إلا بما يتغابن الناس فيه، قال بعضهم: فأما أصل النكاح فصحيح، والأصح أن النكاح باطل عندهما، هكذا في «المضمرات». وأجمعوا على أنه لا يجوز ذلك من غير الأب والجد ولا من القاضي، كذا في فتاوى «قاضيخان». والخلاف فيما إذا لم يُعرَف سوءُ اختيار الأب مَجَانةً أو فسقًا، أما إذا عُرِف ذلك منه فالنكاح باطل إجماعًا».
ولا شك أن مثل هذه الطريقة في الزواج التي لا اعتبار للكفاءة فيها، بل المفتقرة لأدنى مؤشرات احترام الآدمية، هي من أدلِّ الشواهد على فسق الولي، وقد نص الفقهاء -كما سبق- على أن تزويج الأب بنتَه من غير كفء يجعله فاسقًا، والفاسق ساقط العدالة لا تجوز ولايته عند جمهور العلماء، فيكون معدومًا حكمًا؛ أي أن وجوده في عقد الزواج كعدمه، فتسقط ولايته بذلك عند الجمهور لفسقه، فيكون العقد باطلًا. وتسقط ولايته عند الحنفية أيضًا لوضوح المجانة والفسوق في اختياره؛ حيث تحوَّل من معنى الولاية -الثابتة له على أساس الشفقة الطبعية الدافعة إلى الحرص على مصلحة موليته ورعاية أمرها في صغرها ومستقبلها وحسن الرأي وتخير أوجه النفع لها- إلى إنسان جشع لا علاقة له بشيء من هذه المعاني، وانمحت منه عاطفة الأبوة، ليتحوَّل هو وأمُّها إلى آلة صمَّاء هَمُّها جمعُ المال على حساب كرامة بنتهما وأمنها من غير أن يقيما وزنًا لمصلحةٍ ولا دينٍ ولا خلقٍ ولا عرفٍ، بل لم يَقُمْ أحدٌ منهما باختيارٍ أصلًا؛ وإنما عرضا بنتهما كالأمة أو كالسلعة التي تُباع وتُشتَرَى على ذلك الرجل ضمن الفتيات اللاتي عُرِضْنَ عليه، وأقرَّا بزواجها على هذا النحو المهين، مع علمهما بكل هذه المحاذير والمخاطر التي تكتنف ذلك، وزادا على ذلك أن أعرضا عن نصرة بنتهما في استنصارها إياهما واستغاثتها بهما من سوء المعاملة الجنسية التي تَلْقاها ممن ابتلياها به، بل وتهدد من أجلها بالانتحار، فقد تخلف عن وليِّها الوصفُ الذي مِن أجله أقامه الشرع وليًّا.
وبناءً على ذلك: فإنا نختار -والحالة كما شرحنا- من مذاهب الأئمة التي تؤكد أننا نميل إلى بطلان هذا النمط من عقود الزواج لعدم توافر الشروط والأركان الحقيقية للزواج؛ حيث لا يَزُجُّ بابنته في مثل هذه المسالك إلا فاسقٌ ظاهرُ المجانةِ ساقطُ العدالةِ، فهو زواجٌ من غير ولي مُعْتَدٍّ به شرعًا، فيكون باطلًا. كما نميل إلى اعتبار هذه الوقائع لمآلاتها استغلالًا جنسيًّا ينبغي أن يعاقَب عليه فاعلُه والوالدان والوسيط وكل من سهله أو سعى في إتمامه على هذا النحو الذي لا يرضاه الله ولا رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا المؤمنون.
والله سبحانه وتعالى أعلم
اشترك في خدمة مصراوي للرسائل الدينية القصيرة.. للاشتراك ... أضغط هنا
فيديو قد يعجبك: