محمد المراغي.. شيخ الأزهر المستنير
كتب- محمد مهدي:
الشمس تنسحب من السماء رويدا رويدا، القمر يبسط سطوته على الأرض ويُقر حلول الليل، الأصوات تخفت بمركز مراغة بمحافظة سوهاج، كاد يوم التاسع من مارس 1881 أن ينتهي بصورة تقليدية، لكن ثمة صرخات شقت طريقها نحو الفضاء من أحد المنازل، مُعلنة عن خبر كسر حدة ملل اليوم، وهو ميلاد طفلا بمنزل مصطفى بن محمد بن عبدالمنعم المراغي، لتدب الحركة في الشوارع مرة أخرى، ويُصبح منزله محط اهتمام الجميع، يأتون إليه للمساعدة والمباركة وتمنيات بأن يُصبح المولود خير ذرية، وربما دعى أحد الحضور أن يصير الطفل يوما ما شيخًا للأزهر، دون أن يشعر أن السماء تتلقف في تلك اللحظة دعوته بعناية بالغة.
في أيامه الأولى كضيفا جديدا على الحياة، كان والد الشيخ "محمد المراغي" منشغلًا بكيفية تنشئة ابنه على النهج الصحيح للدين، متخوفًا من صعوبة الأحوال في تلك الفترة بداخل البلاد التي تموج باضطرابات سرعان ما طفحت على السطح في سبتمبر من نفس العام لتندلع الثورة العرابية بقيادة "أحمد عرابي"، لذا قرر أن يدفع ابنه إلى حفظ القرآن في سن مُبكر، وتعليمه قدرا كبير مما يتحمله عقل الطفل من فروع الدين المختلفة.
أنهال والد الشيخ "محمد المراغي" سيل من المديح في نجلة خلال الجلسات الودية، عن خُلقه وعلمه وسرعة حفظه للقرآن، فقرر أن يبعث به إلى القاهرة لينهل من علم شيوخ الأزهر الشريف، ويسير على درب كان يتمناه منذ قدومه إلى الحياة، وبالفعل يصل "المراغي" بجسده النحيل وأحلامه الكبيرة إلى العاصمة، ينخرط في دراسته، ليصبح تلميذا نجيبا لدى أكبر شيوخ الأزهر من أهمهم الشيخ "علي الصالحي".
تطورا ملحوظ يظهر في شخصية "المراغي"، بعد اتصاله بالإمام الكبير "محمد عبده" واعجابه بأفكاره، والتواجد في محاضراته، والتزود من أطروحاته الاصلاحية والوطنية، فضلًا عن انغماسه في دراسته ونبوغه في تحصيل العلم، ليتقدم في 26 مايو من عام 1904 لامتحان العالمية ويحصل على شهادتها قبل بلوغ سنه الربع قرن بعام، ليُصبح أصغر من وصلوا لتلك الدرجة من طلاب الأزهر الشريف، وينتقل بعدها إلى دربا أخر من دروب الأزهر وهو التدريس لبضعة شهور قبل أن يُعين قاضيًا بالسودان بترشيح من الإمام "محمد عبده".
في 1907 تقدم "المراغي" باستقالته وعاد إلى مصر بعد اختلافه مع قاضي القضاة في السودان، وعُين مفتشا للدروس الدينية بديوان عموم وزارة الأوقاف، قبل أن يعود مرة أخرى للعمل بالسودان في أغسطس 1908 بعد وصول طلب من الحكومة السودانية إليه بأن يوافق على منصب قاضي القضاة، ومع بداية حلول ثورة جديدة في مصر في 1919، كان "المراغي" داعمًا لها ولقائدها "سعد زغلول"، وقام بجمع توقيعات له، فقرر حكام الإنجليز بالسودان بعد مشاورات كادت أن تُلقي به بداخل غيباهب السجون، أن يُمنح إجازة غير محددة أعادته إلى مصر.
تدرج "المراغي" بعد ترك عمله في السودان، في العمل القضائي بمصر، فتولى منصب رئيس التفتيش الشرعي بوزارة الحقانية (العدل) في أكتوبر 1919 ثم رئيس محكمة مصر الكلية الشرعية في يوليو 1920، وعضو بالمحكمة العليا الشرعية في يناير 1921، ورئيسا للمحكمة في ديسمبر 1923، وأنشغل أثنائها بإصلاح وزارة الحقانية، وتعديل الكثير من المسارات الخاطئة بداخلها.
"ماء نار" على جسده كانت ثمنا لرفضه الرشوة في قضية كبيرة كان يتولى أمرها أثناء عمله رئيسا للمحكمة العليا الشرعية، حيث قام شاب بإلقائه عليه لإرهابه، كادت أن تقضي عليه إلا أن القدر كان رحيما به فلم تصب إلا أجزاء بسيطة من جسده، وتم القبض على المجرم والمحرضين على الحادث، وحُكم عليهم بالسجن أربع سنوات.
الخطوة الأهم في تاريخ الشيخ "المراغي" هو توليه مشيخة الأزهر في مايو 1928، رَتب البيت من الداخل، وأخذ على عاتقه أن يُعيد الأزهر الشريف إلى مجده، فطرح أفكار اصلاحية، ونقح قوانين ومناهج، ووضع خطة لإنشاء 3 كليات عليا تتخصص في العلوم العربية، وعلوم الشريعة، وأصول الدين، وظهر في الأفق بوادر تجديد في المشيخة وتطور للأفضل إلا أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، حيث واجه صعوبات عدة، فوجد نفسه مكبلًا لا يملك من أمره شيئا، فتقدم باستقالته من منصبه في أكتوبر 1929.
5 سنوات وبضعة أشهر قضاها الرجل بعيدًا عن بيته-الأزهر- أنشغل فيها بالبحث والدراسة والتأليف، قبل أن يُعين من جديد بالأزهر الشريف ليقود الدفة نحو الأمام في عام 1935 بعد تظاهرات عارمة من علماء وطلاب الأزهر تطالب بعودته باعتباره رمزا للإصلاح بداخل المشيخة، ليبدأ عهدا جديدا من التطوير فقام بعدة تعديلات منها إلغاء بعض القوانين الصادرة في عهد شيوخ آخرين، وتحديد مهمة الأزهر بأنه المعهد العلمي الإسلامي الأكبر، يهدف إلى حفظ الشريعة وتخريج علماء موكل لهم تعليم علوم الدين واللغة، وحدد التعليم بداخل الأزهر على 4 مراحل هي الابتدائية والثانوية والكليات والعالمية.
قام الشيخ "المراغي" بإنشاء لجنة الفتوى في أغسطس 1935 معنية بالإجابة على الأسئلة التي تتلقاها من المؤسسات والأفراد وفقا لما تقضيه عليه القواعد المستمدة من الكتاب والسنة، فضلا عن إنشاء قسم الوعظ والارشاد لنشر الثقافة الإسلامية في الأقاليم، وإدخال تطوير في هيئة كبار العلماء، وأثناء عمله دخل الشيخ في صراع مع الملك فاروق الذي طلب منه اصدار فتوى تمنع زوجته الأولى من الزواج بعدما طلقها، لكن "المراغي" رفض، مسببًا أزمة كبيرة بينه وبين الملك.
القمر يلملم نجومه، الشمس تبزغ في السماء، تُنير الأنحاء، تُعلن بداية يوم 20 أغسطس من عام 1945، الذي قُدر فيه أن تنسحب روح الشيخ "المراغي" منه، وتعود إلى بارئها، بعد معاناته من مرض ألم به في الشهور الأخيرة، تاركًا تاريخا ينضح بالعلم والمعرفة والسمعة الطيبة، واصلاحات هامة بداخل الأزهر الشريف، ومؤلفات صارت تُدرس منها "الأولياء والمحجورون"، ورسالة "الزمالة الإنسانية" وبحث في وجوب ترجمة القرآن الكريم، وتفسير لعدد من السور القرآنية.
فيديو قد يعجبك: