إعلان

العز بن عبد السلام .. سلطان العلماء وبائع السلاطين

03:48 م الأحد 24 أغسطس 2014

العز بن عبد السلام .. سلطان العلماء وبائع السلاطين

بقلم – هاني ضوَّه :

هو بحق سلطان العلماء.. هكذا سموه لغزاره علمه وشده ورعه وتقواه وكان لا يتورع عن قول الحق في حضرة الملوك والسلاطين، فاستحق بذلك أن يكون سلطانًا للعلماء وبائعًا للسلاطين.

إنه الإمام العز بن عبدالسلام الذي عاش في الشام ثم في مصر، وعايش دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين، وكانت دولة قوية، ولكن في آخر عصرها تنافس أمراؤها على الملك، وأصبح بعضهم يقاتل بعضًا، حتى لجأ بعضهم إلى التحالف مع الصليبيين النصارى من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه.

كان العز بن عبدالسلام يعيش في أسرة فقيرة في دمشق التي كانت وقتئذ مركز للعلم والمعرفة وقبلة للعلماء والفقهاء، وقد انشغلت أسرته بطلب الرزق عن طلب العلم، إلا أن العز بن عبدالسلام كان منذ نشأته متدينًا محبًا للعلم متعبدًا رغم فقره وكده على رزقه، ولا أدل على ذلك من مبيته في المسجد الليالي الطوال ينتظر الصلاة؛ كي لا تفوته الجماعة، أو يغيب عن الصلاة والعبادة فيه.

وتفقه العز بن عبدالسلام على أكابر علماء الشام، فبرع في الفقه والأصول والتفسير واللغة العربية، حتى انتهت إليه رياسة المذهب الشافعي، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصد بالفتاوى من كل مكان.. فاستحق لقب "سلطان العلماء" كما أطلقه عليه تلميذه ابن دقيق العيد.

عمر هذا الشيخ الجليل ثلاثا وثمانين سنة.. وكان قد تفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر.. وقرأ الأصول على الشيخ سيف الدين الآمدى ، وغيره ،وسمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم ابن عساكر ، وشيخ الشيوخ عبد اللطيف البغدادي وغيرهم.

وسلك الإمام العز بن عبدالسلام طريق التصوف السني، وكان في البداية منكرًا للتصوف إلا أنه بعد أن التقى بالإمام الولي سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله، سلك التصوف وبدأ يحضر دروسه، وكان قد توجه إلى منزل سيدي الشاذلي ودخل عليه وشرع يسأله عن أسئلة دقيقة في علم التوحيد فيشير سيدي الشاذلي قدس سره إلى أصغر تلامذته ليجيبوه، وهكذا حتى سأل العز عن مسألة فتكلم سيدي الشاذلي بالمعارف والأذواق فأذعن الإمام ابن عبد السلام وجلس بين يدي سيدي الشاذلي متأدباً. وقال له: "والله لقد تبت يا سيدي"، وأنكب على يديه يقبلهما.

وهكذا أصبح الإمام العز ابن عبد السلام يتردد على مجلس سيدي الإمام الشاذلي، متخفياً بزي إعرابي مرة، وبزي مزارع مرة أخرى، حتى حضر مجلساً له، وكان العز بن عبد السلام ملثماً: فتكلم الإمام الشاذلي مرة بشرح به الرسالة القشيرية، فعندها قام العز بن عبد السلام وكشف لثامه وأصبح يجري في صحن الجامع قائلاً: "اسمعوا هذا الكلام الغريب العجيب القريب العهد من الله". ومن ذلك الوقت سلك سيدي ابن عبد السلام الطريق على يد الإمام أبو الحسن الشاذلي.

وبعد أن اكتملت ثقافته اتجه إلى التدريس والافتاء والتأليف، وتولى المناصب العامة في القضاء والخطابة في مساجد دمشق، ثم في القاهرة بعد أن هاجر إليها بعد أن تجاوز الستين من عمره،  وقد سبقته شهرته العلمية وغيرتُه الدينية وعظمته الخلُقية- فاستقبله سلطانها نجم الدين أيوب وأكرمه وولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص، وقلّده القضاء في مصر.

والتف حوله علماء مصر وعرفوا قدره، وبالغوا في احترامه.. فامتنع عالم مصر الجليل الشيخ زكي الدين المنذري عن الإفتاء بحضوره احتراماً له وتقديراً لعلمه، فقال: "كنا نفتي قبل حضوره، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعيّن فيه".

لم يكن العز بن عبدالسلام يتورع في أن يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر، وكان لا يخشى في الله لومة لائم، فعندما كان في الشام كان يحكمها الملك الأشرف موسى ومن بعده الملك الصالح عماد الدين إسماعيل من بني أيّوب، وحدث أن قاتل الملك الصالح ابن أخيه نجم الدين أيوب، حاكم مصر آنذاك، لانتزاع السلطة منه، مما أدّى بالصالح إسماعيل إلى موالاة الصليبين، فأعطاهم حصن صفد والشقيف وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والتزوّد بالطعام وغيره.

فاستنكر العزّ بن عبد السلام ذلك وصعد المنبر وخطب في الناس خطبة عصماء، فأفتى بحُرمة بيع السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصلح معهم، وقال في آخر خطبته «اللهم أبرم أمرا رشدا لهذه الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك»، فاعتبِر الملك ذلك عصيانا وشقّا لعصا طاعته، فغضب علي العزّ وسجنه. فلما تأثّر الناس، واضطرب أمرهم، أخرجه الملك من سجنه وأمر بإبعاده عن الخطابة في الجوامع. فترك العزّ الشام وسافر إلى مصر.

وصل العزّ بن عبد السلام إلى مصر سنة 639هـ وكان عمره حينها ستين عامًا، فرحّب به الملك الصالح نجم الدين أيوب وولاّه الخطابة والقضاء، مع ذلك عندما حاول الملك التدخل في القضاء طالبه بعدم الاقتراب من القضاء لأنه ليس من شأن السلطان، وعندما لم يستجب له قام العز بن عبدالسلام فجمع أمتعته ووضعها علي حماره ثم قال: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) ويقال أنّه تجمّع أهل مصر حوله، واستعدّ العلماء والصلحاء للرحيل معه، فخرج الملك الصالح يترضّاه، وطلب منه أن يعود وينفذ حكم الشرع.

ومن شجاعته ما حكاه تلميذه الإمام علاء الدين أبو الحسن الباجى.. حيث قال: " طلع شيخنا ، عز الدين مرة إلى السلطان (نجم الدين أيوب) ، في يوم عيد إلى القلعة.. فشاهد العساكر مصطفين بين يديه ، ومجلس المملكة ، وما السلطان في يوم العيد من الأبهة ، وقد خرج على قومه فى زينته.. وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان.. فالتفت الشيخ إلى السلطان ، وناداه: " يا أيوب : ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملك مصر  ثم تبيح الخمور؟!، فقال : هل جرى هذا؟, فقال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة.. فقال أيوب: - وكان سلطانا قويا مهابا - : يا سيدي ، هذا أنا ما عملته, هذا من زمان أبي.. فقال: أنت من الذين يقولون: " إنا وجدنا آباءنا على أمة ", فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة ثم سأل الباجى أستاذه العز عن ذلك الموقف، فقال : " يا بني رأيته فى تلك العظمة ، فأردت أن أهينه ، لئلا تكبر نفسه فتؤذيه.. فقال: يا سيدي، أما خفته ؟, فقال العز: والله يا بنى استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان قدامى كالقط.

وبعد وصول قطز لحكم في مصر، وظهور خطر التتار ووصول أخبار فظائعهم، عمل العزّ على تحريض الحاكم واستنفاره لملاقاة التتار الزاحفين. ولما أمر قطز بجمع الأموال من الرّعية للإعداد للحرب، وقف العزّ بن عبد السلام في وجهه، وطالبه ألا يؤخذ شيئا من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم المقادير التي تتناسب مع غناهم حتى يتساوى الجميع في الأنفاق، فنزل قطز على حكم العزّ بن عبد السلام.

توفى سلطان العلماء العز بن عبدالسلام في جمادى الأولى سنة 660 هـ، ودفن بالقرافة الكبرى، ويقع ضريحه بسفح المقطم بمنطقة البساتين بالقاهرة، بالقرب من جبانة التونسى، ولكن للأسف يعاني ضريحه من الإهمال والتهدم بسبب عدم الاعتناء به.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان