إعلان

جمع بين علوم الشريعة وتزكية النفس.. إبراهيم الدسوقي قطب الزمان ونبراس الحقيقة

12:20 م الخميس 25 أكتوبر 2018

كتب - هاني ضوه :

منّ الله به على مصر وحباها بوجود الكثير من الأئمة والأولياء الصالحين الذي ينتشرون في بقاعها عبر التاريخ، فأصبحت المناطق التي سكنوها في حياتهم قبلة لطلبة العلم والمريدين في حياتهم وبعد مماتهم نظرًا لمكانتهم الكبيرة.

واليوم يسرد مصراوي قصة واحدٍ من العلماء الذين شهد لهم القاصي والداني بالولاية والصلاح، إنه الإمام إبراهيم الدسوقي القرشي رضي الله عنه وأرضاه .. قطب زمانه الذي جمع بين علوم الشريعة الإسلامية بكافة فروعها، وعلوم الحقيقة التي تهتم بتزكية النفس وتهذيبها وتصفيتها لترتقي وتتخلص من علائق الدنيا فتسمو إلى الغاية العظمى وهي رضا الله عز وجل ومحبته.

دُفن سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه بمدينة دسوق محل مولده، والتي لم يغادرها في حياته إلا مراتٍ معدودة. وأقام أهل المدينة بعد ذلك على ضريحه زاوية صغيرة، وتوسعت شيئاً فشيئاً فتحولت الزاوية إلى مسجد من أكبر مساجد مصر، والذي يُعرف حالياً بمسجد سيدي إبراهيم الدسوقي أو اختصاراً المسجد الإبراهيمي، ويقيم له مؤيدون وأتباعه ما يُعرف بمولد سيدي إبراهيم الدسوقي، كل عام خلال الفترة من 19 إلى 26 أكتوبر.

وقد تحدثت الدكتور سعاد ماهر في كتابها "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" عن مسجد ومقام سيدي إبراهيم الدسوقي، والذي يعد واحدًا من أهم معالم ومساجد مدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ، والذي بني في عهد الأشرف خليل بن قلاوون سلطان مصر في ذلك الوقت فكان عباره عن زاوية صغيرة يجاورها خلوة للإمام والولي الصالح سيدي إبراهيم الدسوقي الذي زاره قلاوون وأمر ببناء هذه الزاوية والخلوة، وبعد وفاة الإمام إبراهيم الدسوقي دفن في خلوته الملاصقة للمسجد.

وللإمام إبراهيم الدسوقي أقوال وإرشادات كثيرة وجهها لمريديه لتكون نبراسًا لهم في طريقهم إلى الله عز وجل، وكان يأخذ العهد على المريد، فيقول له: "يا فلان اسلك طريق النسك على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، وعلى أن تتبع جميع الأوامر الشرعية، والأخبار المرضية، والاحتفال بطاعة الله عز وجل قولًا وفعلًا واعتقادًا، وأن لا تنظر يا ولدي إلى زخارف الدنيا ومطاياها وقماشها ورياشها وحظوظها، واتبع نبيك في أخلاقه، فإن لم تستطع فاتبع خُلُق شيخك، فإن نزلت عن ذلك هلكت، واعلم يا ولدي أن التوبة ما هي بكتابة درج ورق ولا كلام من غير عمل، إنما بالتوبة العزمُ على ارتكاب ما الموتُ دونه، فصف أقدامك يا ولدي في حندس الليل البهيم، ولا تكن ممن يشتغل بالبطالة ويزعم أنه من أهل الطريق".

وكان يقول قدس الله سره ورضي عنه: "من لم يحبس نفسه في قعر الشريعة، ويختم عليها بخاتم الحقيقة لا يقتدى به في الطريقة"، ويقول: "الشريعة كالشجرة والحقيقة ثمرتها فلا بد لكل واحد من الأخرى، ولكن لا يدرك ذلك إلا من كمل سلوكه في طريق القوم".

وكان يقول أيضا: "من عرف الله وعبده فقد أدرك الشريعة والحقيقة، فاحكموا الحقيقة والشريعة ولا تفرطوا إن أردتم أن يُقتدى بكم، ولم يكن اسم الحقيقة إلا لأنها تحقق الأمور بالأعمال، ومن بحر الشريعة تنتج الحقائق".

ومن أقواله: "من لم يكن عنده شفقة ورحمة على خلق الله لا يرقى مراقي أهل الله".

وكان سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه يحث مريديه على الاجتهاد في الطاعة والإقبال على الله والتوبة النصوح فيقول لهم: "أقبلوا على الله تعالى فإنه كريم ما أقبل مقبل عليه إلا وجد كل خير لديه، ولا أعرض معرض عن طاعته إلا وتعثر في ثوب غفلته، يقول تعالى في حديثه القدسى (من أتاني ماشيًا أتيته هرولة، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا .. إن الحسنات يذهبن السيئات، وذلك ذكرى للذاكرين إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) من تاب إلى الله صالحه وغفر له وعفا عنه وأنعم عليه حتى لم يكن كأنه أذنب قط".

مولده ونشأته

كان سيدي إبراهيم الدسوقي عالمًا ربانيًا قل نظيره في عصره، وكتب له العناية الإلهية منذ صغره فظهرت عليه علامات الولاية والصلاح، وذكر من ترجم له من العلماء مثل الإمام عبدالوهاب الشعراني في كتابه "الطبقات الكبرى" والشيخ أبو بكر الأنصاري في كتابه "عقود اللآلئ" أن سيدي إبراهيم الدسوقي ولد رضي الله عنه في 29 من شهر شعبان عام 633 هجريًا على أرجح الأقوال من أبوين ينتميان إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأبوه هو السيد عبد العزيز أبو المجد الذي ينتهي نسبه إلى الإمام الحسين رضي الله عنه، وأمه السيدة فاطمة بنت سيدي أبو الفتح الواسطي الذي كان من أجَّل أصحاب سيدي الإمام أحمد الرفاعي رضى الله عنه، كما أنه من شيوخ سيدي الإمام أبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه، والذي ينتهي نسبه إلى الإمام الحسن بين علي رضي الله عنه وعن آل البيت أجمعين.

ومنذ نعومة أظافره نشأ سيدي إبراهيم الدسوقي على طاعة الله في بيت يملؤه الإيمان والصلاح فأتم حفظ كتاب الله وهو في سن السابعة، ثم درس العلوم الشرعية المختلفة من توحيد وفقه وتفسير وبلاغة وأدب حتى أتقن علوم الشريعة فتفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأصبح أحد كبار علماء الأمة.

لُقِبَّ بـ "أبي العينين"

ودرس سيدي إبراهيم الدسوقي علوم التصوف والأخلاق تزكية النفس وتبحر فيها حتى صار عينًا من علوم الحقيقة وعينًا من علوم الشريعة، ولذا لُقِبَّ بـ "أبي العينين" وصار قطب زمانه، ولم يمنعه طلب العلم وتعليم المريدين عن العمل لكسب الرزق، فكان يعمل في صناعة الفخار والحصير والزراعة ليكسب قوت يومه، ليس ذلك فحسب بل كان مجاهدًا في سبيل الله فشارك في فتح عكا مع جيش المسلمين التي عسكر فيها الصليبيون.

وقد وصفه العارف بالله العلامة الشيخ أبو بكر الأنصاري (قدس الله سره) في كتابه "عقود اللآلئ" عند الترجمة له فقال: "له المنهاج الأرفع في المعالي، والقدم الراسخ في أحوال النهايات، واليد البيضاء في علم الموارد، والباع الطويل في التصرف النافذ، والكشف الخارق عن حقائق الآيات، والفتح المضاعف في المشاهدات، وهو أحد من أظهره الله إلى الوجود، وأبرزه رحمة للخلق، وأوقع له القبول التام عند الخاص والعام، وصرَّفه في العالم، ومكنه في أحكام الولاية، وقلب له الأعيان، وخرق له العادات، وأنطقه بالمغيبات، وأظهر على يديه العجائب، وصومه في المهد".

ووصفه سيدي الإمام عبد الوهاب الشعراني رضى الله عنه في ترجمته لمناقب سيدى إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه في "كتابه الطبقات الكبرى" فقال: "تفقه على مذهب الإمام الشـافعي رضي الله عنه ثم اقتفى آثار السـادة الصـوفية، وجلس في مرتبة الشيخوخة وحمل الراية البيضاء، وعاش من العمـر ثلاثاً وأربعين سـنة، ولم يغفل قط عن المجاهدة للنفس، والهوى، والشيطان حتى مات سنة ست وسبعين وستمائة رضي الله تعالى عنه، وهو من أجلاء مشايخ الفقراء أصحاب الخرق، وكان من صدور المقربين.

كرامات الإمام الدسوقي

وكان صاحب كرامات ظاهرة ومقامات فاخرة، ومآثر ظاهرة، وبصائر باهرة، وأحوال خارقة، وأنفاس صادقة، وهمم عالية، ورتب سنية ومناظر بهية، وإشارات نورانية، ونفحات روحانية، وأسرار ملكوتية، ومحاضرات قدسية له المعراج الأعلى في المعارف، والمنهاج الأسنى في الحقائق، والطور الأرفع في المعالي، والقدم الراسخ في أحوال النهايات، واليد البيضاء في علوم الموارد، والباع الطويل في التصريف النافذ، والكشف الخارق عن حقائق الآيات، والفتـح المضاعف في معنى المشاهدات، وهو أحد من أظهره الله عز وجل إلى الوجود وأبرزه رحمة للخلق، وأوقع له القبول التام عند الخاص، والعام، وصرفه في العالم، ومكنه في أحكام الولاية، وقلب له الأعيان، وخرق له العادات، وأنطقه بالمغيبات، وأظهر على يديه العجائب، وصومه في المهد رضي الله عنه، وله كلام كثير عال على لسان أهل الطريق".

كان سيدي إبراهيم الدسوقي حريصًا أشد الحرص على تربية مريديه وحثهم على التمسك بالشريعة من كتاب وسنة، فكان يقول رضي الله عنه وقدس سره: "من لم يكن متشرعًا بتحققًا نظيفًا عفيفًا شريفًا فليس من أولادي، ولو كان ابني لصلبي، وكل من كان من المريدين ملازمًا للشـريعة والحقيقة، والطـريقة، والديانة، والصيانة، والزهد، والورع، وقلة الطمع فهو، ولدي، وإن كان من أقصى البلاد".

وقال كذلك رضي الله عنه مؤكدًا على أهمية تعلم علوم الشريعة: "يجب على المريد أن يأخذ من العلم ما يجب عليه في تأديته فرضه، ونفله، ولا يشتغل بالفصـاحة، والبلاغة فإن ذلك شــغل له عن مراده بل يفحص عن آثار الصالحين في العمل، ويواظب على الذكـر".

وفاته ساجداً

وكان رضي الله عنه يقول: لا يكمل الفقير حتى يكون محباً لجميع الناس مشفقاً عليهم سـاتراً لعوراتهم فإن ادعى الكمـال، وهو على خلاف ما ذكرناه فهو كاذب.

لم يترك سيدي إبراهيم الدسوقي الكثير من المؤلفات والكتب، وذلك بسبب انشغاله بتربية المريدين، وقد فقدت معظم كتبه وضاعت، وعلى حسب استنباط شيوخ الصوفية كالكركي والمناوي والبقاعي، تم إلمام بعض أسماء مؤلفاته التي نسبت إليه.

وذكر في ترجمته كذلك عند الإمام الشعراني وغيره أنه لما شعر سيدي إبراهيم الدسوقي بدنو أجله، أرسل نقيبه إلى أخيه سيدي أبى العمران شرف الدين موسى، الذي كان يقطن جامع الفيلة بالقاهرة. فأمره أن يبلغه السلام، ويسأله أن يطهّر باطنه قبل ظاهره.

وذهب النقيب إلى أخيه، ودخل عليه المسجد وهو يقرأ على طلابه كتاب الطهارة. فأخبره النقيب برسالة أخيه سيدي إبراهيم، فلما سمعها، طوى الكتاب وسافر إلى دسوق. فلما وصل وجد سيدي إبراهيم الدسوقي قد تُوفي وهو ساجد، وكان ذلك عام 696 هـ الموافق 1296م على أرجح الأقوال، أي توفي وله من العمر 43 عاماً.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان