أين ذهب الطيبون؟!
يتغير الزمان وتتغير نفوس البشر، قول درج على الألسنة وتداوله الناس؛ لأنهم ما فتئوا يربطون بين دورة الزمان وتبدل الأحوال، والواقع أن التغير حاصل من جهة البشر والزمن وعاء يصطبغ بأحوالهم، فإذا كانت نفوسهم في إقبال على الخير وإدبار عن الشر كان الزمان على تلك الهيئة، وإن تبدل حال الناس تبدلت هيئة الزمان؛ لذا لاتزال حاجة الخلق إلى الإصلاح قائمة، وهو لا يتحقق إلا بأصحاب الأنفس النقية والقلوب الطاهرة، الذين يهبون أنفسهم لتلك القضية ويتحملون عبء إصلاح ما أفسده الآخرون، وهم لا يملون ولا ييأسون من القيام بهذه المهمة السامية، بل يكون امتثالا لقول الله -عز وجل- :﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
والسالكون لهذه السبيل قلة، فهي طريق تحتاج إلى طول المجاهدة وتجشم المشاق، وهم رغم قلتهم تظهر آثارهم وتبقى معالمهم، ويخلد ذكرهم، ولا يزال الناس في حديث عن مآثرهم باحثين عنهم، فأين ذهب الطيبون ؟
إن الطيبين بيننا ولكنهم يتوارون عن الأنظار في حمى عزلتهم، قد أعيتهم الحيلة في بعث كل فضيلة، وإماتة كل رزيلة، ورغم هذا لم تزل الآمال معقودة عليهم والرغبة جديدة جدة الليل والنهار، ومها طال بنا الانتظارفلن يصيبنا يأس؛ استبشارًا بقول رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ الله بِه خَيرًا يفُّقهه ُ فِي الدِّينِ، وَإِنّما أَناَ قَاسِمٌ وَالله يعُطِي، وَلَنْ تزَالَ هذِهِ الْأُمةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ الله لَا يَضُرُّهمْ مَنْ خالَفَهُمْ، حَتَّى يأتي أمر الله" فالخير في أمته -صلى الله عليه وسلم – قائم إلى إن تقوم الساعة.
ومن ثم لن يكون ذكر الطيبين وزمانهم الجميل غابرًا، ولن نفقد الطيبة التي تُفعِم أرواحنا بالسعادة والبهجة، وستطرق مسامعنا كلمات هؤلاء الطيبين، وسوف نشعر بسماحتهم، وهم المتسامحون مع أنفسهم أولأً ثم مع الآخرين.
وقد وردت كلمة "طيب" في القرآن الكريم في أكثر من موضع، وقد ذكر سبحانه وصف " الطيبين والطيبات " في سورة النور فقال - جل ذكره -: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾
اختلف المفسرون في تفسيرها على عدة أقوال وإن كانت متقاربة وتخرج من مشكاة واحدة،
من هذه المعاني : الطيبون من الناس للطيبات من الكلام فالكلام وصف لصاحبه أي أن القول الطيب لا يخرج إلا من الرجال والنساء الطيبين، وقيل معناه أن الطيبين لايصدر عنهم إلاّ الأعمال الطيبات والأخلاق الكريمة فالطيبون من الناس للطيبات من الحسنات.
والِطيبة هي نوع من السلوك الكريم اتجاه الناس، من حيث معاملتهم بشكل جيد والكرم نحوهم، والقلق عليهم من دون انتظار مكافئة منهم، وهي تعرف بكونها أكبر الفضائل عند العديد من الأديان، وقد قام أرسطوا في مؤلفه "الخطابة" بتعريف الطيبة بكونها السلوك المساعد للآخرين من دون تلقي مردود منهم، وعرفت الطيبة أيضًا بكونها أحد فضائل الشهامة والمروءة عند الرجال.
ومادة "طيب " وعاء غني بالمعاني تتنوع استخداماته واستعمالاته ؛
فالطَيب: الجيد الخالص،
وإخراج الطيب من المال: التصدق بالحلال،
وتطّيب : أي وضع الطيب وكل ماله رائحة طيبة على ثيابه أو بدنه،
وصعيد طيّب : أي تراب طاهر،
وطيّب الله ثراه: أي جعل الأرض التي دفن فيها طيبة حانية عليه.
هكذا الحال.. مصطلح رائع ومشتقاته أروع، وهكذا هم الطيبون الرائعون، خلقهم الله لمساعدة الآخرين، وتقديم يد العون، متسامحون لأبعد الدرجات، ستجدهم في أماكن العمل هم أصحاب الابتسامة الراقية والدعم النفسي والمادي للجميع، ينشرون الطمأنينة أينما حلو، وستجدهم في أروقة المساجد، وفي الطرقات يبعثون الأمل، ويهدون السعادة للآخرين متمنين الخير للجميع.
دائما ما كنت أبحث عن هؤلاء الطيبين وإذما أجدهم أتنفس الصعداء - فروحي تشبه أرواحهم في صفائها ونقائها- وأتيقن وقتئذ أن الأمور ستكون على أحسن ما يرام.
فنحن نفتقدهم كثيرا هذه الأيام ...
كان لقائهم بالأمس يسيرًا أما الآن فقد انقلب الحال، وتبدلت الأمور، وصاروا عملة نادرة، وأصبحنا نبحث عنهم ونرجوا ألّا تكون طيبتهم قد تبدلت، واندثرت ابتسامتهم، وقصرت أيديهم الحانية، فنحن ننتظرهم على بوابات الأمل هربًا من المخادعين والمنافقين، لعلهم يخففون عنا الآلام، ويهونون لنا مصاعب الحيا ة، ويحيلون قساوة القلوب لينا، ويأخذون بأيدينا إلى عالم من الأخلاق الفاضلة والقيم السامية، ومن يجد الطيبين فليرفق بهم أيضًا فلربما أرهقتهم الحياة وكسرهم ظلم البشر.
فيديو قد يعجبك: