إعلان

مفتي الجمهورية يكتب: من خصائص الخطاب الديني .. مراعاة فقه الواقع«2»

04:12 م الأحد 27 أبريل 2014

2013-635222239245871948-587

لقد راعى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة من سيرته العطرة فقه الواقع، وحفلت السيرة النبوية بهذا الفقه المستمد من الوحي الإلهي، والذي حمى دعوةً ناشئة لم تلبث أن ملأ هديُها الدنيا بأسرها.

ولقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم أذى المشركين في بداية الدعوة بالصبر والمثابرة والاحتساب لله تعالى، ولم يحمله هذا الجور والأذى من هؤلاء على أن يرد عليهم بمثل أذاهم له؛ لأن المرحلة التي كانت تستمد خارطتها من الوحي الإلهي تقتضي منه فقط الصدع بالحق دون أية مواجهة صدامية، وهو وصحابته آنذاك مستضعفون في الأرض، لكنَّ حكمته صلى الله عليه وسلم راعت فقه الواقع لأجل الحفاظ على هذه النواة المؤمنة، وعلى مستقبل الدعوة في بدايتها، فقال: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".

ثم يعطينا النبي درسًا آخر في مراعاته لفقه الواقع حينما أمر أصحابه بالهجرة إلى أرض الحبشة وقوله لهم: "إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه" فاختياره كان لدفع الضر عن هؤلاء المؤمنين، على الرغم من أن أهلها يدينون بدين غير الإسلام، لكن مراعاة فقه الواقع اقتضت ذلك.

ولما بعث معاذًا بن جبل إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام، قال له: "إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ"، فالنبي صلى الله عليه وسلم أول ما ركز عليه إخباره بأنهم أهل كتاب مراعاة لفقه واقعهم باليمن، كما أنه أيضًا راعى التدرج في تبليغ الأمر مراعاة لحال المتلقي، وما أحوج خطابنا الدعوي إلى مثل هذه الرؤية الفقهية الرائعة التي لا تخاطب إلا القلوب فتأسرها بمنطقها الأخاذ ورقيها الرائع.

ينبغي أن يراعي خطابنا الديني اليوم فقه الواقع، ومعرفة الأمور ومآلاتها، واستمرار دور العلماء الريادي في التوجيه والدعوة والإفتاء والاجتهاد والتعليم بما فيه صلاح الأمة، فهذا الفقه ضروري في تنزيل أحكام الدين، وفي تبليغ رسالة الإسلام، وفي التعامل مع الناس، وفي اختيار الخطاب الديني والمصطلحات اللازمة له. فعندما ننظر إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، برى كيف تبوأ الداعي إلى الله هذه المنزلة العظيمة؛ فالإمام الحسن البصري له كلمة عظيمة في تفسير هذه الآية بقوله: "الداعي إلى الله هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحًا.

إن الخطاب الديني في مراعاته لفقه الواقع لا بد أن يركز جل جهده على القضايا التي تتصل بواقع الناس المعيش؛ لأن تناول القضايا التي غابت عن عصرنا الآن هو لون من ألوان الهروب من المواجهة، وصورة من صور النقل من كتب العلماء دون تمييز بين ما نحن بحاجة إليه فعلاً وما لسنا بحاجة إليه، ولا يفعل هذا إلا من لا يتحمّل المسئولية الدعوية، ومن يعيش الماضي ولا يكترث بالحاضر، فيجب التركيز على قضايا اليوم ومعالجتها فكريًّا ووضع الحلول لها بما يوافق الشرع الحنيف.

كما أنه ينبغي أن نذكر هنا قضية مهمة يجب أن يراعيها المتصدر للخطاب الديني ألا وهي خصوصية بقي أن نؤكد أن الدعوة الإسلامية وخطابها الديني يستهدفان الواقع البشري بالإصلاح والتغيير؛ وعليه لا بد من معرفة هذا الواقع وفهمه الفهم الصحيح؛ فالنبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحرص على معرفة الواقع الذي يتحرك فيه بدعوة الحق، إلى الحد الذي كان يعرف فيه كل ملك من ملوك الأرض مما يجعله يحسن اختيار من يرسله إليه ويجيد تحديد ما يكتب له.

كما أن الخطاب الديني لا ينبغي أن يجافي الواقع، باعتماده خطابًا دعويًّا مجردًا دون الربط بواقع المجتمع، ودون التعرض لمشكلاته ومتطلباته، ما يجعل تلقي الناس له مقطوعًا عن الاستجابة والعمل، فالمجتمع لا يمكن أن يتفاعل مع هذا الخطاب حتى يشعر فيه بالطابع العملي التفاعلي، وحتى يرتبط بهمومه وطموحاته، وحتى يكون فيه العلاج لمشكلاته وأزماته.

واضيع ذات صلة 

مفتي الجمهورية يكتب: من خصائص الخطاب الدينى.. العالمية «1»

مفتي الجمهورية يكتب: الخطاب الدينى.. ما بين التجديد والإصلاح (1)

مفتي الجمهورية يكتب: نحو خطاب دينى جديد (2)

مفتى الجمهورية: تحديات الخطاب الدينى (3)

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان