المهاجر من هجر ما نهى الله عنه
بقلم – الدكتور علي جمعة:
بمناسبة العام الهجري الجديد نتذكر دروس الهجرة وأحاديثها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في شأن الهجرة المخصوصة التي أكرمه الله بها من مكة إلى المدينة (لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا).. [رواه البخاري]، فبعد فتح مكة، خرجت من عبادة الأوثان ودخلت في التوحيد الخالص فلم يعد هناك حاجة للفرار بالدين منها إلى المدينة المنورة كهجرة إيمان أو إلى الحبشة من قبل كهجرة أمن، فقد آمن الناس وشعروا جميعا بالأمن.
وللهجرة معناً مهم في ذاته نراه عند جميع الأنبياء ، فإبراهيم عليه السلام يهاجر طلبا للإيمان، قال تعالى في شأنه: {وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ}.. [الصافات : 99]، وموسى يهاجر إلى أرض مدين طلباً للأمن، وإسماعيل يهاجر إلى أرض مكة لإقامة البيت على قواعده، ويعقوب يهاجر إلى مصر للحاق بيوسف وأخيه، وهكذا لو تتبعنا هجرة الأنبياء لوجدناها كانت لأغراض كثيرة فأصبحت منهج حياة لطلب الرزق أو لطلب العلم أو لطب الأمن أو لطلب الأيمان أو غير ذلك.
ولذلك كان لابد أن يكون للهجرة معنىً مستمر لمكانتها المهمة من الدين سواء أكان أحدنا ينتقل من مكان إلى مكان أو من حال إلى حال، أما الانتقال من مكان إلى مكان، فقد ورد أنه إذا رأى المرء منكرا فليزله أو فليزُل عنه، وهو معنى قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ}.. [الأنعام : 68]، وهذا منهاج قوي في مقاومة الفساد وعدم الرضا به، يرتبط ارتباطاً عضوياً مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما طوره المسلمون قديما في نظام الحسبة وحديثا في المؤسسات الرقابية كالجهاز المركزي للمحاسبات والرقابة الإدارية ونحو ذلك كأنظمة المرور وتفتيش التموين والصحة، فالبعد عن أماكن المعاصي قد أمُرنا به ونهينا عن السكوت عنه و إلا أصابنا العذاب مع المجرمين، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}.. [الأعراف : 164- 165].
أما الانتقال من حال إلى حال فيتمثل في التوبة والرجوع إلى الحق وعدم اليأس من الوقوع في فعل الذنب لأن الاستمرار فيه أشد من الوقوع فيه، وقضية التوبة هذه هي أساس الرقابة الذاتية للإنسان على نفسه على حد قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في خطبته: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتزينوا للعرض الأكبر، يوم تعرضون لا يخفي منكم خافية).. [مصنف ابن أبي شيبة]، وهو مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله).. (أورده الترمذي في سننه).
وعلى هذا المفهوم من أن الهجرة أمر مستمر يدخل في الحياة اليومية للمؤمن وأن مفهومها من ناحية أخرى واسع لا يقتصر على النُقلة المكانية، أصبحنا في أشد الحاجة إلى هذا المفهوم في عصرنا الحاضر حيث يشمل:
أولاً: مقاومة الفساد والإفساد، سواء أكانت هذه المقاومة بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو التغيير الواجب بكل وسائله أو كانت توبة نصوحة ينخلع فيها المفسد من فساده ويرجع إلى الله بمحاسبة النفس والهجرة بعد العصيان، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}.. [الذاريات : 50]، وقال تعال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}.. [آل عمران : 133].
وثانيا: هذا المفهوم الواسع المستمر للهجرة يجعلنا من المهاجرين وما أدراك ما ثوابهم ومرتبتهم عند الله إذا ما قمنا بما نسميه في عصرنا الحاضر بالتنمية، فهناك ارتباط وثيق بين معنى الهجرة الشرعي وبين مقاصد التنمية الشاملة وأهدافها، ويرتبط ذلك أيضاً بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.. [الرعد : 11].
والقراءة الصحيحة لهذه الآيات والأحاديث وكما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتصر على الحالة الروحية ولا الدلالات اللغوية الضيقة ببعض الألفاظ وإنما تمتد لتُكون معنىً واسعاً يتناسب مع مراد الله من خلقه ومع مراد الله من شرعه، انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ) قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ).. (صحيح مسلم).
وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ). قَالُوا مَنْ قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ (إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِى إِذاً لَقَلِيلٌ، الْقَتْلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ شَهَادَةٌ وَالْبَطَنُ شَهَادَةٌ وَالْغَرَقُ شَهَادَةٌ وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ).. (مسند الإمام أحمد)، فيجب أن نفهم الدين بهذه السعة كما علمنا سيدنا صلى الله عليه وسلم.
فيديو قد يعجبك: