إعلان

{ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ}

05:23 م الأربعاء 03 سبتمبر 2014

{ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَ

يا ابن آدم إذا ساورك الشك في صلاحية النظام التشريعي الذي شرفك الله سبحانه وتعالى به وارتضاه لك، وإذا افتقدت مظاهر لطف الله عز وجل ومظاهر رحمته وحكمته في هذا النظام فلم تجده، فعد إلى نظامه التكويني فإن الإله الذي أوصاك بهذا النظام التشريعي هو ذاته الذي أكرمك بهذا النظام الكوني الذي سخره لك. عُدْ فتأمل في هذا النظام التكويني تجدْ أنه في كل صوره وفي كل مظاهره مظهر لعظيم رحمة الله بك ولدقيق ألطافه بك، ومظهر لباهر حكمته فيما خلق وفيما سخر لك.

تأملْ في نظامه التكويني، انظر إلى الأرض التي جعلها الله تحت قدميك بساطاً، ومهدها لك، وصدق الله القائل: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً}… [طه : 53].

تأمل في الرياح السارية من حولك كيف أن الله عز وجل جعل منها روحاً بالإضافة إلى روحك السارية في كيانك.

تأمل في الوظائف التي سخر الله هذه الرياح لها جعلها (لواقح) وانظر إلى المعاني الغزيرة تحت هذه الكلمة الربانية.

تأمل في المياه الهاطلة من سماء الله سبحانه وتعالى: كيف تجتمع في الأرض، وكيف جعل الله عز وجل من التربة التي تتلقى هذه المياه مصفاة دقيقة، فما تكاد هذه المياه تسري في تجاويف الأرض وتستقر في باطنها إلا وقد صفيت من الشوائب، وصفيت من سائر الأدران، ثم إن الله عز وجل يعيد لك هذه المياه فتتفجر من هنا وهناك ينابيع ثرة صافية.

انظر إلى الفواكه وإلى الأطعمة التي تينع من حولك، والتي استخدمها الله عز وجل لك، وتأمل في كلام الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنّا عَلَى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ، فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ}...  [المؤمنون: 18-19].

تأمل في النظام التكويني الذي سخره الله لك وأقامه لخدمتك، هل تجد فيه إلا مظهر اللطف بك؟ هل تجد فيه إلا أعلى دلائل الرحمة لك؟ هل تجد فيه إلا أدق مظاهر الحكمة الربانية لك؟

هذا الإله الذي أكرمك بهذا النظام التكويني هو ذاته الذي شرفك بنظامه التشريعي إذ قال وصدق الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ ديناً}... [المائدة : 3] وما النظام التشريعي أيها الإخوة؟ إن النظام التشريعي ليس إلا مجموعة تعليمات يوصي الله عز وجل بها عباده ليحافظ بها على النظام التكويني الذي أكرمه الله عز وجل به، أقام لك الأرض على دقائق الصنع البديع، وأقامها لك على أدق معاني الخدمة لمصالحك، أصلحها لك أدق إصلاح ثم إنه أوصاك بألاَّ تفسدها.

فكيف السبيل إلى أن تحافظ على صلاحها، وألا تدع الفساد يتسرب إليها؟

سبيل ذلك تنفيذ الوصايا التي شرفك الله عز وجل بها والتي دعاك إلى تنفيذها. هذه الوصايا هي التي تسمى بالنظام التشريعي أقامك على النظام التكويني، وأصلحه لك، وجعله خادماً لمصالحك، ثم إنه أراك صفحة التعليمات التي ينبغي أن تلتزم بها للمحافظة على صلاح هذا الكون، للمحافظة على صلاح هذا النظام التكويني القائم على خدمتك، أليس هو القائل، وصدق الله سبحانه وتعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً}... [الأعراف : 56] أصلحت لكم الأرض، أقمت الأرض على أدق ما يصلح شأنكم، أقمت مظاهر الكون على أدق معاني الخدمة لكم، وما عليكم إلا أن تحافظوا على هذا الصلاح وسبيل المحافظة على ذلك أن تطبقوا صفحة هذه التعليمات التي أرسلتها إليكم، هذا التشريع الذي شرفنا الله سبحانه وتعالى به الإله الذي أكرمنا بهذا النظام الكوني الذي ينطق بعظيم رحمته وباهر لطفه وحكمته؛ هو ذاته الذي أقامنا على هذا النظام التشريعي، وآية هذا الذي أقوله لكم أيها الإخوة أن الإنسان عندما أعرض عن شرع الله عز وجل وعندما تبرم بصفحة هذه التعاليم، نظر إلى هذا النظام الكوني الذي أقامه الله للإنسان على أحسن نسق، وإذا بالفساد قد تسرب إليه وإذا بمظاهر الصلاح بدأت تختفي منه، لماذا؟ لأنه أعرض عن صفحة التعليمات، ولأنه أعرض عن التشريع الذي جعله الله غطاء للنظام الكوني، أعرض عن تعليمات الله سبحانه وتعالى، ولما أعرض عنها استبدل بها النقيض، فكان النقيض سبباً لفساد الأرض، كان النقيض سبباً للتهارج، كان النقيض سبباً لغياب الحكمة الإلهية، وما غابت، سبباً لغياب الرحمة الإلهية من هذا النظام الكوني، وما غابت الرحمة الإلهية ولكننا نحن الذين غيبناها بسبب إعراضنا عن صفحة التعاليم التي لو نفذناها كما أمر الله سبحانه وتعالى، إذن لرأينا أن الكون يدور على خدمة الإنسان، ولرأينا أن النظام الكوني صالح في ظاهره وباطنه، ولكن الإنسان إنسان اليوم، إنسان الحضارة التائهة اليوم، أعرض عن تشريع الله، أعرض عن النظام التشريعي، أي أعرض عن صفحة التعاليم التي أرسلها الله لنا لنحافظ بها على نظامه الكوني، أعرض فكانت نتيجة ذلك الفساد في الأرض، وصدق الله القائل: {ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}... [الروم : 41].

ما رأيت في كتاب الله عز وجل آيةً معجزةً من المعجزات الغيبية كهذه الآية أيها الإخوة. وأنتم تعلمون أن الفساد الذي ظهر في الأرض من جراء إهمال الناس لتعاليم الله عز وجل أمر حادث، أمر حادث حدث مع إعراض المسلمين عن شريعة الله سبحانه وتعالى وتعاليمه، ولكن البيان الإلهي أنبأ بما سيحدث وأكده، وعبر عنه بصيغة الماضي فقال: {ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ} كأنه جل جلاله يقول: جعلت لكم التربة طهوراً تتفاعل مع الماء الطهور الهاطل من السماء، جعلت لكم التربة مصفاةً تسري المياه من خلالها إلى باطن الأرض لتستقر فيها خزائن لكم مياه طاهرة نقية من سائر الشوائب، فماذا صنعتم؟ أعرضتم عن صفحة التعاليم، أعرضتم عن قاعدة: (لا ضرر ولا ضرار) ودفعكم الطمع إلى أن تتناسوا تعاليم الله سبحانه وتعالى التجأتم إلى هذه الأسمدة السامة المتنوعة المختلفة، وما دفعكم إلى ذلك إلا الطمع، وحشوتم تربتكم الزراعية بها، ليست ثمة ضرورة، وليست ثمة حاجة إلى ذلك، لكن الطمع والجشع أنساكم الانضباط بأوامر الله عز وجل، فلما هطلت هذه المياه صادفت في مكان المصفاة التي تطهر الماء من الشوائب، صادفت تربة تصنع في هذه المياه سموماً متنوعة مختلفة، كانت من نتيجة ذلك أن تلوثت الفواكه، وأن تلوثت النباتات بأنواع من أسباب الأمراض المختلفة.

لاحظوا أيها الإخوة الارتباط الدقيق بين النظام الكوني وبين النظام التشريعي، بمقدار ما يكون الإنسان أميناً على شرع الله يبقى الكون صالحاً، وتبقى الأرض صالحة، ولكن عندما يتيه الإنسان عن شريعة الله سبحانه وتعالى فإنه هو الذي يوتغ نفسه، أي يهلك نفسه، ويحيل طهر الأرض إلى نجاسة وقذر، يحيل صلاح الأرض إلى فساد، وصدق الله القائل: {ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ}... [الروم : 41] وهو مثال أقوله لكم، مثال أقوله لكم والأمثلة الكثيرة التي تجسد فساد الكون، فساد النظام الكوني، التلوث البيئي الذي يسري إلى النباتات، يسري إلى الهواء، يسري إلى التربة، يسري إلى النفوس، يسري إلى التربية الربانية التي شرف الله بها عباده المسلمين، غاب كل ذلك، وحلَّ في مكان ذلك نقيض ذلك الصلاح، تلك الاستقامة، ذلك الطهر، حلَّ في مكان هذا كله الفساد، كما يقول الله سبحانه وتعالى.

من مظاهر هذا الفساد الكوني الهرج والمرج الذي أنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم به، لا والله أيها الإخوة ما كان هذا الهرج والمرج أي هذه الفتن متدجيه إلا مظهراً من مظاهر إعراض المسلمين عن شريعة الله، هل كان هنالك من ينشأ ليلوث صفحة الإسلام بأشنع ما هو منه بريء، وباسم الإسلام يفعل؟ هل كان من الممكن أن يظهر في مجتمعنا من يلوث اسم الإسلام بأشنع وأقذر ما الإسلام منه بريء؟ لو أن هؤلاء الناس رُبُّوا تربية صالحة، ولو أنهم تلقوا من مجتمعاتهم التربية الإسلامية الصحيحة، لا التربية التقليدية التي نعرفها اليوم ونُقرُّ بها، لو أن هؤلاء الناس غذوا بالتربية الإسلامية الصحيحة التي تنمي بين جوانح الإنسان الرحمة، التي تنمي بين جوانح الإنسان اللطف، التي توقظ بين جوانح الإنسان الذوق الرفيع، لو أن هذا الجيل نشأ في ظلال هذه التربية الربانية، ولو أن صفحة هذه التعليمات نفذت، أَفَكُنَّا نرى في المسلمين من أصبحوا شُؤماً على الإسلام؟ من أصبحوا يلوثون سمعة الإسلام بالسواد وباسم الإسلام؟ لا. أَفَكُنَّا نجد في مجتمعاتنا الإسلامية من يقوم بجرائم لا ندري مصدرها ولا مأ تاها، لا صادرها ولا واردها، وفي مجتمعات إسلامية كان ينبغي أن يسود فيها اللطف، كان ينبغي أن يسود فيها الوئام، ما الذي جرى؟ فيمَ هذه الجرائم ترتكب؟ إن تلك التي فاض الحديث عنها في بلدنا، في حق نساء أيٍّ كانت هؤلاء النسوة، أو في غير ذلك جرائم سواءً كان الكلام في ذلك يعتمد على شيء من المبالغة، أم لا. الحقيقة واقعة، الأمر حقيقي، فيمَ هذا الهرج والمرج يتم؟ لأن شريعة الله غُيِّبَتْ، ولأن التربية الإنسانية لم تعد صفحةُ التعاليم الإسلامية غذاءً لها، لأن هذه التربية الإسلامية لا التقليدية، أقول التي ينبغي أن يرتبط فيها النظري مع العملي في المدارس وفي المجتمعات المختلفة، لو أن هذه التربية، لو كانت موجودة أَفَكُنَّا نفاجأ بمثل هذه الجرائم التي نسمع عنها صباح ومساء.

اليوم - أيها الإخوة - تتطلع أنظار مجتمعنا إلى الأمن ووظيفته، إلى الأمن وأهميته، ولست أدري لماذا تطاول الأمد، وفي كل يوم نبلّغ عن حلقة في سلسلة هذه الجرائم التي تقع هنا وهناك. خلاصة ما أريد أن أقوله أيها الإخوة: حقيقةٌ ينبغي أن لا ننساها أبداً، وهي من أعظم مظاهر رحمة الله بعباده، ومن أعظم مظاهر لطف الله بعباده، ومن أعظم الأدلة التي تجرّم الإنسان اليوم إذ يحجب نفسه عن رحمة الله، يحجب نفسه بحكم اختياري لطف الله عز وجل، رَبٌّ أقامنا على نظام تكويني ينبض بعظيم رحمة الله بنا، ينبض بعظيم لطف الله بنا، ينبض بعظيم حكمته وباهر رحمته بنا، ماذا صنعنا صفحة تعليمات هي الشريعة الإسلامية يقول لنا الله عز وجل: أورثتكم هذا الكون طاهراً نقياً خادماً لكم راعياً لمصالحكم، فما عليكم إلا أن تكونوا حراساً لهذه الرحمة، سبيل ذلك أن تنفذوا صفحة هذه التعليمات.

مزقنا هذه الصفحة، أبقينا منها ما يسمى طقوساً، ودينُنا ليس فيه طقوس، أبقينا منها مظاهر، والمظاهر لا تغني إطلاقاً، فإلامَ آل الأمر؟ هذا النظام الكوني الذي ينبض برحمة الله وحكمته ولطفه وحبه لعباده، تحول الصلاح فيه إلى فساد، وصدق فينا قول الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ}... [الروم : 41] فساد البيئة، التلوث بأشكاله وألوانه وأنواعه المختلفة، نتيجة للطمع الذي جعلنا نبتعد عن تطبيق شرائع الله، ونبتعد عن انضباطنا بنظامه، وسرى هذا التلوث إلى النفوس، سرى هذا التلوث إلى التربية، ومن ثم ساد هذا الهرج والمرج، ومن ثم أصبحنا نفاجأ بجرائم لا ندري لا ندري أي موجب لها، ولا ندري أي خطة سياسية أو همجية أو أياً كانت بهدف من الأهداف ترسمها. ولكن إذا غيب شرع الله ينبغي أن ننتظر وأن نتوقع الهرج والمرج.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدنا إلى حظيرة دينه، وأسأله سبحانه وتعالى اللطف بنا بكل أحوالنا وتقلباتنا.

المصدر: موقع د. محمد سعيد البوطى

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان