في يومها العالمي .. المرأة ما بين ظلمات التشدد ومتاهات التحرر
بقلم – هاني ضوه :
نائب مستشار مفتي الجمهورية :
حيرة شديدة عندما تقرر أن تتحدث عن المرأة في يومها العالمي .. فقد ظلمت المرأة كثيرًا حيث أصبحت أسيرة لخطاب ديني متشدد، غابت ودفنت في ظلماته -بنصوص وآراء فقهية ضعيفة أو غير مناسبة لعصرنا الحالي ومتطلبات ومتغيراته-، في مقابل متاهات خطاب التحرر التي تخبطت فيه المرأة وأصبحت مستباحة بدعوى الحرية والتمدن، وما بين هؤلاء وهؤلاء ظلمت المرأة.
الدارس المنصف والعاقل للنصوص الشرعية يدرك تمامًا أن الإسلام جاء ضامنًا لحقوق المرأة وحريتها، وأن ما تعيشه المرأة في واقع حياتها الاجتماعية مما يتضمن في بعض الأحيان إهدارًا لحقها أو تمييزا ضدها، هو ليس من أصول الإسلام الذي جاء لينصف المرأة ويرتقي بها، مع الحفاظ عليها.
وقد كفل الإسلام بأحكامه للمرأة إنسانيتها وحرية الاختيار وحرية التملك والتعلم بل كفل لها أن تشارك في بناء مجتمعها ونفعه، في وقت كانت كثير من المجتمعات الأوربية تتخبَّط حول إنسانية المرأة وتناقش: هل المرأة إنسان أم مخلوق أخر؟!
وطوال العهد النبوي والخلافة الراشدة لم تعاني المرأة من تمييز أو إهدار لحقوقها أو قمع لحرياتها طالما لا تتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، فقد ساوى الإسلام بين المرأة والرجل –دون ندية بين الطرفين- في أصل الخلقة فقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، وساوى بينها في التكليف والثواب فقال تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}، بل قالها النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله صراحة: "النساء شقائق الرجال".
بل في العصر النبوي لم تكن المرأة "قضية" تشغل الأذهان، ولا حقوقها وحريتها كانت تسبب أزمة، لأنهم أدركوا من تعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإشراكه للمرأه والأخذ برأيها والتشديد على حقوقها، فكانوا هم ضمانًا لها.
فالإسلام لا يفرق بين الرجل والمرأة وإنما ينظر إليهما نظرة متساوية فيما يتعلق بالحقوق والواجبات الخاصة بكل منهما. وإذا رجعنا إلى السيرة النبوية فإننا نجد فيها أمثلة كثيرة تؤكد هذه المشاركة ونري فيها كيف قامت المرأة بأمور اشتركت فيها مع الرجل دون تفرقة، ومن هذه الأمثلة ما كان في حدث الهجرة وما سبقها من أسباب وما توزع فيها من أدوار بين الرجال والنساء، كذلك الأمر فيما يخص الاستشارات التي أدلت بها المرأة عندما طلب منها ذلك.
وفي التاريخ الإسلامي وصلت المرأة إلى أن تكون "شيخة" للرجال، وأصبح منهن محدثات وفقيهات جلس بين أيديهن كبار العلماء من الرجال ليتلقوا العلم الشريف، ومع كل هذا لم تتحول المرأة إلى قضية أو سببت حقوقها أزمة، بل كانت تحافظ على آداب الشريعة وآداب المجتمع وفي النفس الوقت تؤدي مهمتها في الحياة في تمازج عجيب، وفي هذا دليل على أن الإسلام والشريعة الإسلامية لم تكن يومًا ضد المرأة أو حريتها أو تحقيق ذاتها ونفع مجتمعها.
إذًا أين الأزمة؟ ولماذا أصبحت المرأة قضية؟
من وجهة نظري أصبحت المرأة قضية بعد أن ظهرت تيارات متشددة اتخذت من النصوص الدينية ما يوافق هواهم، وفهموها بطريقة ملتوية أو وفق عادات وتقاليد قد تخالف حتى الشريعة الإسلامية، فقامت بقمع المرأة وعزلها عن التفاعل مع المجتمع وأفراده، فتحولت النظره إلى المرأة شيئًا فشيئًا إلى الدونية، وتوارى دورها في المجتمع، فأصبح التطرف والمغالاة والتمسك بعادات اجتماعية شكلها هوى النفس "عتمة" وظلام غيبت فيه المرأة.
في المقابل .. كان نتاج تغييب المرأة وعزلها عن التفاعل مع المجتمع، وعدم فهم أقوال الفقهاء والنصوص الشرعية الخاصة بالمرأة، أن ظهرت موجات من التحرر والانحلال، ففي مصر من بداية العام 1800 ميلاديًا، ومع الاحتلال البريطاني أصبح هناك انفتاح على أناس آخرين لديهم نموذج معرفي مختلف، وثقافات مغايرة، ومعايير ذات طابع خاص، فحدث الصدام، وأصبحنا ننظر إلى النموذج الغربي على أنه النموذج المتقدم الذي يجب أن نتبعه لنرقى، رغم اختلاف النموذج المعرفي، وأصبح أبناء الذوات، وعلية القوم يقلدون النموذج الغربي بحذافيره هربًا من النموذج المتشدد المنغلق بحثًا عن الحقوق التي غيبها المتشددون، فوقعوا في براثن التحرر الغير مسؤول والمتصادم مع الشرع والمجتمع.
هنا أصبح المجتمع يضم نموذجين متناقضين، وهما:
- نموذج التحرر التام، والخروج عن المألوف والتمرد على كافة مظاهر التدين والالتزام بأخلاقيات الإسلام، وتمَّثل تحررها في خلع الحجاب وتقصير الثياب وحرية العلاقات خارج إطار الزواج وغيرها، فأصبحت المرأة سلعة تستغل في الترويج والفتنة والإعلانات والأعمال الفنية المخلة بطريقة تثير الغرائز.
- ونموذج أخر اختار الإنصهار في الإنفصام والتشدد المطلق المتمثل في تدين المظهر وخلاء الجوهر ومراقبة الخلق وضعف مراقبة النفس فأدى إلى انعزال أفراده عن المجتمع والنظر بدونية إلى من يختلفون معهم في هذا النموذج.
نحن في حاجة إلى أن نبقى المرأة -مثلها مثل الرجل- في منطقة رمادية ممكن أن تمارس فيها حياتها بشكل طبيعي ومتفاعل مع الواقع المعيش دون المساس بثوابت الدين ومع التمسك بأخلاقيات وآداب الإسلام والمجتمع.
علينا أن ننشئ جيلًا من الفتيات والنساء يسعين لتحقيق طموحهن وممارسة حقوقهن في خطين متوازيين لا ينفصلان، وهما الإندماج في المجتمع مع الإلتزام بمبادئ الشريعة وفرائضها ومقاصدها العليا، وكذلك مراعاة أخلاقيات المجتمع، وأن نجعل مهمة المرأة وطموحها مرتبها بتحقيق مراد الله من استخلاف الناس في الأرض وعمارتها واستغلال نعمة الحياة والعقل في نفع البشر، ولعل هذا يضبط "بوصلة" التعامل مع المرأة.
علينا أن نراجع السيرة النبوية المشرفة، لنتعلم كيف كان الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع المرأة، ويحفظ لها حقها في التعلم والتعليم عندما خصص للنساء يومًا ليعلمهن، وعندما أوصى الصحابة أن يأخذوا أحكام دينهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها. لنتعلم كيف استشار النبي السيدة أم سلمة في صلح الحديبية.. ويكفي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت المرأة في آخر وصاياه، حينما قال: "أيها الناس، اتقوا الله في النساء، اتقوا الله في النساء، أوصيكم بالنساء خيرًا".
فيديو قد يعجبك: