!ومات أبي في حجة الوداع
بقلم: محمد قادوس
مات أبي بعد حجته الوداعية التي كان يتمناها قُبيل وفاته، وبعد زواج أبنائه الخمسة، كانت للأب أمنية يود أن يحققها، وكان يدعو الله - سبحانه وتعالى – ليل نهار أن يحققها له، وفي يوم ما ذهب ابنه الأصغر إلى عمله الذي يعمل به محررًا بأحد الجرائد، وجد حركة غير معتادة في مكان عمله، فسأل أحد زملائه: "هو في إيه؟!"، فرد عليه زميله قائلًا: الجورنال عامل قرعة لحج بيت الله، وهذه القرعة يتم عملها خلال ساعتين من قبل رئيس تحرير الجورنال، وقال أود أن أتقدم بكتابه اسمي في القرعة لعل وعسى أن يجعل الله له نصيبًا في هذا الأمر لكي يتنازل بهذه الحجة لأبيه.
فتقدم الابن بكتابه اسم الوالد في القرعة، وقام بالاتصال به أولًا، ثم عمه الذي في منزله والده وأخيه الأكبر ليقول لهما أن يدعوا له بما صنع، فقال الأب ربنا يوفقك يا ابني بما فيه الخير لك، فدقت الساعة السابعة وها هي الساعة التي ينتظرها كل من تقدّم بالقرعة، فدخل رئيس التحرير ومعه أحد الزملاء حاملًا كوبًا زجاجيًّا وبه الأوراق التي تحمل جميع الأسماء التي تقدمت في هذه القرعة، وها هي اللحظات التي يتم فيها إخراج الفائزين والورقة التي كتبت عليها اسمي.
الورقة الأولى تخرج، تلو الثانية، ويليها الثالثة فالرابعة؛ حتى انتهت القرعة ولم يحالفني الحظ لكي أسعد الأب الذي يتعدى عمره 62 عامًا، اتصل الأب بالابن وقال له "كان في إيه عندك يا ابني"، فقال له الابن "الجورنال يا بابا كان عامل قرعة للحج ولم يحالفني الحظ بإسعادك، فبكي الأب بكاء لم يسمعه الابن من قبل وقال الابن وهو يبكي: "ربنا لسه لم يتكتبها لي".
رجع الابن إلى المنزل الذي كان في القرية الصغيرة، وكان يدعو الله أن يكون والده خارجه لكيلا يراه باكيًا على الفرصة التي لم تحالفه. في اليوم الثاني يحضر الابن إلى المكتب وقام بعمله، وقبل أن يغادر المكان أثناء انتهائه من عمله، دخل الابن إلى مكتب رئيس التحرير وقال لمدير مكتبه الذي هو بمثابه أخيه الأكبر: "كنت عاوز أفرّح أبويا وأطلعه السنة دي الحج"، فقال مدير مكتب رئيس التحرير: خير يا محمد ربنا يكتبها له إن شاء الله، ذهب الابن إلى منزله في الساعة الرابعة مساء، وبعدها قام مدير مكتب رئيس التحرير بالاتصال به، فقال له: "إزيك يا محمد أخبارك إيه؟"، فرد عليه وقال "الحمد الله بخير"، فقال "يا محمد تعرف تجهز أوراق والدك في خلال 48 عشان نقدمه للسفارة لأخذ تأشيرة حج هذا العام"، فقال له ابن الرجل الذي كانت أمنية حياته بعد زواج أبنائه أن يحج: "أيوه إن شاء الله ربنا يكرم، وتم غلق هذه المكالمة".
اتصل الابن لكي يهنئ والده ويقول له: مبروك يا أبي ربنا هيكتب لك الحج هذا العام، فبكي الأب وقال يا رب كملها لي علي خير. ذهب الابن وهو في فرحة شديدة وكان يقول يا رب يكون والدي في المنزل لأرى هذه الفرحة في عينيه.. طرق الابن الباب فوجد والده من يفتح له.. وحضن الأب الابن وقال له إن شاء الله يبني ربنا هيفرحك زي ما فرحتني.. وإن شاء الله ربنا هيكتب لك العمرة هذا العام، فرد الابن وقال يا رب يا حبيبي.. ولكن لسه بدري يا بابا.. اذهب أنت وتمتع بهذه الحجة.
طلب الأبناء من أبيهم الحضور باكرًا إلى القاهرة لينتهوا من إجراءات السفر إلى الحج، فقال الأب: الجواز ليس بحوزتي ولكن عند أحد أصحاب مكاتب السفريات لأنني كنت أود السفر لعمل عمرة، فذهب الابن إلى صاحب المكتب في وقت متأخر وهو قلبه يدق، هل جواز السفر هذا موجود بالفعل أم لا، وطرق الابن باب منزل صاحب مكتب السفريات، فرد وقال من علي الباب؟ فقال الابن، أنا يا أستاذ أحمد، وهذا هو الابن الأكبر للحاج، فقال تفضلوا.. فرد أحمد قائلًا: شكرًا، أنا كنت عايز الجواز الذي يحمل اسم أبويا؟ فقال صاحب المكتب حاضر يا أحمد بس على ما أعتقد الجواز انتهى.. فدعا الابن الأكبر والأصغر الله سبحانه وتعالى ألا يكون جواز سفر الوالد غير منتهٍ، فرأي الابن الأكبر الجواز وكانت المفاجأة السارة: الجواز باقي على ميعاد انتهائه أربعة أشهر، فقال الأبناء: الحمد الله ربنا بيسرها.
في الصباح الباكر ذهب الابن الذي يعمل محررًا بالجورنال مع والده إلى القاهرة لينهي الإجراءات. وفي الساعة العاشرة صباحًا انتهي الأب والابن من الأوراق التي يقدمها الموقع إلى السفارة السعودية، وعاد الأب إلى منزله منفردًا دون ابنه الذي ذهب إلى مكان عمله لكي يسلّم الأوراق التي يتم تقديمها إلى السفارة.
عاد الابن إلى منزله في وقت متأخر، ولكن وجد والده مستيقظًا ويدعو الله باكيًا ويقول: "يا رب كملها لي على خير وأروح ومش عايز أرجع تاني".. فقال الابن: "ليه يا أبي إن شاء الله تروح وترجع بألف سلامة، فرد الأب وقال أنا مش عايز حاجة من دنيتي تاني".
فيقول الابن الذي يكتب قصه أبيه: وكأن أبواب السماء مفتوحة في هذا الوقت! وكأن الله استجاب لهذا الرجل صاحب القلب الطيب والذي تشهد له قريته بصفاء قلبه ونقاء سريرته!
ذهب الأب إلى الحج وانتهى من أدى المناسك، وقبل ذهابه إلى المدينة المنورة بيوم اتصل الأب بأبنائه وتم الاطمئنان عليهم، وبعد إغلاق الخط مع أبنائه بعشر دقائق، اتصل زميل للابن الأصغر الذي يعمل صحفي بصحفية اخري، وقال يا محمد أبوك دخل في غيبوبة، فرد الابن وقال "إزاي يا عم أبويا لس قافل معانا من عشر دقائق"، فرد الزميل: "هو ده اللي حصل!".
فكان بجوار أبي أساتذة والذي لهم كل التقدير والاحترام والدين الذي يظل في رقبة الابن الأصغر لوقفتهم مع الوالد لمدة تتعدى أسبوع في مستشفى النور التخصصي بمكة المكرمة.
ظل والدنا في غيبوبة مدة تتعدى العشرة أشهر وهو في غيبوبة تامة، وهذا الغيبوبة التي أعطت أبي الثاني وهو عفيفي قادوس الأخ الأكبر لأبي، الفرصة في الذهاب له مرتين في هذه المحنة التي كانت قاسية، وذهب الابن الأصغر لعمل عمرة في نفس السنة التي دعا والده له فيها، وذهب الابن الأكبر بابنه الأصغر إلى العمرة، وفي المرة الثانية التي ذهب فيها أخوه الأكبر توفي الوالد على يد أخيه عفيفي قادوس ودُفن بمقابر المعلاة بمكة المكرمة.
تلك - لا شك - حسن الخاتمة التي تحاكت بها قرية الوالد عنه، والتي ظل ماكثا فيها طوال حياته، مُحبًا للخير وخادمًا للصغير قبل الكبير.. هذه حسن الخاتمة والدعاء للأبناء الذين دعا لهم الأب قبل مغادرة منزله بالعمر في هذه السنة.. وفي النهاية.. مات أبي – رحمة من الله تغشاه - ولم أره مرة أخرى بعد عودتي من العمرة.
فيديو قد يعجبك: