الحكمة من شرعة الحج
بقلم – د. محمد رمضان البوطي (رحمه الله)
ما يزال أعداد الحجيج تتزايد في كل عام بحمد الله سبحانه وتعالى، وعندما ننظر فنجد أن العالم الإسلامي كله يهدر متجهاً إلى بيت الله الحرام، متجهاً إلى ذرى عرفة، متجهاً إلى مثوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهيمن التفاؤل على مشاعر المسلمين أجمع ويهيمن عليهم الشعور بأن المسلمين ولله الحمد ما يزالون بخير.
ولو أن هذا الكم الكبير من المسلمين الذين يتقاطرون من شتى أطراف العالم إلى بيت الله الحرام اتجهوا إليه بدوافع خالصة وأفئدة مخلصة وبسلوك مستقيم ملتزم بأوامر الله سبحانه وتعالى لتكون منهم تيار كبير مهيمن ذو سلطان على العالم كله ولَتَكَوَّنَ من ذلك التيار قبس من الهداية يهيمن ويشرق لا أقول في ربوع العالم الإسلامي فقط بل في العالم الإنساني أجمع، ولكنك تنظر، بل الدنيا كلها تنظر فتجد أرقاماً كبيرة وكثيرة جداً من الناس تسيل بهم السبل والطرق إلى مكة، إلى بيت الله الحرام ذاهبين طائفين معتمرين ثم ما تلبث هذه الأرقام ذاتها أن تَكِرَّ عائدة في هذه السبل نفسها التي تتزاحم وتسيل بهم.
وهكذا في كل عام تسيل بهم السبل والطرقات أرقاماً كبيرة شتى وهم يحملون أوقاراً من المشكلات في أنفسهم بل وعلى كواهلهم، يتجهون إلى بيت الله الحرام والعصبيات ملء نفوسهم، والخلافات المستشرية مهيمنة على حياتهم، والأهواء هي التي تأخذ منهم بالزمام، ثم إنهم يعودون كما ذهبوا، يعودون بالعصبيات ذاتها، يعودون بالخلاف والأهواء ذاتها، وهكذا دواليك.
ونحن نعلم أن الله عز وجل إنما شرع فريضة الحج هذه – وإنها لأهم عبادة من العبادات التي حمل مسؤوليتها عباد الله جميعاً – إنما شرع الله الحج في كل عام لينبثق عنه مؤتمر يتداعى إليه المسلمون من شتى أقطار العالم، يجعلون منه القائد لحياتهم والمهيمن على سلوكهم والمفتاح لحل مشكلاتهم، تلك هي الحكمة من شرعة الحج التي أمر الله سبحانه وتعالى بها عباده، ودونكم فانظروا إلى حجة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ألم تكن مؤتمراً هيمنت قراراته على العالم إذ ذاك؟
وانظروا إلى الحجيج في عصر الخلافة الراشدة – بل في العصور التي تلت – هل كان الحج إلا ساحة لمؤتمر عالمي ينعقد ليقود العالم كله إلى الطريق الذي شرعه الله، إلى النهج الذي رسمه الله، فما بال هذه الشعيرة قد آلت إلى شكل بدون مضمون، ما بال هذه الشعيرة قد آلت إلى مظهر بدون روح؟ أجاب عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال فيما رواه الديلمي في مسند الفردوس: (يأتي على الناس زمان يحج فيه الأغنياء للنزهة، ويحج فيه المتوسطون للتجارة، ويحج فيه القراء للرياء، ويحج فيه الفقراء للمسألة). هذا كلام رسول الله ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر بعين دقيقة أكثر من دقة ما ننظر نحن إلى هذا الواقع الذي نحن فيه، تلك هي الإجابة أيها الإخوة عن هذا السؤال، إنها إجابة لم تصدر إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد زاد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هذا الجواب إيضاحاً عندما قال فيما صح عنه:
(ستداعى عليكم الأمم – أي الدول – كما تداعى الأكلة إلى قصعتها – إلى مائدتها – قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله يومئذ، قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله الرهبة من قلوب أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: ما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
ألا ترون إلى هذا الجواب الدقيق؟ تأملوه ثم انظروا إلى مصداقه في حياتنا التي نعيشها. صحيح أن الأرقام كبيرة، وأن الحجيج يبلغون ربما ما لا يقل عن ثلاثة ملايين، كل ذلك صحيح ولكنها أرقام من الغثاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلماذا ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوبنا المخافة والهيبة من أعدائنا، ولماذا انتزع الله سبحانه وتعالى الرهبة من قلوبهم تجاهنا؟ الجواب هنا نحن الذين نعرفه، نحن الذين نعيشه يا عباد الله. تأملوا في المشكلات التي تعصف بالعالم الإسلامي من الذي يستثيرها؟ إنهم أعداء الله عز وجل وأعداء دينه ومن ثم إنهم أعداء عباد الله المسلمين.
حسناً، فمن هم الذين يعالجون هذه المشكلات وبأي منهجٍ يعالجونه؟ إن الذين يعالجون المشكلات إنما يعالجونها بوحي من أولئك الذين يستثيرونها. جُلُّ المسلمين الذين يسمون مسلمين يُقْدِمُون إلى حل المشكلات التي تعصف بعالمنا الإسلامي لكنهم يستوحون حلها من أولئك الأعداء الذين أثاروها، وليت أنهم يستلهمون حلها من الإله الذين يدينون له بالعبادة والعبودية، ليت أنهم إذ يتجهون إلى حل مشكلاتهم يعلنون أنهم خاضعون لمولى واحد لا ثاني له، يرددون قول الله الذي يلقننا إياه:
{إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ}.. [الأعراف : 196].
هكذا علَّمنا الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}.. [الأعراف:196].
ولكن سلوكنا ونهجنا يقول بلسان الحال: إن أولياءنا هم أولئك الذين أثاروا هذه المشكلات فيما بيننا، أثاروها فتطامنا لها، أردنا أن نحلها، استوحينا الحلول عن طريقهم، ألا ترون إلى ذلك؟! ألا ترون إلى هذا النهج؟!
إسرائيل هيمنت على ربوع العالم الإسلامي، هيمنت على بقعة مقدسة منه في الظاهر ولكنها هيمنت على العالم العربي والإسلامي كشبكة واحدة في الحقيقة والباطن.
عندما نريد أن نحل مشكلاتنا نستلهم الحل من هذا العدو الذي اغتصب الديار، نستلهم الحل من هذا العدو الذي سلب الحقوق، نستلهم الحل من هذا العدو الذي مازال يتمطى ويتوسع فيما يغتصب وفيما يطرد، وكلكم يعلم ذلك. نستلهم الحلول من هذا العدو لكن لا عن طريقه مباشرة وإنما عن طريق الخادم الأول له ألا وهو الأمريكان.
هذا واقعنا باختصار. بدلاً من أن نطرق باب الله ونحن نتجه إلى بيته الحرام طائفين، نطرق باب العدو الأرعن، ماذا تأمر، ماذا نصنع، ويأتي الأمر من هناك بعد أن يُستَشَار العدو الأرعن الذي يتمطى ويتربع على ممتلكاتنا هنا، تأتي الأوامر بالمنهج الذي ينبغي أن نسلكه وتنظر فتجد أن المعظم – لا أقول الكل – يقول إن بلسان الحال أو بلسان القول لبيك سنفعل، ولكن المظاهر لا تزال كما كانت، شعائر الإسلام ترتفع وكلمات الإسلام تُرَدَّد والتقاليد لا تزال تُنَفَّذ ومن أولها الحج.
من هنا كانت الأعداد في كل عام تتزايد وتتزايد، ملايين، ومن هنا كانت ذرى عرفات تحتضن هذه الملايين ثم تنظر فتتذكر المثل العربي القائل: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا، أسمع هديراً ولا أتبين توجهاً إسلامياً يرضي الله سبحانه وتعالى.
ومع هذا فإنني لا أريد أن أُدْخِلَ بهذا الكلام اليأس لا إلى قلبي ولا إلى قلوبكم، أجل، لا أريد أن نترك أفئدتنا لسلطان اليأس يهيمن عليها، (الخير فِيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة) هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، أملنا معقود بهذه القلة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومهما انحرف الناس المسلمون تائهين عن يمين السبيل أو عن يساره، فإن المصطفى بشَّرنا بأن شامنا هذه ستبقى على العهد، فيها الأبدال الذين أعلن المصطفى عن وجودهم في أربعة أحاديث صحيحة، كلما توفي منهم واحد أبدل الله به غيره، أملنا كبير بأن الصالحين من عباد الله عز جل سيجلعهم الله شفعاء للطالحين وإن كثروا، فاللهم لا تأخذنا بجريرة فعالنا، اللهم هب طالحينا لصالحينا، اللهم أدخل إلى مظاهر الشعائر التي لا نزال نتمسك بها قبساً من روحانية الإخلاص لذاتك العلية، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
فيديو قد يعجبك: