عرفة.. وتجديد الخطاب الديني
بقلم الدكتور ـ محمد الهواري
عضو المكتب الفني لوكيل الازهر
رباط عجيب بين يوم عرفة وبين تجديد الخطاب الديني، الذي اتخذت الدعوة إليه أشكالا متعددة، ففي يوم عرفة وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة نزل على نبينا قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فأشار بهذا السياق القرآني الراقي إلى جملة من الأمور نحتاج إلى أن نقف معها متأملين متجردين من كل هوى:
الوقفة الأولى:
أن الله عز وجل أعلن للبشرية أنه أكمل لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام دينا، والآية العظيمة تحمل بلاغا واضحا وبشارة طيبة، أما البلاغ الواضح فهو أن الدين اكتمل، ومن ثم فلا سبيل إلى أن يزاد في الدين ما ليس منه، أو أن ينقص منه ما هو فيه، وبهذا نطق أهل العلم الذين وقفوا حياتهم على دين الله فهما، وشرحا، وتحليلا.
قال الطبري رحمه الله في تفسيرها: (اليوم أكملت لكم، أيها المؤمنون، فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهيي، وحلالي وحرامي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بيَّنت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلة التي نصبتُها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم).
وإكمال الدين لا يتناقض مع تجديد الخطاب، غير أن تجديد الخطاب الديني الذي يطرح مصطلحه ومفهومه دون معناه ومضمونه يجري على لسان الكثيرين دون أن يعرفوا حقيقته، ودون أن يفهموا كيفيته، حتى أخرجت لنا هذه الدعوات غير المنضبطة من ينادي بتعطيل النص، بدعوى أن النص لم يعد مناسبا لزماننا، وأخرجت لنا كذلك من يقول إن الرسول ليس له حق في أن يتكلم بالسنة، وإنما هو مبلغ للقرآن فقط.
وصدق ابن حجر حين قال: إذا تكلم الرجل في غير فنه أتى بهذه العجائب.
إن تجديد الفكر الديني قد يشمل إعمال العقل لمحاولة فهم مقاصد النصوص، وتنزيلها في مواطنها الملائمة، فضلا عن جمع النصوص الواردة في المسألة محل البحث لتظهر خريطة المسألة واضحة فيهتدي المفكر إلى رأي صواب إلى غير ذلك من آليات التجديد ووسائله.
أما إلغاء النصوص، أو التصرف في النصوص بما لا يتوافق مع القواعد المقررة لدى المختصين المتخصصين من أهل العلم فهذا لا يرجع على الأمة إلا بالضعف والتشتت والهزال الفكري.
وإذا كان العلماء قد تكلموا على اسم يوم عرفة ومن أين اُشتق، فإنه لا يبعد أن يقال إنه يوم أكمل الله فيه دينه، وعلى كل متدين أن يعرف نفسه وموطنه من هذا الدين. ومعرفة الداء أول طريق العلاج!
وأما البشارة التي تحملها الآية فهو أن الله عز وجل أتم علينا النعمة. والنعمة الحقيقية هي مغفرة الذنوب، التي لا تكون إلا باتباع الدين والالتزام بتعاليمه، وعدم الخروج على ثوابته وأصوله.
ولمنزلة هذه الآية العظيمة ومكانتها قالت اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنكم معشر المسلمين تقرءون في كتابكم آية لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا.. فقال عمر لهم: وما تلك؟ قالوا هي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}؛ فقال عمر رضي الله عنه: والله إني لأعلم في أي يوم أنزلت وفي أي ساعة أنزلت وأين أنزلت وأين كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت: أنزلت ورسول الله فينا يخطب ونحن وقوف بعرفة.
ولهذا كان صوم يوم عرفة مكفر للذنوب، وهذه هي الوقفة الثانية: فصوم يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين، وهذا ما أخبرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ). ومن منا بلا ذنب، ومن منا لا يقع في الخطيئة.
الوقفة الثانية:
أن يوم عرفة يومٌ يغيظ الشيطان، فحين يعم الله عباده بالرحمات ويكفر عنهم السيئات، ويمحو عنهم الخطايا والزلات، يرجع إبليس صاغرا مدحورا؛ يقول حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو يصف الشيطان وحاله في ذلك الموقف يقول: (مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ).
وفي ضوء هذا المعني ينبغي أن يحدد الإنسان أهو ممن يغيظ الشيطان فلا يستجيب لتزيينه، ولا لتسويفه، ولا لإضلاله وتلبيسه، أو هو ممن يستجيب لأوامره حتى صار من جنده.
الوقفة الثالثة:
إن يوم عرفة يوم يرجى إجابة الدعاء فيه، وهذا ما أخبرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم – حيث يقول: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
الوقفة الرابعة:
إن يوم عرفة هو اليوم الذي يقف فيه الناس على صعيد واحد مجردين من كل آصرة ورابطة إلا رابطة الإيمان والعقيدة، يدعون ربا واحدا، ويناجون إلهاً واحداً، فتتجلى هناك الإنسانية والأخوة والمساواة، فلا رئيس ولا مرؤوس، ولا حاكم ولا محكوم، ولا غني ولا فقير، ولا أمير ولا مأمور، ولا أبيض ولا أسود، الكل عبيد لله، الكل يناجي ربه العظيم لينالوا مغفرته ورضوانه، وكانها رسالة السماء إليهم بأن يكونوا كذلك العمر كله.
ولقد كانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كذلك حقا، رسالة الأخوة والمحبة والسماحة والسلام.
إن يوم عرفة يذكرنا بواجبنا نحو ديننا من التمسك به والالتزام بأوامره، وعدم التفريط في ثوابته تحت ضغط الانبهار الطائش أو التقليد المندفع، ويذكرنا بوحدة المسلمين التي يجب أن نسعى لتحقيقها، لا أن نعمل على تفريق وتشتيت أفكار الناس ببث ما يخرج على ما استقرت عليه ضمائرهم تحت دعوى التجديد.
ونسأل الله أن يجدد ديننا.
فيديو قد يعجبك: