في ذكرى وفاة الشيخ عبدالحليم محمود.. الإمام الفيلسوف الذي استقال من الأزهر غاضبًا
كـتب- عـلي شـبل:
في قرية منسوبة إلى جده (أبو أحمد) الذي أنشأها وأصلحها، وتُسمَّى الآن باسم (السلام) من ضواحي مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية، وُلد الإمام عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق- رحمه الله- الذي ينتهي نسبه إلى سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما، في 12 من مايو 1910م، وتوفاه الله تعالى في مثل هذا اليوم 27 من أكتوبر، ويرصد مصراوي في التقرير التالي أبرز 5 محطات في سيرة الإمام الراحل، وفق مؤلف (شيوخ الأزهر) لمؤلفه: أشرف فوزي، و(مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن) للكاتب علي عبد العظيم وبوابة دار الإفتاء المصرية:
1- نشأته ومراحل تعليمه:
حفظ القرآن الكريم في سِنٍّ مبكرة ودخل الأزهر سنة 1923م، وظل به عامين ينتقل بين حلقاته، ثم عُيِّن مُدَرِّسًا، ولكن والده آثر أن يكمل الشيخ عبد الحليم دراسته، فتقدم الشيخ لامتحان إتمام الشهادة الثانوية الأزهرية فنالها سنة 1928م، ثم استكمل الشيخ الإمام دراسته العليا، فنال العَالِمية سنة 1932م، ولم يكتف والده بأن يعمل ابنه الشيخ عبد الحليم مُدَرِّسًا بل تطلع لأكبر من ذلك، واختار لدراسة ابنه جامعة السوربون في باريس على نفقته الخاصة، وآثر الشيخ عبد الحليم أن يدرس تاريخ الأديان والفلسفة وعلم الاجتماع، وحصل في كل منهما على شهادة عليا، وفي نهاية سنة 1937م التحق بالبعثة الأزهرية التي كانت تدرس هناك، وفاز بالنجاح فيما اختاره من علوم لعمل دراسة الدكتوراه في التصوف الإسلامي، وكان موضوعها: أستاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبي، وأصر على تكملة الرسالة هناك، رغم نشوب الحرب العالمية الثانية في سبتمبر سنة 1939م، وبلغ هدفه وتحدد لمناقشتها يوم 8 من يونيه سنة 1940م، ونال الدكتوراه بدرجة امتياز بمرتبة الشرف الأولى، وقررت الجامعة طبعها بالفرنسية.
2- رحلته مع الأزهر:
بدأ الشيخ الإمام حياته العملية مُدَرِّسًا لعلم النفس بكلية اللغة العربية، ثم نقل أستاذًا للفلسفة بكلية أصول الدين سنة 1951م، ثم عميدًا للكلية 1964م، وعين عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية، ثم أمينًا عامًّا له، وكان أول من وضع لبنات مجمع البحوث الإسلامية في مقره بمدينة نصر، واهتم بتنظيمه، وواصل الشيخ عبد الحليم محمود اهتمامه بالمجمع بعد تعيينه وكيلا للأزهر ثم وزيرًا للأوقاف وشؤون الأزهر، ثم شيخًا للأزهر.
3- أبرز مؤلفاته:
اتسم الإمام الأكبر بغزارة إنتاجه الفكري الذي يربو على مائة كتاب تأليفًا وتحقيقًا وترجمة، وتتابعت مؤلفاته الغزيرة في كثير من المجالات خاصة في مجال التصوف الذي يُعَدُّ من أسبق رواده في العصر الحديث، فقد تبدى مثالا للصوفية المقيدة بكتاب الله البعيدة عن الإفراط والتفريط حتى لُقِّبَ بغزالي مصر وأبي المتصوفين فكانت كتاباته الصوفية لها الحظ الأوفر من مؤلفاته، فكتب (قضية التصوف: المنقذ من الضلال) والذي عرض فيه لنشأة التصوف وعلاقته بالمعرفة وبالشريعة وتعرض بالشرح والتحليل لمنهج الإمام الغزالي في التصوف، كما ترجم لعشرات الأعلام الصوفيين مثل سفيان الثوري وأبي الحسن الشاذلي وأبي مدين الغوث وغيرهم الكثير.
كما كتب في الفلسفة الإسلامية، ويعد كتابه (التفكير الفلسفي في الإسلام) من أهم المراجع التي تتناول علم الفلسفة بمنظور إسلامي حيث يؤرخ فيه للفكر الفلسفي في الإسلام ويستعرض التيارات المذهبية المتعددة فيه ليبين أصالة الفلسفة الإسلامية، وسبقها الفلسفة الغربية في كثير من طرق التفكير، كما تعرض للغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام في عدة كتب مثل (الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام) و (فتاوى عن الشيوعية).
كما ظهر اهتمامه بالسنة النبوية فكتب العديد من الكتب عن الرسول وسنته، ويعد كتابه (السنة في مكانتها وتاريخها) من أهم كتبه في هذا المجال، كما كتب عن (دلائل النبوة ومعجزات الرسول).
واستعرض الإمام سيرته الذاتية في كتابه (الحمد لله هذه حياتي) والذي جاء خلاصة لأفكاره ومنهجه في الإصلاح أكثر منه استعراضًا لمسيرة حياته، وعَبَّر عن منهجه التفصيلي في الإصلاح في كتابه القيم (منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع).
4- ولايته للمشيخة وقصة استقالته غاضبا:
صدر قرار تعيين الشيخ الإمام عبد الحليم محمود شَيْخًا للأزهر في 27 من مارس سنة 1973م، وكان قد صدر قرار جمهوري استصدره وزير شؤون الأزهر كاد يسلب به من الشيخ كل سلطة ويجرده من البقية الباقية من نفوذه، فغضب الشيخ الإمام عبد الحليم محمود لا لنفسه، وإنما غضب للأزهر، ولمكانة شيخه التي اهتزت واهتز باهتزازها مقام الأزهر في مصر وفي العالم العربي، بل في العالم الإسلامي كله، فلم يجد الإمام بدًّا من تقديم استقالته في 16 من يوليو سنة 1974م، ثم شفعها بخطاب آخر قدمه إلى السيد رئيس الجمهورية شَارِحًا فيه موقفه وأن الأمر لا يتعلق بشخصه، وإنما يتعلق بالأزهر وقيادته الروحية للعالم الإسلامي كله، مبينًا أن القرار الجمهوري السابق يغض من هذه القيادة ويعوقها عن أداء رسالتها الروحية في مصر وسائر الأقطار العربية والإسلامية، وقبل هذا أخطَرَ وكيل الأزهر بموقفه ليتحمل مسؤوليته حتى يتم تعيين شيخ آخر.
وروجع الإمام في أمر استقالته، وتوسط لديه الوسطاء فأصرَّ عليها كل الإصرار؛ لأن الموقف ليس موقف انتقاص من حقوقه الشخصية، وإنما هو انتقاص لحقوق الأزهر وهضم لمكانة شيخه، ورفض تناول مرتبه، وطلب تسوية معاشه، ووجه إلى وكيل الأزهر -وقتها- الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار خطابًا يطلب منه فيه أن يُصرِّف أمور مشيخة الأزهر حتى يتمَّ تعيين شيخ جديد.
وأحدثت الاستقالة آثارها العميقة في مصر وفي سائر الأقطار الإسلامية، وتقدم كثيرون من ذوي المكانة في الداخل والخارج يُلحِّون على الإمام راجين منه البقاء في منصبه، لكنه أبى.
5- وفاته:
بعد عودة الشيخ الإمام عبد الحليم محمود من رحلة الحج في 16 من ذي القعدة 1398هـ، الموافق 17 من أكتوبر 1978م قام بإجراء عملية جراحية بالقاهرة فتوفي على إثرها وتلقت الأمة الإسلامية نبأ وفاته بالأسى، وصلى عليه ألوف المسلمين الذين احتشدوا بالجامع الأزهر ليشيعوه إلى مثواه الأخير تاركًا تُرَاثًا فِكْرِيًّا ذَاخِرًا ما زال يعاد نشره وطباعته.
فيديو قد يعجبك: