"نفحات رمضانية" يقدمها الشيخ محمود الهواري: هن لباس لكم وأنتم لباس لهنّ (25)
كتب - محمد قادوس:
في حلقات خاصة لـ"مصراوي"، وعلى مدار الشهر الفضيل، يقدم الدكتور محمود الهواري، عضو المكتب الفنى لوكيل الأزهر، وأحد خطباء الجامع الأزهر، إطلالة رمضانية روحانية تتجدد مع أيام هذا الشَّهر الطَّيِّب، متعرضا لنفحات إيمانية قيمة ونصائح نبوية غالية، ومنها هن لباس لكم، وأنتم لباس لهنّ.
يقول الهواري، عبر فيديو خاص نشره مصراوى عبر صفحته الرسمية على فيسبوك:
من دلائل الإعجاز القرآنيِّ أن تشتمل آيات القرآن على كثير من المعاني مع وجازة ألفاظها، أو أن تشير إلى عدَّة موضوعات في سياق واحد، ومن ذلك آيات الصيام؛ فإنَّها تشير وهي تعالج الفريضة الرَّمضانيَّة إلى قضايا فكريَّة، واجتماعيَّة مهمَّة.
ومن هذه الإشارات الرَّبانيَّة اللَّطيفة قوله سبحانه: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: 187]، فقد جاءت في وسط آيات الصِّيام، فما معنى أن يكون الرَّجل لباسًا للمرأة؟ وما معنى أن تكون المرأة لباسًا للرَّجل؟
إنَّ الله تبارك وتعالى وصف الصِّلة العظيمة بينَ الزَّوجِ والزَّوجةِ بأبلغِ الأوصافِ، وأجملِ المعاني، وأخصرِ العِباراتِ، وإذا تأمَّلنا الاختيار الرَّبانيِّ لألفاظ القرآن لوجدنا عجبًا في مخاطبة القلوب والعقول، فاختيار اللِّباس للتَّعبير عن العلاقة الزَّوجيَّة فيه معانٍ كثيرة، نحاول أن نتأمَّلها معًا.
من المعاني المتعلِّقة باللِّباس أنَّه زينةٌ وجمالٌ، فالإنسانُ يختارُ ما يُناسبُه من اللِّباسِ تزيُّنًا وتجمُّلًا، وإذا نقلنا هذا المعنى للزَّوجيَّة وجب أن يكون الزَّوج زينة لزوجته، وأن تكون الزَّوجة زينة لزوجها، وقد بيَّنَ لنا رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- طريقَ الاختيارِ، فقالَ للزَّوجِ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»، وقالَ لوليِّ الزَّوجةِ ولها: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»، ولباس الدِّينِ والإحسانِ، والأخلاقِ والإيمانِ أفضل للرَّجل والمرأة على السَّواء.
ولباس الإنسان أقرب شيءٍ إلى جسده، وكذلكَ يفرض السِّياق القرآني أن يكون الرَّجل أقرب النَّاس إلى زوجته، وأن تكون الزَّوجة أقرب النَّاس إلى زوجها، فيكون بينهما حالة من التناغم والحوار الهادف، والمصارحة البناءة، بدلًا من اللُّجوء إلى غريب غير مأمون، أو دردشة على مواقع التَّواصل قد لا يحمد عقباها.
حريٌّ بالزَّوجين أن يفهما كيف يكونان صديقين، وأن يفكِّرا مرَّات كثيرة قبل أن يكشفا أسرار البيت كلٌّ إلى زملائه في العمل فيكون ما نعرف من الفضائح.
ثمَّ إنَّ القرآن الكريم يجعل السَّكن والمودَّة والرَّحمة من خصائص الزَّواج، فلماذا لا نطلبه؟
ومن معاني اللِّباس أنه ساترٌ لعورةِ بني آدمَ، ومنه قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ﴾ [الأعراف: 26].. فكذلك الزَّوجانِ كلٌّ منهما سترٌ لعوراتِ صاحبِه.
ولا يتوقَّف السّترُ عند الفِراشِ فقط، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»، بل في كلِّ شُئونِ الحياةِ الزَّوجيةِ، صغيرِها وكبيرِها، حُلْوِها ومُرِّها، يُسرِها وعُسرِها، غِناها وفقرِها، يسترُ الزَّوج زوجته، وتسترُ الزَّوجة زوجها.
واختلاف وجهات النَّظر بين الأزواج أمر متوقَّع؛ لذا أنصح الأزواج أن يديروا خلافاتهم بينهم، وألَّا تتجاوز عتبة بيتهم، فإنَّها إن خرجت فما تلبثُ أن تلوكَها الألسنةُ، فتُصبحَ نارًا تأكلُ الأخضرَ واليابسَ، وتُحرقُ الملبوسَ واللَّابسَ.
ومن عجيب ما ذكرَه الغزاليُ -رحمه الله- عن بعضِ الصَّالحينَ أنَّه أرادَ طلاقَ زوجتِه، فقيلَ له: ما الذي يُريبُك فيها؟، فقالَ: العاقلُ لا يهتكُ سرَّ امرأتِه، فلما طلَّقَها، قيلَ له: لم طلَّقتَها؟، فقال: مالي ولامرأةَ غيري.
واللِّباسُ يحمي صاحبَه من البردِ والحرِّ، قالَ تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ [النحل: 81]، وكذلك الزَّوجانِ يجب أن يحمي كلُّ واحد منهما صاحبه من الشَّهواتِ المحرَّمةِ، في زمنٍ عبثت فيه الأيادي المجرمةُ، فأكثروا من الصُّور المحرَّمة، والفيديوهات القذرة، وشاع العري، حتَّى أصبحَ غضُّ البصرِ من أصعبِ العباداتِ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ.
وكما أنَّ اللِّباسَ دِفءٌ للجسدِ، فكذلك الزَّواجُ دفءٌ للمشاعرِ والأحاسيسِ، وتبادلُ كلامِ الحبِّ بين الزَّوجين ليس ضعفًا كما يظنُّ بعض الرِّجال، بل إنَّ الحبَّ تحتاجُه النُّفوسُ كما تحتاجُ الطَّعامَ والشَّرابَ والطَّعامَ، وإذا لم تُشبع عاطفة الزَّوجين في البيت طلبته من خارج البيت، وهذا نبيُّنا عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُعلِنُ حُبَّه لزوجَاتِه، وكَانَ إِذَا شَرِبَتْ عَائشَةُ -رَضيَ اللهُ عَنها- مِنَ الْإِنَاءِ أَخَذَهُ فَوَضَعَ فَمَهُ فِي مَوْضِعِ فَمِهَا وَشَرِبَ، وَكَانَ إِذَا تَعَرَّقَتْ عَرْقًا -وَهُوَ الْعَظْمُ الَّذِي عَلَيْهِ لَحْمٌ- أَخَذَهُ فَوَضَعَ فَمَهُ مَوْضِعَ فَمِهَا.
وكم من البُيوتِ قد هُدمتْ، بسببِ الجفافِ العاطفيِّ، والزَّوجةُ أشدُّ حاجةً من الرَّجل في هذا الجانب فليتدبر الرَّجل.
وإذا كان اللِّباسُ يُحيطُ بالبدنِ إحاطةً تامةً، فإنَّ الزَّوجُ والزَّوجةُ ينبغي أن يحيط كلٌّ منها الآخرِ بالرِّعايةِ والنُّصحِ، يقول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ في أهله رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رعيَّته، وَالْمَرْأَةُ في بَيْتِ زوجها رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رعيَّتها».
لا تجعلْها تشعرُ بالخوفِ وأنتَ موجودٌ معها، ولا تجعلْها تحسُّ بالقلقِ وأنتَ بعيدٌ عنها، املأ حياتَها نعيمًا وسعادةً، واجعل ما تقدِّمُه لها صدقةً وعبادةً، كنْ لها الأب الرَّحيمُ، والأخُّ الكريمُ.
ولمَّا كان الزَّواجِ يُحفظُ به البصرُ وتُسترُ به العوراتِ، كانَ للشَّيطانِ فيه مدخلٌ عظيمٌ، يحاول كشف العورات، وفضح السَّوءات، فهو يجتهدُ لهدمِ صَرحِ الزَّوجيةِ، ونزعِ لِباسِ العفَّةِ، فهو ينشرُ جُندَه بينَ البشرِ، وأعظمُهم من يأتي بتفريق بين الزَّوجين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ، فَيَلْتَزِمُهُ».
فلننتبه إلى هذا الميثاق الغليظ، ونحفظه من مكائدِ الشَّيطانِ، ونتعامل معًا انطلاقًا من قول رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ –أيْ: لا يُبغِضْ- مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ».
وليعلم الزَّوجان أنَّ من الخيريَّة أن يكون الرَّجل خيرًا لأهل بيته، وأن تكون المرأة كذلك، فانظرْ إلى الإيجابياتِ ولا تُركِّزْ على السَّلبياتِ، واجعلْ أفضلَ خيرِك لأهلِك، واعلم أنَّ هذا من كمالِ إيمانِ المؤمنِ، كما قالَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أَكْمَلُ المؤْمِنِينَ إِيمَانًا، أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُهُمْ خِيَارُهُمْ لِنِسَائِهِمْ».
والعاقلُ لا يخلعُ لباسَه، ويكشفُ عورتَه، بل يُحافظْ عليه نظيفًا أنيقًا، زينةً وجمالًا.
أيُّها الرِّجال، حافظوا على زوجاتكم، وأيَّتها النساء، حافظوا على أزواجكنَّ.
فيديو قد يعجبك: