قصص الأنبياء (25): سليمان -عليه السلام- وقصته مع بلقيس ملكة سبأ
كتب- إيهاب زكريا:
في حلقات يومية، وخلال شهر رمضان المبارك، يقدم مصراوي للقارئ الكريم قصص الأنبياء، استنادا لمصادر معتبرة في السيرة والتاريخ الإسلامي، وفي الحلقة الخامسة والعشرين يقدم "مصراوي" قصة سليمان -عليه السلام- فورد في: "كتاب" الكامل لابن الأثير: أعطى الله سبحانه وتعالى لسيدنا سليمان عليه السلام مزايا فريدة، وصفات لم توجد في غيره من الأنبياء والرُّسل؛ حيث كان يتولّى الحكم، وقد فهَّمه الله لغة الطير
بِلْقِيس ملكةُ سَبَأ
تحدث موقع "دار الإفتاء المصرية" عن قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ فقال: كانت بِلْقِيس ملكة على سبأ بأرض اليمن، وقد اشتهر أمرها بسبب القصَّة الشَّيِّقَة التي ذكرها الله في القرآن عنها وتحوُّلِها من الكفر بالله إلى الإيمان به، على يد نبي الله سليمان عليه السلام.
كان الله قد أعطى سيدنا سليمان عليه السلام مُلْكًا عظيمًا، وعلَّمه لغةَ الطَّيرِ وكانوا جزءًا من مملكته، وقد تفقَّدَ الطير ذات مرة فلم يجد الهُدْهُدَ وتوعَّدَه بالعذاب أو الذبح إن لم يأته بمبرِّرٍ لغيابه، فلما حضر الهدهد أخبره أنه كان في مهمة يأتيه من خلالها بخبر مملكة سبأ؛ حيث وجد امرأة ملكة عليهم، وهي وقومها يسجدون للشمس من دون الله وصدَّهم الشيطان عن عبادته سبحانه وتعالى؛ فقال له سليمان: ﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ۞ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل: 27-28]، وأرسله برسالة إلى هذه الملكة يدعوها فيها وقومها إلى الإسلام لله عز وجل والدخول تحت ملك سليمان.
وهنا تبدَّتْ حكمة هذه الملِكة، فلم تنفرد برأيٍ أو تستبد بقرارٍ يتعلَّق بهذه الدعوة، بل دعت كبار قومها وممثليهم تستشيرهم وتأخذ برأيهم؛ قال تعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ۞ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۞ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ۞ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ [النمل: 29-32].
فانبرى القوم يُظهرون شجاعتهم وقوتهم واستعدادهم للردِّ على دعوة سليمان بقتاله، ﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ [النمل: 33].
حكمة بلقيس
وهنا بَدَتْ أكثر حكمة منهم، مالكةً لزمام أمرها لا تحكمها الانفعالات، بل تنظر في عواقب الأمور وتقدر مآلاتها، فقالت: إن النصر غير مؤكَّد، ومن شأن الملوك إذا دخلوا القرى محاربين أن يفسدوها ويجعلوا العزيز فيها ذليلًا، وأنها قررت أن تسلك سبيل الصلح، وأن ترسل له بهديةٍ يتقرَّر على إثر رد فعل سليمان عليها السبيل الذي ستسلكه تجاهَهُ، فإن قَبِلَها فهو مَلِكٌ دُنيويٌّ، وإن رفضها فهو نبيٌّ من عند الله لا تُغريه الهدية ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ۞ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل: 34-35].
فما كان من سيدنا سليمان عليه السلام إلا أن رفض هديَّتها، وأنكر هذا الفعل منها، فإنه رشوة لصرفه عن الدعوة إلى الله، وهو لا ينتظر مالًا أو عَرَضًا من أعراض الدنيا، وهدَّدَهم بإرسال جنود لا يستطيعون مواجهتهم، وأنه سيخرجهم من ملكهم صاغرين، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ۞ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [النمل: 36-37].
طاعة بلقيس لسليمان عليه السلام
فلما علمت بِلقيس بهذا الرفض وتهديد سليمان لها، أدركت أنه نبيٌّ من عند الله لا يغرَّه مالٌ ولا تستميله هدايا من أعراض الدنيا، فقررت أن تذهب إليه وأن تدخل في طاعته، فأراد سيدنا سليمان حين اقتربت من الوصول إليه أن يُرِيَها مظاهر قدرة دولته، فقال لحاشيته: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 38]، فقال عفريت من الجنِّ أنه يمكنه المجيءُ به قبل أن يقوم سليمان من مقامه، ثم قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنه سيأتيه به قبل أن يرتدَّ إليه طرفه، واختلف العلماء في تحديد المراد بالذي عنده علم الكتاب، هل هو أحد وزراء سليمان؟ أو أحد الملائكة؟ أو سليمان نفسه؟ أو غير ذلك؟، وعلى كلٍّ فقد جيء بعرش بلقيس بسرعة، فلما رآه سليمان أمامَه مستقرًّا شكر الله سبحانه وتعالى على فضله وتمكينه من هذه النعم.
ثم طلب من مَلَئِه أن يغيِّروا في أوصاف عرش بلقيس، ليرى إن كانت ستعرفه أم لا، اختبارًا لرجاحة عقلها؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 42]، أي قالت: كنا مسلمين من قبل هذه المعجزة، وقيل: بل هو من كلام سيدنا سليمان.
ثم قال تعالى: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل: 43]، أي صدَّها عن إعلان إسلامها قبل مجيئها إلى سليمان أنها كانت من قوم راسخين في الكفر، فانتظرت حتى أتت إلى سليمان؛ ليروا بأنفسهم دلائل نبوته فيسلموا أيضًا، وهذا من رجاحة عقلها أيضًا.
لقد مثَّلت قصة بلقيس، ملكة سبأ، نموذجًا للمرأة الراجحة العقل، والحاكمة الرشيدة، التي تستمع لغيرها وتستشير ملأها، ولا تنفرد برأي أو تستبد بقرار، ثم هي مع ذلك منحازة للحقِّ، حين تتبيَّنُه، فقد آمنت بدعوة سيدنا سليمان ودخلت في ملكه، حين تبيَّنَتْ بالدلائل صحة نبوة سليمان عليه السلام، وأتت له بقومها حتى يُسلموا معها.
فيديو قد يعجبك: