الصيامُ.. ومقامُ الإحسان
د. رجب محمد سالم
عضو مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوي الإلكترونية، وأستاذ البلاغة والنقد بجامعة الأزهر
إن مقامَ الإحسان أحدُ المصطلحات التي وردت في الحديث الصحيح المشهور، أنه: (كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: ما الإيمَانُ؟ قالَ: الإيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ ومَلَائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، وبِلِقَائِهِ، وتُؤْمِنَ بالبَعْثِ. قالَ: ما الإسْلَامُ؟ قالَ: الإسْلَامُ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، ولَا تُشْرِكَ به شيئًا، وتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ. قالَ: ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ) ( ).
وإذا كان مقامُ الإسلام هو مقام أداء العبادات الظاهرة والمحافظة عليها تسليماً وطاعةً لله، ومقامُ الإيمان هو مقام التحقُّق بأركان الاعتقاد الصحيحة، فإن مقامَ الإحسان هو الغاية والثمرة للإسلام والإيمان.
فهو المقامُ الذي يجعل رحمةَ الله قريبةً من صاحبه، مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) ( )، وهو مقام يحب الله أهله، كما أخبرنا القرآن: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ( ).
والحديثُ الشريفُ يرسم لنا المنهجَ الواضح لبلوغ ذلك المقام من مقامات العبادة لله، وهو مراقبةُ الله في كل حركة وسكنة، بحيث تكون كل أفعالنا وأقوالنا موافقةً لما أمرنا به، مستشعرين عظمته وهيمنته حتى كأننا نراه رأْيَ العين، فإن لم نكن نراه بأعيننا فإنه بلا شك يرانا ويطلع على أحوالنا.
وليس هناك عبادةٌ من العبادات يتحقق فيها ما سبق على الوجه الأتم مثلُ عبادة الصوم.
فالصومُ هو العبادة التي شَرَعها اللهُ لتحقيق التقوى، مصداقاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ( ).
وهو العبادةُ التي تتحقق فيها مراقبةُ الله سبحانه على أعظم وجه، إذ الصائم إن خشيَ نظرَ الناس إليه إن أفطر في العلانية، فبإمكانه أن يترك الصيام سراً، ويتمتع بما شاء مما يجب الإمساك عنه في الصيام، حيث لا حسيب عليه ولا رقيب من البشر، فلما استمر على امتناعه في السر كما هو في العلانية، كان الظاهرُ من حاله أنه مراقبٌ لله في صومه، راغبٌ في الإخلاص على خير ما يكون، فلولا هذا الشعورُ برؤية الله ومعيَّته، لا استسلم الصائم لرغباته وشهواته؛ تلبية لحاجة جسده حين تغيب أعينُ الرُّقَبَاء.
ولأجْلِ ذلك كان جودُ الله وعظيمُ فضله على الصائم، والثوابُ الذي أعده له مما اختص الله تعالى به نفسه، كما صح في الحديث: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) ( ).
ولغَلَبةِ هذا الحال من مراقبة الله تعالى، واستشعارِ رؤيته واطلاعه على عباده، كان حال صحابة النبي في يوم صومهم مختلفاً عن بقية الأيام، كما قال سيدُنا جابر بن عبد الله: (إذا صمتَ فليصم سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمآثم، ودَعْ أذى الخادم، وليكنْ عليك وقارٌ وسكينةٌ يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء) ( ).
إن الصيامَ فرصةٌ عظيمة لاستشعارِ هذه المعاني الجليلة، والتحررِ من أسر العبودية للخلق ومراقبتهم، إلى مقامات أعلى وأرحب من مراعاة نظر الله تعالى ومراقبته.
فالسعيد من اغتنم هذه الأيام المباركة وتحقق فيها بتقوى الله وخشيته ومراقبته، ولم يكن صيامه مجرد امتناع ظاهر عن الطعام والشراب والمفطرات، دون إدراكٍ للغاية العظمى من وراء ذلك، وإلا فإن مَن حَجَبَتْه الأمورُ الظاهرة عن الحِكَمِ العالية؛ لم يكن له من صيامه إلا الجوع والعطش.
وصلَّى اللهُ على سيدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّم
فيديو قد يعجبك: