هجرة الرسول وهجرة الأمة
بقلم الشيخ – أكرم عقيل مظهر (رحمه الله)
منذ لحظات دخلت إلى بيتي بعد سفر قصير في مدته، طويل في مسافته، فقد عدت من مدينة أسوان بعد زيارة قصيرة مدتها يوم ونصف يوم.. وقد كان الغرض من وراء السفر هو حضور ليلة الاحتفال بالعام الهجري الجديد تلبية لدعوة السادة الأشراف الأدارسة في أسوان.
وقد أمضيت النهار في زيارة معالم المدينة الجميلة، وبعد الوقوف على السد العالي واستعادة ملحمة بنائه، ومضي بعض الوقت أقص على ولدي الأكبر الذي كان في صحبتي لزيارة أسوان للمرة الأولى ملحمة بناء السد العالي، محاولًا إحياء معاني العزة في النفس بالانتساب لهذا البلد الكريم، وحريصًا على غرس معاني الانتماء في قلب هذا الشاب في مواجهة موجة التغريب.
وفي المساء توجهت إلى مقر الاحتفال بالعام الهجري فوجدت سرادقًا ضخمًا فخمًا عليه لافتات الترحيب من السادة الأشراف الذين ينتهي نسبهم إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب، وقد صحبني وإخواني أحدهم من مقر الإقامة إلى مكان الاحتفال.
وهناك وفي هذه البلدة الطيبة يمكن أن نرى بوضوح فطرة المسلم السليمة دون تلويث أو تزييف في محبتهم وولائهم واحترامهم لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كوكبة من العلماء والمقربين والمبتهلين عشنا معهم ليلة لإحياء معاني الصلة في القلوب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمن كثرت فيه المحاولات التي تعمل على قطع الرباط بيننا وبينه صلوات ربي وسلامه عليه وآله.
فهذا يطعن في سنته، وهذا يتطاول على أصحابه، والآخر ينهى عن زيارته، وغيره يطعن في ذاته محاولًا أن يفرق لنا بين محمد الإنسان ومحمد النبي، إلى آخر هذه الترهات التي هي أشبه بسمادير السكران.
في الهجرة ودروسها عشنا مع العلماء ونستمع، وننصت، ونعيش الحدث.. ولكن لا نعيشه من الناحية التاريخية، فكلنا يحفظ أحداث الهجرة، ولكن نعيش بالتدبر في معاني النصرة والفداء من أصحاب رسول الله.
فهذا علي بن أبي طالب -عليه سلام الله- ينام في فراشه، وهذا الصديق رضي الله عنه يحوطه بالعناية والرعاية، وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تخاطر بنفسها لتوصل له ولصاحبه الطعام. وهنا نتساءل وأين نحن؟ وما دورنا؟ وما مهمتنا؟
هل جعلنا الله من أمته لنقص القصة في كل عام وتمر الأعوام والأعوام ونحن على هذا الحال؟
إن هؤلاء الأئمة الذين أبرز الله على أيديهم معاني المحبة والنصرة والبذل لهذا الدين ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم إنما فتحوا لنا الباب، ورسموا لنا طريقًا لنسير على دربهم.
فإذا بنا نأتي لنأكل ونشرب ونتناسل ونجمع المال في سكرة وغفلة دون التفات إلى حقيقة شرف الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن المواسم التي تمر علينا إنما هي وقفات للحساب والمراجعات، ومع الحدث نجد دروسًا وعبرًا إذا التفتنا إليها أيقظت أنوارها قلوبنا من غفلتها، وردت أسرارها نفوسنا عن غوايتها، ولكن من الذي يستمع، وممن يستمع، فمن الذي ينصت.
رأيت مئات المحبين الذين جاءوا لإحياء الذكرى، بل إحياء قلوبهم بالذكرى، فرأيت معاني التعظيم ومظاهر التوقير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلتهم بالسلالة المباركة أدام الله بقاءها، وحفظها حرزًا ونصرة لهذا الدين.
فما كل هذه الخدمة والأدب والتوقير للسادة من آل البيت إلا حقائق اتصال ووصال بجدهم الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
والحق أنني قد سررت سرورًا عظيمًا لما رأيت، حيث شعرت أن الحب والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما زال مستقرًّا في قلوب المسلمين، وإن غفل بعضهم عن هذه المعانى، إلا أن الخير في أمته كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم كان وسيكون إلى يوم الدين.
إن كان النبي قد هاجر فقد هاجر ولم يهجر، وإن كان قد خرج فقد أخرج ولم يخرج، خرج النبي حاملًا هم الدعوة والبلاغ، فدخل المدينة، فنارت وأضاءت، بل صارت مصدرًا لإشعاع النور إلى بقاع الأرض.. كيف لا ؟ وفيها السراج المنير، قال تعالى {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}.. [الأحزاب : 45-46].
خرج هؤلاء الرجال بعد أن دخل المدينة فوجد قلوبًا مفتوحة ليسكن فيها، فيحبونه أكثر من نفوسهم وأولادهم وأموالهم.
سراج منير، منه يستمد النور، ولا حرج أن نستمد من حضرته ما استودعه فيه ربه، فقد أعطاه النور، وجعله منيرًا، ليستمد من حضرته من أراد وطلب النور، فهو قاسم كما أخبر، والله يعطي.
وفي مكة تفجر النور، فسرى لقلوب عباد اختارهم الله على علم، ليكونوا أساسًا متينًا، وفي المدينة تلقاه رجال آووا ونصروا وكانوا للدين درعًا وحصنًا حصينًا.
ففي مكة وضع الأساس، وفي المدينة علا البناء، ومنها خرج رجال عرفوا معنى المحبة والنصرة لرسول الله، يسالمون من سالم، ويحاربون من حارب، يبذلون في محبته النفس والمال، ويفدونه بأرواحهم عن طيب خاطر، لا يطلبون من وراء ذلك إلا المرافقة في الجنة.
وبهذا الحال فتحوا قلوبًا في الشرق والغرب قبل أن يفتحوا البلاد.
فأين نحن؟ وما دورنا؟ ولأي هم ومهمة نعيش ؟
في الهجرة والمهاجر، عشنا هذه الليلة، تحوطنا محبة صادقة وأخوة في الله لمسناها في كل من لقينا.
إن أمة النبي تحتاج أن تخرج هي الأخرى في هجرة جديدة، غير أن هذه الهجرة ليست من مكان إلى مكان، ولكنها هجرة من حال إلى حال.
تحتاج أن تستفيق، حكامًا ومحكومين، نحتاج كلنا أن نستيقظ من هذه الغفلة، وأن نحيا معنى المحبة لهذا النبي العظيم؛ لأننا به صرنا أمة، وبه نعود ونعيش معنى الأمة، به نرجع إلى ما كان، ويحيا فينا ما مات.
يا أمة النبي، إن كنا قد انتفضنا غضبًا بعد الرسوم المسيئة، فإن من بيننا من يسيء ويتطاول، وينخر في عظامنا كما ينخر السوس، متطاولًا على الجناب المحمدي العظيم، فاحذروا.
نعم إنه بشر، ولكنه الإنسان الكامل.. نعم هو بشر، ولكنه لا ينطق عن الهوى.. نعم هو بشر، ولكنه المشرع بلاغًا عن ربه، فلا يصح في حقه الخطأ.
يا أمة النبي، في ذكرى عام هجري جديد أعيدوا فهم معنى التوقير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واخشوا على أنفسكم الفتنة في هذا الأمر، فإن رباطنا بالنبي هو رباطنا بالدين، إن انفرط عقد هذ انفرط عقد ذاك.
ولله در البوصيري إذ يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فيديو قد يعجبك: