تفسير الشعراوي للآية 63 من سورة البقرة
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.. [البقرة : 63].
يمتنُّ الله سبحانه وتعالى مرة أخرى على بني إسرائيل بالنعم التي أنعم بها عليهم ويذكرهم بجحودهم بها.. ولكننا نلاحظ أن القرآن الكريم حينما يتكلم عن اليهود.. يتكلم عنهم بالخطاب المباشر.. فهل الذين عاصروا نزول القرآن وهم الذين أخذ الله تبارك وتعالى عليهم الميثاق.. هؤلاء مخاطبون بمراد آبائهم وأجدادهم الذين عاصروا موسى عليه السلام.
نقول أنه كان المطلوب من كل جد أو أب أن يبلغ ذريته ما انتهت إليه قضية الإيمان.. فحين يمتن الله عليهم أنه أهلك أهل فرعون وأنقذهم.. يمتن عليهم لأنه أنقذ آباءهم من التذبيح.. ولولا أنه أنقذهم ما جاء هؤلاء اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فهم كانوا مطمورين في ظهور آبائهم.. ولكي ينقذهم الله كان لابد أن تستمر حلقة الحياة متصلة.. فمتى انتهت حياة الأب قبل أن يتزوج وينجب انتهت في اللحظة نفسها حياة ذريته.. الشيء نفسه ينطبق على قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ}.. إمتنان على اليهود المعاصرين لنزول القرآن.. لأنه سبحانه وتعالى لو لم ينقذ آباءهم من الموت عطشا لماتوا بلا ذرية.
إذن كل إمتنان على اليهود في عهد موسى هو إمتنان على ذريته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والحق سبحانه وتعالى أخذ على اليهود الميثاق القديم.. ولولا هذا الميثاق ما آمنوا ولا آمنت ذريتهم.
وقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور}.. أي أن الله تبارك وتعالى يذكرهم بأنهم بعد أن نجوا وأغرق الله فرعون وقومه ذهب موسى لميقات ربه ليتلقى عنه التوراة.. فعبد بنو إسرائيل العجل. وعندما عاد موسى بالتوراة وبالألواح.. وجدوا في تعاليمها مشقة عليهم.. وقالوا نحن لا نطيق هذا التكليف وفكروا ألا يلتزموا به وألا يقبلوه.
التكليف هو من مكلف هو الله سبحانه وتعالى.. وهم يقولون إن الله كلفهم ما لا يطيقون.. مع أن الله جل جلاله لا يكلف نفسا إلا وسعها.. هذا هو المبدأ الإيماني الذي وضعه الحق جل جلاله.. يظن بعض الناس أن معنى الآية الكريمة: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.. [البقرة : 286].
يظنون أننا نضع أنفسنا حكما على تكليف الله.. فإن كنا نعتقد أننا نقدر على هذا التكليف نقل هو من الله وإن كنا نعتقد أننا لا نقدر عليه بحكمنا نحن.. نقل الله لم يكلفنا بهذا لأنه فوق طاقتنا.. ولكن الحكم الصحيح هل كلفك الله بهذا الأمر أو لم يكلفك؟ إن كان الله قد كلفك فهو عليم بأن ذلك في وسعك؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
ونحن نسمع الآن صيحات تقول أن العصر لم يعد يحتمل.. وإن ظروف الدنيا وسرعة الحركة فيها وسرعة الأحداث هي تبرير أنه ليس في وسعنا أن نؤدي بعض التكاليف.. ربما كان هذا التكليف في الوسع في الماضي عندما كانت الحياة بسيطة وحركتها بطيئة ومشكلاتها محدودة.
نقول لمن يردّد هذا الكلام: إن الذي كلفك قديما هو الله سبحانه وتعالى. إنه يعلم أن في وسعك أن تؤدي التكليف وقت نزوله.. وبعد آلاف السنين من نزوله وحتى قيام الساعة.. والدليل على ذلك أن هناك من يقوم بالتكليف ويتطوع بأكثر منه ليدخل في باب الإحسان؛ فهناك من يصلي الفروض وهي التكليف.. وهناك من يزيد عليها السنن.. وهناك من يقوم الليل.. فيظل يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بالتطوع من جنس ما فرض.. وهناك من يصوم رمضان ومن يتطوع ويصوم أوائل الشهور العربية.. أو كل اثنين وخميس على مدار العام أو في شهري رجب وشعبان.. وهناك من يحج مرة ومن يحج مرات.. وهناك من يلتزم بحدود الزكاة ومن يتصدق بأكثر منها.
إذن كل التكاليف التي كلفنا الله بها في وسعنا وأقل من وسعنا.. ولا يقال أن العصر قد اختلف، فنحن الذين نعيش هذا العصر.. بكل ما فيه من متغيرات نقوم بالتكاليف ونزيد عليها دون أي مشقة، والله سبحانه وتعالى رفع فوق بني إسرائيل الطور رحمة بهم.. تماما كما يمسك الطبيب المشرط ليزيل صديداً تكوَّن داخل الجسد.. لأن الجسد لا يصح بغير هذا.
لذلك عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصيب بفضله ورحمته بني إسرائيل رغم أنوفهم.. رفع فوقهم جبل الطور الموجود في سيناء.. وقال لهم تقبلوا التكليف أو أطبق عليكم الجبل.. تماما كما أهلك الله تبارك وتعالى الذين كفروا ورفضوا الإيمان وقاوموا الرسل الذين من قبلهم.. قد يقول البعض إن الله سبحانه وتعالى أرغم اليهود على تكليف وهو القائل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}.. [البقرة: 256].
وقوله تعالى: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}.. [الكهف: 29].
نقول إن الله جل جلاله لم يرغم أحدا على التكليف.. ولكنه رحمة منه خيرهم بين التكليف وبين عذاب يصيبهم فيهلكهم.. وهذا العذاب هو أن يُطْبقَ عليهم جبل الطور.. إذن المسألة ليس فيها إجبار ولكن فيها تخيير.. وقد خُيِّرَ الذين من قبلهم بين الإيمان والهلاك فلن يصدقوا حتى أصابهم الهلاك.. ولكن حينما رأى بنو إسرائيل الجبل فوقهم خشعوا ساجدين على الأرض.. وسجودهم دليل على أنهم قبلوا المنهج.. ولكنهم كانوا وهم ساجدون ينظرون إلى الجبل فوقهم خشية أن يطبق عليهم.
ولذلك تجد سجود اليهود حتى اليوم على جهة من الوجه.. بينما الجهة الأخرى تنظر إلى أعلى وكان ذلك خوفا من أن ينقض الجبل عليهم.. ولو سألت يهودياً لماذا تسجد بهذه الطريقة يقول لك أحمل التوراة ويهتز منتفضا.. نقول أنهم اهتزوا ساعة أن رفع الله جبل الطور فوقهم.. فكانوا في كل صلاة يأخذون الوضع نفسه، والذين شهدوهم من أولادهم وذريتهم.. اعتقدوا أنها شرط من شروط السجود عندهم.. ولذلك أصبح سجودهم على جانب من الوجه.. ونظرهم إلى شيء أعلاهم يخافون منه.. أي أن الصورة التي حدثت لهم ساعة رفع جبل الطور لا زالوا باقين عليها حتى الآن.
في هذه الآية الكريمة يقول الحق تبارك وتعالى: {وإذا رفعنا فوقكم الطور..} وفي آية أخرى يقول المولى جل جلاله في نفس ما حدث: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.. [الأعراف: 171].
(نتقنا) كأن الجبل وتد في الأرض ونريد أن نخلعه.. فنحركه يمينا ويسارا حتى يمكن أن يخرج من الأرض.. هذه الحركة والزحزحة والجذب هي النتق.. والجبل كالوتد تماما يحتاج إلى هز وزعزعة وجذب حتى يخرج من مكانه.. وهذه الصورة عندما حدثت خشعوا وسجدوا وتقبلوا المنهج.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّةٍ}.. الأخذ عادة مقابل للعطاء.. أنت تأخذ من معطٍ.. والتكليف أخذ من الله حتى تعطي به حركة صلاح في الكون.. إذن كل أخذ لابد أن يأتي منه عطاء؛ فأنت تأخذ من الجيل الذي سبقك وتعطي للجيل الذي يليك.. ولكنك لا تعطيه كما هو، ولكن لابد أن تضيف عليه. وهذه الإضافة هي التي تصنع الحضارات.
وقوله تعالى: (بقوة).. أي لا تأخذوا التكليف بتخاذل.. والإنسان عادة يأخذ بقوة ما هو نافع له.. ولذلك فطبيعة مناهج الله أن تؤخذ بقوة وبيقين.. لتعطي خيرا كثيرا بقوة وبيقين.. وإذا أخذت منهج الله بقوة فقد ائتمنت عليه وأن صدرك قد انشرح وتريد أن تأخذ أكثر.. لذلك تجد في القرآن الكريم يسألونك عن كذا.. دليل على أنهم عشقوا التكليف وعلموا أنه نافع فهم يريدون زيادة النفع.
ومادام الحق سبحانه وتعالى قال: {خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّةٍ}.. فقد عشقوا التكليف ولم يعد شاقا على أنفسهم.
وقوله تعالى: {واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.. إذكروا ما فيه أي ما في المنهج وأنه يعالج كل قضايا الحياة واعرفوا حكم هذه القضايا.. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي تطيعون الله وتتقون عقابه وعذابه يوم القيامة.
المصدر: موقع نداء الإيمان
فيديو قد يعجبك: