تفسير الشعراوي للآية 80 من سورة البقرة
قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.. [البقرة : 80].
هنا يكشف الله سبحانه وتعالى فكر هؤلاء الناس.. لقد زين لهم الشيطان الباطل فجعلهم يعتقدون أنهم كسبوا فعلا وأنهم أخذوا المال والجاه الدنيوي وفازوا به.. لأنهم لن يعذبوا في الآخرة إلا عذابا خفيفا قصيرا.. ولذلك يفضح الله تبارك وتعالى ما يقولونه بعضهم مع بعض.. ماذا قالوا؟: {وقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}.
المس يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء.. ولكن لا يحس أحدهما بالآخر إلا إحساسا خفيفا لا يكاد يذكر.. فإذا أتيت إلى إنسان ووضعت أَنَا مِلَكَ على يده يقال مسست.. ولكنك لم تستطع بهذا المس أن تحس بحرارة يده أو نعومة جلده.. ولكن اللمس يعطيك إحساسا بما تلمس: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب.. ثم أقل الأقل في الزمن فقالوا أياما معدودة.. الشيء إذا قيل عن معدود فهو قليل.. أما الشيء الذي لا يحصى فهو الكثير.. ولذلك حين يتحدث الله عن نعمه يقول سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ}.. [النحل : 18].
فمجرد الإقبال على العد معناه أن الشيء يمكن إحصاؤه.. فإن لم يكن ممكنا لا يُقبل أحد على عده، ولا نرى من حاول عدَّ حبات الرمل أو ذرات الماء في البحار.. نِعَمُ الله سبحانه وتعالى ظاهرة وخفية لا يمكن أن تحصى، ولذلك لا يقبل لا يُقبل أحد على إحصائها.. وإذا سمعت كلمة (أياما معدودة) فأعلم أنها أيام قليلة.. ولذلك نرى في سورة يوسف قول الحق جل جلاله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}.. [يوسف: 20].
قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.. دليل على غبائهم لأن مدة المس لا تكون إلا لحظة.. ولكنها أماني وضعها الشيطان في عقولهم ليأتي الرد من الله في قوله سبحانه: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} أي إذا كان ذلك وعداً من الله، فالله لا يخلف وعده. والله يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم لستم أنتم الذين تحكمون وتقررون ماذا سيفعل الله سبحانه وتعالى بكم.. بل هو جل جلاله الذي يحكم.. فإن كان قد أعطاكم عهدا فالله لا يخلف وعده.
وقوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.. هنا أدب النبوة والخلق العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فبدلا من أن يقول لهم أتفترون على الله أو أتكذبون على الله.. أو أتختلقون على الله ما لم يقله.. قال: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} إن الذي يختلق الكلام يعلم أنه مختلق.
إنه أول من يعلم كذب ما يقول، وقد يكون له حجة ويقنع من أمامه فيصدقه، ولكنه يظل يعلم إن ما قاله مختلق رغم أنهم صدقوه.. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها".
إذن مختلق الشيء يعرف إن هذا الشيء مختلق. وهؤلاء اليهود هم أول من يعلم إن قولهم.. {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} قول مختلق.. ولكن لمن يقولون على الله ما هو افتراء وكذب؟ يقولون للأميين الذين لا يعرفون الكتاب.
المصدر: موقع نداء الإيمان
فيديو قد يعجبك: