لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

تفسير الشعراوي للآية 189 من سورة البقرة

08:00 ص الجمعة 10 أبريل 2015

تفسير الشعراوي للآية 189 من سورة البقرة

قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.. [البقرة : 189].

الأهلة جمع هلال، وسمى هلالاً لأن الإنسان ساعة يراه يهل، أي يرفع صوته بالتهليل، ويجيب الحق سبحانه وتعالى الجواب الذي يحمل كل التفاصيل عن القمر، وهو الكوكب الذي خضع لنشاطات العقل حتى يكتشفه، والعرب القدامى لم يكونوا يعلمون شيئاً عن ذلك القمر، ولكنهم كانوا يؤرخون به، وعلمهم به لم يزد على حدود انتفاعهم به. ولم يصلوا إلى الترف العقلي الذي يتأملون به آيات الله في الكون، فكل آيات الكون يُنتفع بها ثم ينشط العقل بعد ذلك، فنعرف السبب، وقد لا ينشط العقل فتظل الفائدة هي الفائدة.

وأراد الحق سبحانه أن يلفتنا لمبدأ هام، وهو أن يعلمنا كيف نستفيد من الآيات الكونية مثل القمر، لا يكفي ظهوره واختفاؤه، وتغير حجمه، لأن هذه لن يتسع لها العقل، بل نستفيد منه كميقات، ونستخدمه لقياس الزمن. فإذا كنا ونحن نعيش في القرن العشرين، لم يعرف العلماء سبباً لظواهر القمر، فكيف كان حال الذين سألوا عنها منذ أربعة عشر قرناً؟

قال العلماء المعاصرون في تفسيراتهم مثلاً: إن الشمس مثل حجم الأرض مليونا وربع مليون مرة، والقمر أصغر من الأرض، وعندما تأتي الأرض بين الشمس والقمر برغم حجم الشمس الهائل فإن الأرض تحجب جزءاً من القمر، هذا الجزء المحجوب بقدر تدوير القوس المحجوب من الأرض ويصبح هذا الجزء من القمر مظلماً.

إن القمر وجوده ثابت لكن الأرض عندما توجد بينه وبين الشمس فهي التي تحجب عنه ضوء الشمس، ويكبر حجم نوره كلما تزحزحت الأرض بعيداً عنه. وعندما تنزاح الأرض بعيداً عنه كلية يظهر في السماء بدراً كاملاً، ثم تعود الأرض بعد ذلك لتحجب عنه جزءاً من الشمس، ويزداد ذلك يوماً بعد يوم، فينقص ضوء الشمس المنعكس عليه تبعاً لذلك، فيقل تدريجياً حتى تأتي الأرض بينه وبين الشمس فلا يظهر منه شيء.

ونقول نحن: إننا عندما لا نرى القمر لا في الليل ولا في النهار برغم أنه موجود في مكانه، نقول: إنه مستور في ظل الأرض، لذلك لا نراه. وهذه الظاهرة لا تحدث للشمس لأن جرم الشمس كبير جداً. وعندما يحدث فإن الأثر يكون قليلا، ويسمى بالكسوف.

وعندما التفت العرب للكون قالوا: ما بال الهلال يصبح هكذا ثم يكبر حتى يصير بدراً، فقال الحق عز وجل: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} إنهم هم يسألون عن الأهلة ودورتها، فقطع الله عليهم خيط تفكيرهم وأعطاهم الخلاصة والنتيجة، فقال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج}. إن هذا الأمر هو الذي يستطيع العقل في ذلك الزمان أن يعرفه، أما ما وراء ذلك فانتظروا حتى يكشف الزمن عنه، وجهلكم به لا يقلل من نفعكم.

لقد كانت كل إجابة لأي سؤال في ذلك الزمان تحتوي على ما يتسع العقل لإدراكه ساعة التشريع، أما بقية الإجابة فالحق يتركها للزمن.

ولا يعطينا إلا ما يفيد التشريع، مثال ذلك: كانوا قديما يقولون: الأرض كرة وأثبت لنا العلم أنها كذلك، ورأيناها بالأقمار الصناعية وانتهت القضية.

وعندما سأل العرب عن الأهلة أخبرنا الحق بأنها مواقيت، والمواقيت جمع ميقات، والميقات من الوقت، والوقت هو الزمن، ونعرف أن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى زمن وإلى مكان. إذن فالزمان والمكان مرتبطان بالحدث فلا يوجد زمان ولا مكان إلا إذا وجد حدث.

والذي يقول: كيف كان الزمن قبل أن يخلق الله الخلق؟. نقول له: الزمن وُجد للحادث وهو المخلوقات والله قديم، وما دام الله قديما وليس حادثا فلا زمان ولا مكان، لا تقل متى ولا أين؛ لأن متى وأين مخلوقة. وكيف نعرف الوقت؟ نحن نعرف الوقت بأنه مقدار من الزمن، لمقدار من الحركة ولمقدار من الفعل.

وأين المكان في هذا التعريف؟ إن الزمان يتحكم أحياناً في المكان، فيقول الزمان هو الأصل، والمكان طارئ عليه، ومرة أخرى يكون المكان هو الأصل، والزمان هو الطارئ عليه، ومرة ثالثة يتلازم الاثنان الزمان والمكان.

ونحن في مصر إذا أردنا الحج فإننا نبدأ الإحرام عند رابغ، ونُسمي رابغ ميقات أهل مصر أي هي المكان الذي لا يتجاوزه من مر عليه إلا وهو محرم.

إذن فالميقات قد أطلق على مكان هو رابغ، ومن فور وصول الإنسان المصري إلى رابغ بغية الحج يحرم، سواء كان الوقت صباحاً أو ظهراً أو عصراً أو مغرباً.

ولكن عندما نبدأ في الصوم فإن الزمن يصبح هو الأصل في صومك في أي مكان تذهب إليه، إن الزمان هو الذي يحدد مواعيد الصوم: في طنطا أو لندن أو في طوكيو، وهكذا نعرف كيف يكون الزمن ميقاتاً.

إذن فمرة يكون الزمن هو المتحكم في الميقات والمكان طارئ عليه، ومرة يكون المكان هو الذي يتحكم في الميقات، والزمن طارئ عليه، ومرة يتحكم الزمان والمكان معاً في الفعل مثل يوم عرفة.

وهكذا نعرف معنى {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}، فنحن بالهلال نعرف بدء شهر رمضان، ونعرف به عيد الفطر، وكذلك موسم الحج وعدة المرأة، والأشهر الحرم، إن كل هذه الأمور إنما نعرفها بالمواقيت. وشاء الحق أن يجعل الهلال هو أسلوب تعريفنا تلك الأمور وجعل الشمس لتدلنا على اليوم فقط، وإن كان لها عمل آخر في البروج التي يتعلق بها حالة الطقس والجو، والزراعة، ولذلك قال: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً}.. [يونس: 5].

وانظر إلى الدقة في الأداء وكيف يشرح الحق للإنسان ماهية النور، وماهية الضوء. إن الشمس مضيئة بذاتها، أما القمر فهو منير؛ لأن ضوءه من غيره؛ فهو مثل قطعة الحجر اللامعة التي تنعكس عليها أشعة الشمس فتعطينا نوراً.

إن القمر منير بضوء غيره، ولذلك يقول الحق في آية أخرى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً}.. [الفرقان: 61].

والسراج في هذه الآية هو الشمس التي فيها حرارة، وجعلها الحق ذات بروج، أما القمر فله منازل وهو منير بضوء غيره؛ وفي ذلك يقول الحق: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب}.. [يونس: 5].

إذن، فعدد السنين وحسابها يأتي من القمر، وفي زماننا إذا أرادوا أن يضبطوا المعايير الزمنية فهم يقيمونها بحساب القمر؛ فقد وجدوا أن الحساب بالقمر أضبط من الحساب بالشمس؛ فالحساب بالشمس يختل يوماً كل عدد من السنين.

ولنفهم الفرق بين منازل القمر وبروج الشمس. إن البروج هي أسماء من اللغة السريانية، وهو: برج الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والعذراء، والأسد، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وعددها اثنا عشر برجا هذه هي أبراج الشمس، ويتعلق بها مواعيد الزرع والطقس والجو، ويحب أن نفهم أن لله في البروج أسراراً، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعلها قسماً حين يقول: {والسمآء ذَاتِ البروج}.

ولذلك تجد أن التوقيت في الشمس لا يختلف؛ فالشهور التي تأتي في البرد، والتي تأتي في الحر هي هي، وكذلك التي تأتي في الخريف، والربيع، وبين السنة الشمسية والسنة القمرية أحد عشر يوما، والسنة القمرية هي التي تستخدم في التحديد التاريخي للشهور العربية ونعرف بداية كل شهر بالهلال: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً}.. [التوبة: 36].

ولذلك كانت تكاليف العبادة محسوبة بالقمر حتى تسيح المنازل القمرية في البروج الشمسية، فيأتي التكليف في كل جو وطقس من أجواء السنة، فلا تصوم رمضان في صيف دائم، ولا في شتاء دائم، ولكن يُقَلِّبُ الله مواعيد العبادات على سائر أيام السنة، والذين يعيشون في المناطق الباردة مثلاً لو كان الحج ثابتا في موسم الصيف لما استطاعوا أن يؤدوا الفريضة، ولكن يدور موسم الحج في سائر الشهور فعندما يأتي الحج في الشتاء ييسر لهم مهمة أداء الفريضة في مناخ قريب من مناخ بلادهم.

وهكذا نجد أن حكمة الله اقتضت أن تدور مواقيت العبادات على سائر أيام السنة حتى يستطيع كل الناس حسب ظروفهم المناخية أن يؤدوا العبادات بلا مشقة. إذن فالمنازل شائعة في البروج، وهذا سبب قول بعض العلماء: إن ليلة القدر تمر دائرة في كل ليالي السنة، وذلك حسب سياحة المنازل في البروج.

إذن فهناك بروج للشمس، ومنازل للقمر، ومواقع للنجوم، ومواقع النجوم التي يقسم بها الله سبحانه في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.. [الواقعة : 75-76].

ولعل وقتا يأتي يكشف الله فيها للبشرية أثر مواقع النجوم على حياة الخلق وذلك عندما تتهيأ النفوس لذلك وتقدر العقول على استيعابه.

إذن كل شيء في الكون له نظام: للشمس بروج، وللقمر منازل، وللنجوم مواقع. وكل أسرار الكون ونواميسه ونظامه في هذه المخلوقات، وقد أعطانا الله من أسرار الأهلة أنها مواقيت للناس والحج. 

وعندما تكلم سبحانه عن الحج أراد أن يعطينا حكماً متعلقاً به؛ فقد كانت هناك قبائل من العرب تعرف بالحمس، هؤلاء الحمس كانوا متشددين في دينهم ومتحمسين له، ومنهم كانت قريش، وكنانة، وخثعم، وجشم، وبنو صعصاع بن عامر. وكان إذا حج الفرد من هؤلاء لا يدخل بيته من الباب لأنه أشعث أغبر من أداء مناسك الحج. ويحاول أن يدخل بيته على غير عادته، لذلك كان يدخل من ظهر البيت، وكان ذلك تشدداً منهم، لم يرد الله أن يُشرَعه. حتى لا يطلع على شيء يكرهه في زوجه أو أهله. وأراد سبحانه عندما ذكر مناسك الحج في القرآن أن ينقي المناسك من هذه العادة المألوفة عند العرب فقال: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لا تجعلوا المسائل شكلية، فنحن نريد أصل البر وهو الشيء الحسن النافع.

والملاحظ أن كلمة (البر) في هذه الآية جاءت مرفوعة، لأن موقعها من الإعراب هو (اسم ليس) وهي تختلف عن كلمة (البر) التي جاءت من قبل في قوله تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب} التي جاءت منصوبة؛ لأن موقعها من الإعراب هو (خبر مقدم لليس). حاول المستشرقون أن يأخذوا هذا الاختلاف في الرفع والنصب على القرآن الكريم. ونقول لهم: أنتم قليلو الفطنة والمعرفة باللغة العربية، فماذا نفعل لكم؟. يصح أن نجعل الخبر مبتدأ فنقول: (زيد مجتهد)، هذا إذا كنا نعلم زيداً ونجهل صفته، فجعلنا زيداً مبتدأ، ومجتهداً خبراً. لكن إذا كنا نعرف إنسانا مجتهداً ولا نعرف من هو؛ فإننا نقول: (المجتهد زيد).

إذن فمرة يكون الاسم معروفاً لك فتلحق به الوصف، ومرة تجهل الاسم وتعرف الوصف فتلحق الاسم بالوصف. وهذا سر اختلاف الرفع والنصب في كلمة (البر) في كل من الآيتين. ونقول للمستشرقين: إن لكل كلمة في القرآن ترتيباً ومعنى، فلا تتناولوا القرآن بالجهل، ثم تثيروا الإشكالات التي لا تقلل من قيمة الكتاب ولكنها تكشف جهلكم.

ثم ما هو (البر)؟ قلنا: إن البر هو الشيء الحسن النافع. ولو ترك الله لنا تحديد (البر) لاختلفت قدرة كل منا على فهم الحسن والنافع باختلاف عقولنا؛ فأنت ترى هذا (حسناً)؛ وذاك يرى شيئا آخر، وثالث يرى عكس ما تراه، لذلك يخلع الله يدنا من بيان معنى البر، ويحدد لنا سبحانه مواصفات الحسن النافع، فما من واحد ينحرف ويميل إلى شيء إلا وهو يعتقد أنه هو الحسن النافع، ولذلك يقول الحق: {ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا}.

إن هذا يدلنا على أن كل غاية لها طريق يوصل إليها، فاذهب إلى الغاية من الطريق الذي يوصل إليها. ويتبع الحق قوله عن البر: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. لا تزال كلمة التقوى هي الشائعة في هذه السورة، وكل حكم يعقبه السبب من تشريعه وهو التقوى.

ونعرف أن معنى التقوى هو أن تتقي معضلات الحياة، ومشكلاتها بأن تلتزم منهج الله. وساعة ترى منهج الله وتطبقه فأنت اتقيت المشكلات، أما من يعرض عن تقوى الله فإن الحق يقول عن مصيره: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}.. [طه: 124].

ولا يظن أحد أن التقوى هي اتقاء النار، لا، إنها أعم من ذلك، إنها اتقاء المشكلات والمخاطر التي تنشأ من مخالفة منهج الله. وليعلم الإنسان أن كل مخالفة منهج الله. وليعلم الإنسان أن كل مخالفة ارتكبها لابد أن يمر عليها يوم تُرتكب فيه هذه المخالفة كما ارتكبها في غيره، فمن لا يحب أن تُجرى فيه المخالفات فعليه ألا يرتكب المخالفات في غيره.

وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضية أخرى، وهذه القضية الأخرى هي التي تميز الأمة الإسلامية بخصوصية فريدة؛ لأنه سبحانه قد أوجد وفطر هذه الأمة على منهاج قويم لم تظفر به أمة من قبل، وهذه الخصوصية هي أن الله قد أمن أمة محمد على أن تؤدب الخارجين على منهج الله؛ فقديماً كانت السماء هي التي تُؤدب هؤلاء الخارجين عن المنهج. كان الرسول يشرح ويبلغ المنهج، فإن خالفه الناس تتدخل السماء وتعاقبهم، إما بصاعقة، وإما بعذاب، وإما بفيضان، وإما بأي وسيلة. ولم يكن الرسل مكلفين بحمل وقسر الناس على المنهج. وحين سأل بنو إسرائيل ربهم أن يقاتلوا، لم يكن قتالهم من أجل الدين مصداقاً للآية الكريمة: {قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا}.. [البقرة: 246].

علة القتال إذن أنهم أُخرجوا من بيوتهم وأُجبروا على ترك أولادهم، فهم عندما سألوا القتال لم يسألوه للدفاع عن العقيدة، وإنما لأنهم أخرجوا من ديارهم وأولادهم.

أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي التي أمنها الله على أن يكون في يدها الميزان، وليس هذا الميزان ميزان تسلط، وإنما هو ميزان يحمي كرامة الإنسان بأن يصون له حرية اختياره بالعقل الذي خلقه الله، فلا إكراه في الإيمان بالله. وقد شرع الله القتال لأمة محمد لا ليفرض به دينا، ولكن ليحمي اختيارك في أن تختار الدين الذي ترتضيه. وهو يمنع سدود الطغيان التي تحول دونك ودون أن تكون حراً مختاراً في أن تقبل التكليف.

ولذلك فالذين يحاولون أن يلصقوا بالإسلام تهمة أنه انتشر بالسيف نقول لهم: إن حججهم ساقطة واهية، وكذلك قولهم: إن الإسلام عندما يفرض الجزية فكأنه جاء لجباية الأموال، نقول لهؤلاء: جزية على مَنْ؟ جزية على غير المؤمن، ومادام قد فُرضت عليه جزية فمعنى ذلك أنه أباح له أن يكون غير مؤمن، لو كان الإسلام يُكره الناس على اعتناقه لما كان هناك مَنْ نأخذ عليه جزية.

إذن فالإسلام لم يُكرهه، وإنما حماه من القوة التي تسيطر عليه حتى لا يُكرهه أحد على ترك دينه، وهو حر بعد ذلك في أن يسلم أو لا يسلم. وكأن الذين ينتقدون الإسلام يدافعون عنه؛ فسهامهم قد ارتدت إليهم.

وهنا تساؤل قد يثور: إذا كان الأمر كذلك فلماذا كانت حروب المسلمين؟ نقول: إن حروب الإسلام كانت لمواجهة الذين يفرضون العقائد الباطلة على غيرهم، وجاء الإسلام ليقول لهؤلاء: ارفعوا أيديكم عن الناس واجعلوهم أحراراً في أن يختاروا الدين المناسب. ولماذا تركهم الإسلام أحراراً؟ لأنه واثق أن الإنسان مادام على حريته في أن يختار فلا يمكن أن يجد إلا الحق واضحاً في الإسلام. ولذلك فكثير من الناس الذين يقرأون قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين..}.. [البقرة: 256].

لا يفطنون إلى أن العلة واضحة في قوله سبحانه من الآية نفسها {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}. إذن فالمسألة واضحة لماذا نُكره الناس وقد وضح أمامهم الحق والباطل؟ نحن فقط نمنع الذين يفرضون عقائدهم الباطلة على الناس؛ فأنت تستطيع أن تُكره القالب، لكن لا تستطيع أن تُكره القلب. ونحن نريد أن ينبع الإيمان من القلب، ولهذا يقول الحق لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].

إن الله لا يريد أعناقاً، لو كان يريد أعناقاً لما استطاع أحد أن يخرج عن قدره سبحانه من يُريد الله أن يبتليه بمرض أو موت فلن ينجو من قدره. إن الحق يريد إيمان قلوب لا رضوخ قوالب. فالذي يجبر الآخرين على الإيمان بالكرباج لن يتبعه أحد، وهو نفسه غير مؤمن بما يفرضه على الناس. ولو كان مؤمنا به لما فرضه على الناس بالقسر؛ إنهم سيقبلونه عن طواعية واختيار عندما يتبيّن لهم أنه الحق المناسب لصلاح حياتهم.

ونحن نلتفت حولنا فنجد أن النظم والحكومات التي تفرض مبادئها بالسوط والقهر تتساقط تباعاً، فعندما تتخلى هذه الحكومات عن السوط والبطش فإن الشعوب تتخلى عن تلك الأفكار. والقرآن هنا يعالج هذه المسألة عندما يتحدث عن القتال وتشريع القتال، الأمر الذي اختص به الحق أمة الإسلام. وهو سبحانه لم يأذن بالقتال خلال فترة الدعوة المكية التي استمرت ثلاثة عشر عاماً، ثم أذن به بعد الهجرة إلى المدينة.

وقد كان من الضروري أن يتأخر أمر القتال؛ لأن الحق أراد أولاً أن يلتفت المسلمون إلى اتباع المنهج حتى يكونوا لغيرهم قدوة، ويروا فيهم أسوة حسنة، لذلك قال الحق: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}.. [البقرة: 109].

وقال سبحانه أيضاً: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ}.. [الأحزاب: 48].

لماذا كل هذا التدرج؟ لأن الحق سبحانه وتعالى علم أن الدعوة للإسلام ستدخل البيوت العربية، فسيضم البيت الواحد كافراً بالله ومؤمناً بالله، ولو أنه سبحانه وتعالى شرع القتال من البداية لصار في كل بيت معركة.

ثم إن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن تلك القبائل العربية بها كثير من خفة وطيش وسفه؛ وكانوا يقتتلون لأتفه الأسباب؛ فمن أجل ناقة ضربها كليب بسهم في ضرعها فماتت اشتعلت الحرب أربعين سنة. وفي ذلك يقول الشاعر عند الحفيظة والغضب:

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم *** طاروا إليه زرافات ووحدانا

والثاني يقول:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا

أي أنهم لا يسألون أخاهم: (لماذا نحارب؟)، وإنما يحاربون بلا سبب ولأي سبب، فالحمية الرعناء تدفعهم للقتال بلا سبب. وفي مقابل ذلك كانت عندهم نخوة للحق، فعندما يرون شخصا قد ظلمه غيره؛ تأخذهم النخوة، ويأخذون على يد الظالم، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يهيج فيهم النخوة حين يرون الضعاف من المسلمين مستضعفين، وقد عزلهم بعض من القوم في شعب أبي طالب وجوعوهم وقاطعوهم حتى اجتمع الخمسة العظام في مكة وقالوا: (كيف نقبل أن نأكل ونشرب ونأتي نساءنا وبنو هاشم وبنو المطلب محصورون في الشعب لا يأكلون ولا يشربون ولا يتبايعون).

لقد كانوا كفاراً، وبرغم ذلك وقفوا موقفاً عظيماً وقالوا: هاتوا الصحيفة التي تعاهدنا فيها على أن نقاطع بني هاشم وبني المطلب ونقطعها؛ واتفقوا على ذلك. وكانوا خمسة من سادات مكة هم: هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية، وأبو البحتري بن هاشم، وزمعة ابن الأسود، والمطعم بن عدي. وكانوا قادة النخوة التي أنهت مقاطعة المسلمين. هكذا نرى أن العرب كانوا يتسمون بالحمية الرعناء وتقابلها النخوة في الحق.

ويعلم الحق سبحانه وتعالى أن نقل أمة العرب مما اعتادته ليس أمراً سهلاً، لذلك أخذهم برفق الهَوَادة. والذين يقولون: لماذا لم يحارب المسلمون أعداءهم من أول وهلة ولماذا لم يقتلوا صناديد الكفر في مكة؟

نقول لهم: إن كثيراً من الذين كنتم ترون قتالهم في بداية الدعوة الإسلامية هم الذين نشروا راية الإسلام من بعد ذلك، ومثال ذلك خالد بن الوليد، الذي كان قائداً مغواراً في صفوف المشركين، وقاتل المسلمين في أول حياته، ثم هداه الله للإسلام وأصبح سيف الله المسلول، ماذا لو قتل هذا القائد الفذ على أيدي المسلمين؟ كان مثل هذا الفعل سيتسبب في حرمان المسلمين من موهبته، تلك الموهبة التي أسهمت في معظم الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق.

إذن شاءت حكمة الله أن يستبقي أمثال خالد وهم خصوم للإسلام في بدء الدعوة لأن الله قد أعد لهم دوراً يخدمون به الإسلام. والذين نالوا من الإسلام أولا هم الذين ستبقى عندهم الحرارة حتى يعملوا عملاً يغفر الله لهم به ما قد سبق.

انظر إلى عكرمة بن أبي جهل كان شوكة في ظهر المسلمين في بداية الدعوة، ثم أسلم وأبلى بلاء حسناً، ولما أصيب في موقعة اليرموك وأوشكت روحه أن تصعد إلى خالقها نظر إلى قائده خالد بن الوليد وقال: أهذه ميتة تُرضى عني رسول الله؟. كأنه كان يعلم أن رسول الله كان قد غضب عليه قبل أن يسلم.

وعمرو بن العاص داهية المسلمين الذي لولاه ما فُتحت مصر. فقد كسب بدهائه أهل مصر فامتنعوا عن قتاله، وناظرهم بعد ذلك حتى استل حقدهم على المسلمين، وأبان لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال موصياتهم (استوصوا بالقبطيين خير لأن لهم رحما وذمة) وفوق هذا فقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض العرب يستقرهم إلى الإسلام.

إذن فمن رحمة الله أنه لم يشأ تشريع القتال من البداية، وإلا لكنا فقدنا كثيراً من قادة الإسلام العظام الذين حملوا لواء الدعوة الإسلامية فيما بعد، وكل إنسان استقاه الإسلام وهو خصم وعدو للإسلام، قدر الله له بعد الإسلام دورا يخدم به الدين الخاتم.

ومن هنا نفهم الحكمة من تأخير القتال في الإسلام، لأن الله أراد أن يمحص ويختبر، وألا يدخل هذا الدين إلا من يتحمل متاعب هذا الدين، ومشاقه لأنه سيكون مأموناً على مجد أمة، وعلى منهج سماء، وتلك أمور لا يصلح لها أي واحد من الناس.

وقد كان من الممكن أن ينصر الله دينه من أول وهلة دون تدخل من المسلمين، وكان معنى ذلك أن الناس سيتساوون في الإيمان أولهم وآخرهم، ولكن شاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يجعل لهذا الدين رجالاً يفدونه بأرواحهم وأموالهم لينالوا الشهادة ويرتفعوا إلى مصاف النبيين. لذلك جاء الأمر بالقتال متأخراً وبالتدريج؛ لقد جاء الأمر بالقتال في أول مرحلة بقول الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا...}.

المصدر: موقع نداء الإيمان

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان