تفسير الشعراوي للآية 273 من سورة البقرة
قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}.. [البقرة : 273].
ساعة أن نسمع (جاراً ومجروراً) قد استهلت به آية كريمة فنعلم أن هناك متعلقاً. ما هو الذي للفقراء؟ هو هنا النفقة، أي أن النفقة للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. وإذا سألنا: ما معنى (أحصروا) فإننا نجد أن هناك (حَصر) وهناك (أحصر) وكلامهما فيه المنع، إلا أن المنع مرة يأتي بما لا تقدر أنت على دفعه، ومرة يأتي بما تقدر على دفعه.
فالذي مرض مثلاً وحُصِرَ على الضرب في الأرض، أكانت له قدرة أن يفعل ذلك؟ لا، ولكن الذي أراد أن يضرب في الأرض فمنعه إنسان مثله فإنه يكون ممنوعاً، إذن فيئول الأمر من الأمرين إلى المنع، فقد يكون المنع من النفس ذاتها أو منع من وجود فعل الغير، فهم أحصروا في سبيل الله. حُصِرُوا لأن الكافرين يضيقون عليهم منافذ الحياة، أو حَصَرُوا أنفسهم على الجهاد، ولم يحبوا أن يشتغلوا بغيره؛ لأن الإسلام كان لا يزال في حاجة إلى قوم يجاهدون. وهؤلاء هم أهل الصُّفة {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} وعدم استطاعتهم ناشئ من أمر خارج عن إرادتهم أو من أمر كان في نيتهم وهو أن يرابطوا في سبيل الله، هذا من الجائز وذاك من الجائز.
وكان الأنصار يأتون بالتمر ويتركونه في سبائطه، ويعلقونه في حبال مشدودة إلى صواري المسجد، وكلما جاع واحد من أهل الصفة أخذ عصاه وضرب سباطة لتمر، فينزل بعض التمر فيأكل، وكان البعض يأتي إلى الرديء من التمر والشيص ويضعه، وهذا هو ما قال الله فيه: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ}.
وإذا نظرنا إلى قول الحق: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} و(الضرب) هو فعل مِن جارحة بشدة على متأثر بهذا الضرب، وما هو الضرب في الأرض؟ إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن الكفاح في الحياة يجب أن يكون في منتهى القوة، وإنك حين تذهب في الأرض فعليك أن تضربها حرثاً، وتضربها بذراً، لا تأخذ الأمر بهوادة ولين ولذلك يقول الحق: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور}.. [الملك: 15].
إن الأرض مسخرة من الحق سبحانه للإنسان، يسعى فيها، ويضرب فيها ويأكل من رزق الله الناتج منها.
وحين يقول الله سبحانه في وصف الذين أحصروا في سبيل الله فلا يستطيعون الضرب في الأرض {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} أي يظنهم الجاهل بأحوالهم أنهم أغنياء، وسبب هذا الظن هو تركهم للمسألة، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} والسمة هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها، فكأنك ستجد فيهم خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أو يطلبوا، ولكنك تعرفهم من حالتهم التي تستحق الإنفاق عليهم، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} فكأنه أباح مجرد السؤال ولكنه نهى عن الإلحاحٍ والإلحاف فيه، ولو أنهم سألوا مجرد سؤال بلا إلحاف ولا إلحاح أَمَا كان هذا دليلاً على أنهم ليسوا أغنياء؟ نعم، لكنه قال: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} إذن فليس هناك سؤال، لا سؤال على إطلاقه، ومن باب أولى لا إلحاف في السؤال؛ بدليل أن الحق يقول: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ}، ولو أنهم سألوا لكنا قد عرفناهم بسؤالهم، إذن فالآية تدلنا على أن المنفي هو مطلق السؤال، وأما كلمة (الإلحاف) فجاءت لمعنى من المعاني التي يقصد إليها أسلوب الإعجازي، ما هو؟
إن (السيما) كما قلنا هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها، فكأنك ستجد خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أي أنت تعرفهم من حالتهم البائسة، فإذا ما سأل السائل بعد ذلك اعتبر سؤاله إلحاحاً؛ لأن حاله تدل على الحاجة، ومادامت حالته تدل على الحاجة فكان يجب أن يجد من يكفيه السؤال، فإذا ما سأل مجرد سؤاله فكأنه ألحف في المسألة وألح عليها.
وأيضا يريد الحق من المؤمن أن تكون له فراسة نافذة في أخيه بحيث يتبين أحواله بالنظرة إليه ولا يدعه يسأل، لأنك لو عرفت ب (السيما) فأنت ذكي، أنت فطن، أنا لو لم تعرف ب (السيما) وتنتظر إلى أن يقول لك ويسألك، إذن فعندك تقصير في فطنة النظر، فهو سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن يكون فطن النظر بحيث يستطيع أن يتفرس في وجه إخوانه المؤمنين ليرى من عليه هم الحاجة ومن عنده خواطر العوز، فإذا ما عرف ذلك يكون عنده فطانة إيمانية.
ولنا العبرة في تلك الواقعة، فقد دق أحدهم الباب على أحد العارفين فخرج ثم دخل وخرج ومعه شيء، فأعطاه الطارق ثم عاد باكياً فقالت له امرأته: ما يبكيك؟. قال: إن فلاناً طرق بابي. قالت: وقد أعطيته فما الذي أبكاك؟. قال: لأني تركته إلى أن يسألني.
إن العارف بالله بكى؛ لأنه أحس بمسئولية ما كان يجب عليه أن يعرفه بفراسته، وأن يتعرف على أخبار إخوانه. ولذلك شرع الله اجتماعات الجمعة حتى يتفقد الإنسان كل أخ من إخوانه، ما الذي أقعده: أحاجة أم مرض؟ أحدث أم مصيبة؟ وحتى لا يحوجه إلى أن يذل ويسأل، وحين يفعل ذلك يكون له فطنة الإيمان. {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} يجب أن تعلم أنه قبل أن تعطي قد علم الله أنك ستعطي، فالأمر محسوب عنده بميزان، ويجيء تصرف خلقه على وفق قدره، وما قدره قديما يلزم حاليا، وهو سبحانه قد قدر؛ لأنه علم أن عبده سيفعل وقد فعل. وكل فعل من الأفعال له زمن يحدث فيه، وله هيئة يحدث عليها. والزمن ليل أو نهار.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى مبينا حالات الإنفاق والأزمان التي يحدث فيها وذلك في قوله تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً...}.
المصدر: موقع نداء الإيمان
فيديو قد يعجبك: