تفسير الشعراوي للآية 37 من سورة آل عمران
قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. [آل عمران : 37].
وقد عرفنا القبول الحسن والإنبات الحسن، أما قوله الحق: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} فهذا يعني أن المسألة جاءت من أعلى، إنه الرب الذي تقبل بقبول حسن، وهو الذي أنبتها نباتا حسنا. إذن، فرعاية زكريا لها إنما جاءت بأمر من الله. والدليل على ما حدث عند كفالة مريم. لقد اجتمع كبار القوم رغبة في كفالتها وأجروا بينهم قرعة من أجل ذلك. وساعة تجد قرعة، أو إسهاما. فالناس تكون قد خرجت من مراداتها المختلفة إلى مراد الله. فعندما نختلف على شيء فإننا نجري قرعة، ويخصص سهم لكل مشترك فيها، ونرى بعد ذلك من الذي يخرج سهمه، ويلجأ الناس لهذا الأمر؛ ليمنعوا هوى البشر عن التدخل في الاختيار، ويصبح الأمر خارجا عن مراد البشر إلى مراد الله سبحانه وتعالى، وهذا ما حدث عند كفالة زكريا لمريم. ولذلك فالحق يقول لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. [آل عمران: 44].
إذن فالكفالة لمريم أخذت لها ضجة، وهذا دليل على أنهم اتفقوا على إجراء قرعة بالنسبة لكفالتها، ولا يمكن أن يكونوا قد ذهبوا إلى هذه القرعة إلا إذا كان قد حدث تنازع بينهم، عن أيهم يكفل مريم، ومن فضل الله أن زكريا عليه السلام كان متزوجا من (إشاع) (أخت) (حنة) وهي أم مريم، فهو زوج خالتها.
وكلمة (أقلامهم) قال فيها المفسرون: إنها القداح التي كانوا يصنعونها قديما، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة، فرموها في البحر، فمن طفا قلمه لم يأخذ رعاية مريم، ومن غرق قلمه في البحر فهو الذي فاز بكفالة مريم. إذن فهم قد خرجوا عن مراداتهم إلى مراد الله.
والخروج عن المرادات، والخروج عن الأهواء بجسم ليس له اختيار- كقداح القرعة- لا يوجد في النفس غضاضة. لكن لو كان هناك من سيأخذ رعاية مريم بالقوة والغضب فلابد أن يجد نفوس الآخرين وقد امتلأت بالمرارة أو الغصب. ولذلك فقد كان سائدا في ذلك العصر عملية إجراء السهام إذا ما خافوا أن يقع الظلم على أحد أو أن يساء الظن بأحد، وهناك قصة سيدنا يونس عندما قاربت السفينة على الغرق، وكان لابد لإنقاذها أن ينزل واحد إلى البحر، وجاء القول الحكيم: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.. [الصافات: 139-144].
كان لابد أن ينزل واحد من تلك السفينة، لذلك تم إجراء قرعة بالسهام حتى لا تقوم معركة بين الموجودين على ظهر السفينة، وحتى لا تكون الغلبة للأقوياء، ولكن القرعة حمت الناس من ظلم بعضهم بعضا.
قالوا: لنجر قرعة السهام، فمن يخرج سهمه فهو الذي يلقى به، وكان على يونس عليه السلام أن ينزل إلى اليم فيلتقمه الحوت. ولأنه من المسبحين فإن الله ينقذه. لقد قبل يونس عليه السلام اختيار الله ولم ينس تسبيح الله فكان في ذلك الإنقاذ له. وهكذا نقرأ قول الله لنفهم أن كفالة زكريا كانت باختيار الله. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}.
وكلمة (كفلها) أي تولى كل مهمة تربيتها، هذه هي الكفالة، ونحن نعرف أن الكفيل في عرفنا هو الضامن، والضامن هو من يسد القرض عندما يعجز الإنسان عن السداد، وقوله الحق: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} يعطينا المعنى الواضح بأن زكريا عليه السلام هو الذي قام برعاية شئون مريم.
ويتابع الحق الكريم قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} إنه لم يدخل مرة واحدة، بل دخل عليها المحراب مرات متعددة. وكان زكريا عليه السلام كلما دخل على مريم يجد عندها الرزق، ولذلك كان لابد أن يتساءل عن مصدر هذا الرزق، ولابد أن يكون تساؤله معبرا عن الدهشة، لذلك يجيء القول الحق على لسان زكريا: {أنى لَكِ هذا}.
وساعة أن تسمع {أنى لَكِ هذا} فهذا يدل على أنه قام بعمل محابس على المكان الذي توجد به مريم، وإلا لظن أن هناك أحدا قد دخل على مريم، وكما يقولون: فإن زكريا كان يقفل على مريم الأبواب. وإلا لو كانت الأبواب غير مغلقة لظن أن هناك من دخل وأحضر لها تلك الألوان المتعددة من الرزق.
والرزق هو ما ينتفع به- بالبناء للمجهول- وعندما يقول زكريا عليه السلام: {أنى لَكِ هذا}. فلنا أن نتذكر ما قلناه سابقا من أن أي إنسان وكله الله على جماعة ويرى عندهم ما هو أزيد من الطاقة أو حدود الداخل، فلابد أن يسأل كُلاًّ منهم: من أين لك هذا؟ ذلك أن فساد البيوت والمجتمعات إنما يأتي من عدم الإهتمام بالسؤال وضرورة الحصول على إجابة على السؤال المحدد: من أين لك هذا؟
إن الذي يدخل بيته ويجد ابنته ترتدي فستانا مرتفع الثمن ويفوق طاقة الأسرة، أو يجد ابنه قد اشترى شيئا ليس في طاقة الأسرة أن تشتريه، هنا يجب أن يتوقف الأب أو الولي ليسأل: من أين لك هذا؟ إن في ذلك حماية لأخلاق الأسرة من الإنهيار أو التحلل. فلو فطن كل واحد أن يسأل أهله ومن يدخلون في كفالته- (من أين لك هذا؟) لعرف كل تفاصيل حركتهم، لكن لو ترك الحبل على الغارب لفسد الأمر.
وقول زكريا: (أنّى لك هذا؟) هو سؤال محدد عن مصدر هذا الرزق، ولننظر إلى إجابتها: {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} ثم لا تدع البديهة الإيمانية عند سيدنا زكريا دون أن تذكره أنها لا تنسى حقيقة واضحة في بؤرة شعور كل مؤمن: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وأثارت هذه المسألة في نفس زكريا نوازع شتى؛ إنها مسألة غير عادية، لقد أخبرته مريم أن الرزق الذي عندها هو من عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب، إنه الإله هو القادر على أن يقول: (كن) فيكون.
وهنا ذكر زكريا نفسه، وكأن نفسه قد حدثته: إذا كانت للقدرة طلاقة في أن تفعل بلا أسباب، وتعطي من غير حساب، فأنا أريد ولدا يخلفني، رغم أنني على كبر ورغم بلوغي من السن عتيّا، وامرأتي عاقر. إن مسألة الرزق الذي وجده زكريا كلما دخل على مريم هي التي نبهت زكريا إلى ما يتمنى ويرغب.
ونحن نعلم أن المعلومات التي تمر على خاطر النفس البشرية كثيرة، ولكن لا يستقر في بؤرة الشعور. ومعلومات في حاشية الشعور يتم استدعاؤها عند اللزوم، فلما وجد زكريا الرزق المنوع عند مريم وقالت له عن مصدره: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. هنا تساءل زكريا: كيف فاتني هذا الأمر؟ ولذلك يقول الحق عن زكريا: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ...}.
المصدر: موقع نداء الإيمان
فيديو قد يعجبك: