لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

تفسير الشيخ الشعراوي لنتائج التأمل فى أحوال الناس

04:07 م الإثنين 14 مارس 2016

تفسير الشيخ الشعراوي لنتائج التأمل فى أحوال الناس

قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.. [آل عمران : 137].

أي أنتم لستم بدعاً في هذه المسألة. و(خلت) تعني (مضت)، أي حصلت واقعا في أزمان سبقت هذا الكلام. وعادة فالأخبار التي يتكلم بها الإنسان مرة تكون خبراً يحتمل الصدق والكذب، لكن هذه المسألة لا تحتاج إلى صدق أو كذب؛ لأن الواقع ليس أمراً مستقبلاً، ولكنه أمر قد سبق، فبمجرد أن يجيء الكلام لا ننتظر واقعا يؤكد صدق الكلام، لأنَّ الواقع قد حدث من قبل، فيقول سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}.

والسنن هي الطرق التي يصرف الله بها كونه بما يحقق مصلحة ذلك الكون؛ ليضمن للإنسان- السيد في هذا الكون- ما يحقق مصلحته، ومصلحة الإنسان تتمثل في أن يسود الحق في حياة الإنسان المختار كما ساد الحق في الكون المسيّر قبل الإنسان.

وقد قلنا إن في هذا الكون تسخيراً: أي لا إرادة له، لا إرادة للجماد ولا للنبات. ولا للحيوان في أن يفعل الخير لك أو لا تفعل. فلم يحدث أن جاء إنسان لأرض صالحة للزراعة، ووضع فيها بذوراً، فلم تنبت الأرض وقالت له: لن أعطيك، ولم تقل الأرض يوماً عن إنسان: إنه كافر فلن أعطى له الرزق.

إن الأرض مسخرة لخدمة الإنسان ما دام يأخذ بأسبابها؛ فهي تؤدي له. والحيوانات أيضا مسخرة لخدمتك لا باختيارك، ولا بقدرة تسخيرك لها، ولكن بتسخير الله لها أن تفعل.

وقلنا: إن الإنسان قد تكون عنده مطية، مثل بعض الفلاحين، فمرة يجعلها صاحبها تحمل أكوام السباخ من روث الحيوان وفضلاته، وبعد ذلك يلوح له أن يخرجها من عملها هذا ويجعلها ركوبة له، ويدللها بالأشياء التي تعرفونها من لجام جميل وسرج أجمل، ويرفهها في حياتها وينظفها.

هل في الحالة الأولى امتنعت المطية عن حمل السباخ أو امتنعت في الحالة الثانية عن حمل الإنسان؟ لا؛ أنت تسيرها مثلما تريد أنت، فليس لها اختيار. ولا نبات له اختيار، ولا جماد له اختيار، ولا الحيوان أيضاً، إنما الاختيار للإنسان.

وقد حكم الله اختيار الإنسان بمقادير يكون الإنسان مسخراً فيها حتى لا يظن أنه استقل بالسيادة فأصبحت له قدرة ذاتية. والحق يحكم الإنسان بأشياء يجعلها قهرية على الإنسان كي يظل في إطار التسخير. ويترك الحق للإنسان أشياء ليبقى له فيها الاختيار. فإذا ما نظرنا إلى الكون وجدنا أن ما لا اختيار فيه لشيء يسير على أحداث نظام ولا تصادم فيه، والذي فيه اختيار للإنسان هو الذي يختل، لماذا؟.

لأن الإنسان قد يختار على غير منهج الذي خَلَق وهو الله سبحانه وتعالى فإذا أردت أن يستقيم لك الأمر أيها المختار فاجعل اختيارك في إطار منهج الله.

وحين تجعل اختيارك في إطار منهج الله تكون قد أصبحت سويًّا كبقيّة الأجناس وتسير الأمور معك بانتظام.

وعندما تقارن بين شيء للإنسان فيه اختيار وعمل، وشيء لا اختيار للإنسان فيه ولا عمل، فأنت تجد أن الشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه مستقيم الأمر، ولا خلاف فيه أبداً، أما الشيء الذي فيه اختيار للإنسان، فأنت تجد فيه الخلاف.

مثال ذلك: لو نظرنا إلى وسيلة مواصلات من الحيوانات كالجمال أو الخيل أو الحمير، فإننا نجدها تسير في طريق واحد، وتتقابل جيئة وذهابا فلا يحدث تصادم بين حمار وحمار، ولا قتل لراكب أحد الحمارين.

إن الحيوانات يتفادى ويتحامى بعضها بعضاً حتى لو كان الراكب نائماً. ومهما كان الطريق مزدحماً فالحيوانات لا تتصادم؛ لأن ذلك من نطاق تسخير الحق للحيوان.

ولننظر إلى الإنسان حين تدخَّل ليصنع وسيلة مواصلات، صنع الإنسان ألوان السيارات، يقودها الإنسان، ومع أن الإنسان هو الذي يقود السيارات، وبرغم ذلك بدأت تأتي المخالفات والمصادمات والحوادث؛ لأن للإنسان يداً في ذلك.

والحق سبحانه وتعالى يريد أن يدلك على أن ما خلق مسخراً بأمر الله وتوجيهه لا يتأتى منه فساد أبداً، إنما يتأتى الفساد مما لك فيه اختيار، فحاول أن تختار في إطار منهج الله. فعندما يقول الحق لك: (افعل كذا ولا تفعل كذا) فعليك أن تصدق وتطيع؛ لأن الحق سبحانه عندما سخر الأشياء للإنسان سارت بانتظام رائع، وأنت أيها العبد عندما تطيع الله فإن الأمور في حياتك تمشي بيسر.

ولذلك قلنا: إن الناس لم تشتك قط أزمة شمس ولم يشتكوا أزمة هواء، لكن لماذا اشتكوا أزمة طعام؟ إن الإنسان له دخل في إنتاج الطعام. فما للإنسان فيه دخل يجب أن يحكمه قانون التكليف من الله: (افعل كذا ولا تفعل كذا).

الكون مخلوق بحق. ومعنى أنه مخلوق بحق أن كل شيء في الوجود يؤدي مهمته كما أرادها الله، وكما سُخِّر من أجله إذا ما قام الإنسان بتنفيذ التكليف فكل شيء يسير بحق. وإن ترك الإنسان التكليف وأخذ باختياره فإنه يصير إلى باطل ونتج ما هو باطل، والكون مبني على الحق. {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.. [الدخان: 39] إن الحق جعل للكون قضايا ثابتة، فلا شيء يعتدي على شيء آخر أبداً. واختيار الإنسان هو الذي يأتي بمقابل الحق وهو الباطل، ولذلك يصون الله الكون بأن يبين أن الحق يصطدم بالباطل، والباطل يصطدم بالحق لكن الحق يجيء ويبقى، والباطل يزهق ويزول، ويظهر الله لنا ذلك أمام أعيننا يقول تعالى: {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً}.. [الإسراء: 81].

إذن فقوله سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} يعني: اعتبروا بما سبقكم وانظروا إلى اصطدام الباطل بالحق، أدام وبقى اصطدام الباطل بالحق؟ لا؛ لأن الباطل كان زهوقا.

ولذلك نحن نرى أمثلة عملية لذلك لا أقول في مواكب الناس بعضهم مع بعض، ولكن في موكب الباطل مع حق السماء. وحق السماء يمثله الرسل والمناهج التي جاءت من عند الله وكل حق جاء من السماء وجاء من مناهج الله قابلة قوم مبطلون.

لماذا؟ لأن السماء دائماً لا تتدخل إلا حين يشيع الفساد، وما دام الفساد يشيع فإن هناك طائفة منتفعة بالفساد، وهذه الطائفة المنتفعة بالفساد وبالباطل تدافع عنه وبعد ذلك يأتي موكب السماء ليصادم هذا الباطل والفئة المنتصرة للباطل، فتنشأ معركة، فقال الحق حينئذ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}. قالها الحق لنعرف أن الباطل زهوق، وأن كل معارك أهل الأرض مع منهج السماء قد انتصر فيها الحق. ولذلك تأتي سورة العنكبوت لتبين لنا ذلك، بداية من قوله سبحانه: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}.. [العنكبوت: 36-37].

هذه هي الصورة الأولى، وتأتي الصورة الثانية: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ}.. [العنكبوت: 38].

إذن فانظروا إلى مساكنهم الباقية لتدلكم على ما حدث لهم. والصورة الثالثة: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِي الأرض وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ}.. [العنكبوت: 39].

وساعة تسمع {وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ}. أي كأن هناك حاجة تلاحقهم، والذي يلاحقه شيء فإنه يحاول أن يسبقه، لكنهم لا يستطيعون. وتأتي السنن واضحة بعد ذلك: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ...[العنكبوت: 40].

إذن فصراع الحق والباطل قد تقدم ووقع في أمم قد سبقتكم وبقيت لها مساكن، فمن شاء أن يذهب إليها ليتأكد فليذهب، ولا تزال مدائن صالح، ولا تزال هناك آثار عاد، وكل مكان فيه أثر من الآثار. ولذلك يوضح الحق: فإن كنتم تريدون التأكد من ذلك فأنا قد أخبرت، ومن آمن بي فليصدق خبري، ولغير المؤمن ولمن يريد اطمئنان قلبه يقول سبحانه: {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين}.. [النحل: 36].

إن الحق سبحانه وتعالى يمثل صراع الحق- وهو الشيء الثابت- مع الباطل، وهذه القضية موجودة حتى فيما لا اختيار له. ويصنعها الحق فيهم، صراعا بين حق وباطل فيما لا اختيار له لمصلحة الإنسان أيضاً. وقد جعل سبحانه الصراع بين الحق والباطل في أشياء ليست من الإنسان ولكنها تخدم الإنسان، وهذه نراها في الأمور المادية. أما في القيم فالحق يقول: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال}.. [الرعد: 17].

إنه سبحانه أنزل من السماء ماء فسال في الأودية، والأودية كما نعرفها هي المكان المنحصر بين جبلين، فإذا نزلت الأمطار على الأعالي فإنها تنحدر إلى الأسفل وتسيل في الأودية. والوديان هي محل الخضب؛ لأن الغرين والطمى الذي ينزل من الجبال مع مياه المطر ويترسب ويصير تراباً خصباً يخرج منه الزرع. وكل وادٍ من الوديان يأخذ على قدر سعته، وباقي المياه يبحث له عن مسلك آخر، ولو إلى باطن الأرض، وذلك كان مظهراً مألوفاً في الجزيرة العربية فعندما يأتي السيل فإن الأودية تمتلئ ماءً، كل وادٍ يأخذ على قدر سعته. {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} ونحن نراه في الحقول ونسميه (الريم) الذي يطفو على سطح الماء، ما الذي يحدث لهذا الريم؟ إنه يتجمع ويطفو ثم يركن ويميل جانباً. ألم تر القدْر بها لحم تفور؟. إننا نجد الريم قد طفا على السطح. وهذا الريم فيه أشياء خارجة عن عنصر الشيء الموجود في القدر، فإذا ما جاءت حرارة النار أخرجته على السطح، فإما أن يخرجه الإنسان خارج القدر، وإما أن يتركه فيتجمد على الجوانب وينتهي.

ومن أين جاء هذا الزبد؟ إنه يأتي من الأرض والأرض فيها أشياء كثيرة، كجذور النبات وبقايا ما حمله الهواء وتتخلل هذه الأشياء مسام الأرض، هذه الأشياء عندما توجد في المسام، وتأتي الجذور الصغيرة لتنمو فتعوقها عن أخذ غذائها؛ لذلك فعندما ينزل الحق الماء من السماء فإن الماء يجعل هذه الأشياء تطفو على السطح؛ ليجعل هناك منفذاً للجذور الصغيرة.

وينزل الله المطر ليغسل التربة كلها، ويجعل هذه الأشياء تطفو؛ لأنها غثاء، ويطفو الغثاء. وساعة أن يطفو الغثاء فإياك أن تفهم أن ذلك علو، إنه علو إلى انتهاء، كذلك فورة الباطل.

إياك أنن تظن أن الزَبَد له فائدة، أو أنَّ ارتفاع الريم كان علواً على ما في القدر، لا. إنه تطهيرٌ لما في القدر أو الإناء، ولهذا قال الحق: {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً}.

وإن لم تذهب آثار الريم بحركة الماء التموجية فإنها ستذهب بطريقة أو بأخرى. ولننظر إلى الأشياء القذرة التي تلقي في البحر نجد أنها بعد مدة قد خرجت إلى الشاطئ. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}.. [المدثر: 31].

إنها تخرج على الشاطيء ويجمعها المكلفون بتنظيف الشاطئ. وإلا كيف تتم صيانة الماء؟ إنه سبحانه يجعل الماء ينظف نفسه بحركته الذاتية. إذن فالماء عندما ينزل سيلاً، فإنه ينقي التربة من العوائق التي تعوق غذاء الجذيرات الصغيرة، وقد لا يكتفي بعضنا بهذا المثل، فيضرب لنا الله مثلاً آخر: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض}.. [الرعد: 17].

ونحن نرى هذه الحكاية عندما يضعون أي معدن في النار، فإن المعدن ينصهر ويصير كالعجينة وتخرج منه فقاقيع ونحن نسميها خبث المعدن وعندما نخرج الخبث من المعدن فانه يصير قوياً إذن فالنار قد صهرت المعدن، وأخرجت منه الخبث الضار فيه، أو الذي يجعله لا يؤدي مهمته بكفاءة عالية، فأنا قد أصنع من الحديد درعاً قوية أو أريد أن أستخرج منه الصلب، وهذه العمليات معناها أننا نصْهر الحديد بالنار لنزيل خبثه ليزداد قوة. وكذلك الذهب والفضة ساعة نريد أن نخلصهما من هذه الآثار فإننا نصهرهما لنخرج منهما الأشياء الخارجة عنهما أي التي تختلط بهما وتشوبهما وهي ليست منهما.

لماذا إذن يا ربيّ هذا التمثيل الحسي في المياه؟ والحلية التي لا تؤدي ضرورة، والمتاع وهو الذي يؤدي ضرورة؟ إنه سبحانه يقول: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل}.

إن الحق كالماء، والحق كالنار، والماء يحمل الزبد الرابي بعيداً عن مسام الأرض، والنار تخرج الزبد والخَبث من المعادن، وتجعل المعادن خالصة للمنفعة المطلوبة لنا، كذلك يضرب الله الحق والباطل: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً}.

وجفاءً أي مطروحاً مرمياً، {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض}. ذلك هو صراع الحق والباطل في المبادئ والقيم ويصوره الله في الأمور المادية. ومن العجيب أنه يصوره بمتناقضين ولكنهما متناقضان ويؤديان مهمة واحدة، ماء ونار، فإياك حين ترى شيئاً يناقض شيئاً أن تقول: هذا يناقض ذاك، لا. لأن هذا الشيء مطلوب لمهمة، وذاك الشيء مطلوب لمهمة أخرى.

إذن فقول الحق سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} هو لفت لنا إلى صراع الحق مع الباطل، وأن الإنسان قد يرى الباطل مرة وله فورة وعلو، ونقول: هذا إلى جُفاء. وهذه سنة من سنن الحياة. وإن أردتم أن تتأكدوا منهما، فالتفتوا إلى دقة قول الحق تعالى: {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين}.

وهنا ملحظ عام، وملحظ خاص، الملحظ العام: أننا نفهم أن المقصود بذلك السير على الأرض، وتلك هي حدود رؤيتنا، لكن حين يتكلم الله فرؤية الله أشمل فهو الخالق لهذا الكون، ونحن ما زلنا نجهل جزيئات في هذا الكون، ولم نعرف بعضها إلا أخيراً، وخالق الكون هو الذي يعلم كل الخبايا.

نحن نقول: إننا نسير على الأرض؛ لأننا كنا نفهم أن هذه الأرض ليس عليها إلاّ نحن فقط، ثم تبين لنا- بعد أن أخذ العلم حظه- أنه لو لا وجود الهواء في الأرض لما صلحت للحياة. ولذلك فعندما تدور الأرض. فالهواء الذي حولها يدور معها ويسمونه الغلاف الجوي إذن فالغلاف الجوي جزء من الأرض وله امتداد كبير، فالإنسان عندما يسير فإنه يسير في الأرض، أما الذي يسير على الأرض فهو الذي يسير فوق الغلاف الجوي، أما السائر على اليابسة، والغلاف الجوي ما زال فوقه فهو يسير في الأرض لا على الأرض.

وما دامت المسألة هي سنن تقدمت، ويريد الله منا أن نعتبر بالسنن المتقدمة، لذلك يقول لنا: {فَسِيرُواْ فِي الأرض} نسير بماذا؟. إما أن نسير بالانتقال، أو نسير بالأفكار؛ لأن الإنسان قد لا يملك القدرة على السير ويترك هذه المهمة للرحالة، والرحالة- مثلاً- هم الذين ذهبوا إلى جنوب الجزيرة، ورأوا وادي الأحقاف ووجدوا أن عاصفة رمل واحدة تطمر قافلة بتمامها.

إذن ففيه عواصف وارت الكثير من الأشياء، فعاصفة واحدة تطمر قافلة. فكم من العواصف قد هبت على مرّ هذه القرون؟ والحق سبحانه يخبرنا بإرم ذات العماد فيقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}.. [الفجر: 6-13].

إنه سبحانه يخبرنا أن إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد أي متفوقة على حضارة مصر القديمة. وهي عجيبة وفيها أكثر من عجيبة فأين هي الآن؟.

وما دامت الرمال بعاصفة واحدة- كما قلنا- تطمر قافلة، فكم عاصفة مرت على هذه البلاد؟. ولذلك نجد أننا لا نزال جميعاً إلى الآن حين نريد أن ننقب عن الآثار فلابد أن نحفر تحت الأرض. لماذا هذا الحفر وقد كانت هذه الآثار فوق الأرض؟ لقد غطتها العواصف الرملية.

والمثال على ذلك: أنَّك تغيب عن بيتك شهراً واحداً وتعود لتجد من التراب الناعم ما يغطي أرض البيت على الرغم من إغلاق النوافذ. فماذا تجد من حجم التراب لو غبت عن بيتك عاماً، أو عامين، أو ثلاثة أعوام، رغم إحكام وإغلاق النوافذ والفتحات بالمطاط وخلافه؟ ولكن التراب الناعم يتسرب ويغطي الأثاث والأرض. وإذا كانت هذه الأمور تحدث في منازلنا فما بالك بالمنطقة التي فيها أعاصير وعواصف رملية؟ هل تطمر المدن أو لا؟

إن المدن والحضارات تطمر تحت الرمال؛ لذلك فعندما ننقب عن الآثار فنحن نحفر في الأرض، وهذا لون من السير في الأرض للرؤية والعظة. وحين يقول الحق: {فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} فماذا يعني بعاقبة المكذبين؟ حين تكون أمة قد تحضرت حضارة كبيرة يقول عنها الحق: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد}.. [الفجر: 6-12].

إن الذي أقام هذه الحضارات ألا يستطيع أن يجعل لهذه الحضارة ما يصونها؟ كيف يتم القضاء على هذه الحضارات الواسعة واندثارها وذهابها؟.

لا بد أن ذلك يتم بقوة أعلى منها، فهذه الحضارات رغم تقدمها الرهيب لم تستطع أن تحفظ نفسها من الفناء. إنها القوة الأعلى منها، وهكذا نصدق قوله الحق: {فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين}. إنه القّيوم الذي يرى كل الخلق، فمن يطغى ويفسد فليلق النهاية نفسها. إذن فقوله سبحانه يحمل كل الصدق: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين}

وبعد ذلك يقول الحق: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}

المصدر: موقع نداء الإيمان


خواطر متعلقة:

تفسير الشيخ الشعراوي لوصف نعيم الجنة ولمن تكون

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان