تفسير الشيخ الشعراوي بجزاء من يكذب الرُسل
قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}.. [آل عمران : 184].
ويتسامى الحق سبحانه وتعالى بروح سيدنا رسول الله إلى مرتبة العلو الذي لا يرقى إليه بشر سواه، فيقول: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ}.. [الأنعام: 33].
فالمسألة ليست مسألتك أنت إنهم يعرفون أنك يا محمد صادق لا تكذب أبداً {ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}. أي هذا الأمر ليس خاصا بك بل هو راجع إليّ فلا أحد يقول عنك إنك كذّاب هم يكذبونني، الظالمون يجحدون وينكرون آياتي فالحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم هنا للتسلية ويعطيه الأسوة التي تجعله غير حزين مما يفعله اليهود والمكذبون به فيقول: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} .. [آل عمران: 184].
ونعرف أن الشرط سبب في وجود جوابه. فإذا كان الجواب قد حصل قبل الشرط فما الحال؟. الحق يوضح: إن كذبوك يا محمد فقد كذبوا رسلاً من قبلك. أي أن (جواب الشرط) قد حصل هنا قبل الشرط وهذه عندما يتلقفها واحد من السطحيين أدعياء الإسلام، أو من المستشرقين الذين لا يفهمون مرامي اللغة فمن الممكن أن يقول: إن الجواب في هذه الآية قد حصل قبل الشرط. وهنا نرد عليه قائلين: أقوله تعالى: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ..} هو جواب الشرط.. أم هو دليل الجواب؟ لقد جاء الحق بهذه الآية ليقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن كذبوك فلا تحزن، فقد سبقك أن كَذّب قوم رسلَهم، إنها علة لجواب الشرط، كأنه يقول: فإن كذبوك فلا تحزن. إذن فمعنى ذلك أن المذكور ليس هو الجواب، إنما هو الحيثية للجواب {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات}.. إلخ.
وعندما نقول: (جاءني فلان بكذا) فقد يكون هو الذي أحضره، وقد يكون هو مجرد مصاحب لمن جاء به.
ولنضرب هذا المثل للإيضاح- ولله المثل الأعلى- فلنفترض أن موظفاً أرسله رئيسه بمظروف إلى إنسان آخر، فالموظف هو المصاحب للمظروف.
إذن فالبينات جاءت من الله، لكن هؤلاء الرسل جاءوا مصاحبين ومؤيِّدين بالبينات كي تكون حُجة لهم على صدق بلاغهم عن الله، {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات}. أي جاءوا بالآيات الواضحة الدلالة على المراد. والآيات قد تكون لفتاً للآيات الكونية، وقد تكون المعجزات.
ونعلم أن كل رسول من رسل الذين سبقوا سيدنا رسول الله كانت معجزتهم منفصلة عن منهجهم، فالمعجزة شيء وكتاب المنهج شيء آخر. (صحف إبراهيم) فيها المنهج لكنها ليست هي المعجزة؛ فالمعجزة هي الإحراق بالنار والنجاة، وموسى عليه السلام معجزته العصا وتنقلب حية، وانفلاق البحر، لكن كتاب منهجه هو (التوراة)، وعيسى عليه السلام كتاب منهجه (الإنجيل) ومعجزته العلاج وإحياء الموتى بإذن الله، إذن فقد كانت المعجزة منفصلة عن المنهج، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن معجزته القرآن، ومنهجه في القرآن، لماذا؟
لأنه جاء رسولاً يحمل المنهج المكتمل وهو القرآن الكريم، ومع ذلك فهو صلى الله عليه وسلم الرسول الخاتم، فلابد أن تظل المعجزة مع المنهج؛ كي تكون حُجة، إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {جَآءُوا بالبينات}: أي المعجزات الدالات على صدقهم.
{والزبر والكتاب المنير} أي الكتب التي جاءت بالمنهج، فهم يحتاجون إلى أمرين اثنين: منهج ومعجزة.
و(البينات) هي المعجزة أي الأمور البينة من عند الله وليست من عند أي واحد منهم، ثم جاء (المنهج) في {الزبر والكتاب المنير}. ومعنى (الزِبْر): الكتاب، وما دام الشيء قد كُتب فقد (زبره) أي كَتَبَهُ، وهذا دليل على التوثيق أي مكتوب فلا ينطمس ولا يمحى فالزَّبْر الكتابة، و(الزَّبْر) تعني أيضا الوعظ؛ لأنه يمنع الموعوظ أن يصنع ما عظم أي يمتنع عن الخطأ وإتيان الانحراف، و(الزَّبْر) أيضا تعني العقل؛ لأنه يمنع الإنسان من أنْ يرد موارد التهلكة.
والذين يريدون أن يأخذوا العقل فرصة للانطلاق والانفلات، نقول لهم: افهموا معنى كلمة (العقل)، معنى العقل هو التقييد، فالعقل يقيدك أن تفعل أي أمر دون دراسة عواقبه. والعقل من (عَقَلَ) أي ربط، كي يقال هذا، ولا يقال هذا، ويمنع الإنسان أن يفعل الأشياء التي تؤخذ عليه. و(الزبر) أيضاً: تحجير البئر؛ فعندما نحفر البئر ليخرج الماء، لا نتركه. بل نصنع له حافة من الحجر ونبنيه من الداخل بالحجارة. كي لا يُردم بالتراب وكل معاني الزبر ملتقية، فهو يعني: المكتوبات، والمكتوبات لها وصف، إنّها منيرة، وهذه الإنارة معناها أنها تبين للسالك عقبات الطريق وعراقيله، كي لا يتعثر.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يسلّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويوضح له: لا تحزن إن كذبوك؛ فقد كذب رسل من قبلك، والرسل جاءوا بالمنهج وبالمعجزة، وبعد أن يعطي الله للمؤمنين ولرسول الله مناعة ضد ما يذيعه المرجفون من اليهود وضد ما يقولون، وتربية المناعة الإيمانية في النفس تقتضي أن يخبرنا الله على لسان رسوله بما يمكن أن تواجهه الدعوة؛ حتى لا تفجأنا المواجهات ويكشف لنا سبحانه بما سيقولون. وبما سيفعلونه.
ونحن نفعل ذلك في العالم المادي: إذا خفنا من مرض ما كالكوليرا- مثلاً- ماذا نفعل؟ نأخذ الميكروب نفسه ونُضْعِفُه بصورة معينة ثم نحقن به السليم؛ كي نربّي فيه مناعة حتى يستطيع الجسم مقاومة المرض.
ثم بعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى بقضية إيمانية يجب أن تظل على بال المؤمن دائماً. هذه القضية: إن هم كذبوك فتكذيبهم لا إلى خلود؛ لأنهم سينتهون بالموت، فالقضية معركتها موقوتة، والحساب أخيراً عند الحق سبحانه، ولذلك يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة...}.
المصدر: موقع نداء الإيمان
فيديو قد يعجبك: