"قيثارة السماء".. الشيخ محمد رفعت الذي أحيا بصوته شباب الإسلام
كتب- علي شبل:
ما إن يبدأ نهار أول أيام رمضان ويقترب من الأفول استعداداً لانطلاق مدفع الإفطار، إلا ويعتري الجميع شعور روحاني يهزم إحساس الجوع والعطش.. عندها تصمت مصر خشوعاً لذلك الصوت النديّ الذي يحمل عبق وذكريات الشهر الفضيل يصدح: "الله أكبر .. الله أكبر".. إنه "قيثارة السماء"، "الصوت الملائكي"، "سيد القراء" الذي أمتع أرواحنا بقراءاته وابتهالاته "مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي.. مَن لي ألوذ به إلاك يا سَندي؟".. الشيخ محمد رفعت، أبرز قارئ قرآن سمعته الأذن البشرية، بحسب مختصين، والذي استلب القلوب في كل بقعة أرض وصل إليها صوته الذي تميز بعذوبته وجماله وشدة تأثيره، وكان سبباً في دخول البعض إلى الإسلام.
في مثل هذا اليوم ولد الشيخ محمد رفعت في يوم الإثنين 9 مايو عام 1882م بحى المغربلين بالقاهرة، وفقد بصره صغيراً وهو في سن الثانية من عمره. حفظ القرآن في سن الخامسة، حيث التحق بكتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب ودرس علم القراءات وعلم التفسير، ثم المقامات الموسيقية على أيدى شيوخ عصره. توفي والده محمود رفعت والذي كان مأمور قسم شرطة الخليفة وهو في التاسعة من عمره، فوجد الطفل اليتيم نفسه مسئولاً عن أسرته وأصبح عائلها الوحيد، فلجأ إلى القرآن يعتصم به ولا يرتزق منه. تولى القراءة بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب سنة 1918م وهو في سن الخامسة عشرة، فبلغ شهرة ونال محبة الناس، وافتتح بث الإذاعة المصرية سنة 1934م، وذلك بعد أن استفتى شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم فأفتي له بجواز ذلك فافتتحها بقول من أول سورة الفتح (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)، ولما سمعت الإذاعة البريطانية بي بي سي العربية صوته أرسلت إليه وطلبت منه تسجيل القرآن، فرفض ظناً منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغي فشرح له الأمر وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم بصوته سورة مريم.
ويروى عن الشيخ أنه كان رحيماً رقيقاً جياشاً عطوفاً علي الفقراء والمحتاجين، حتي إنه كان يطمئن على فرسه كل يوم ويوصي بإطعامها، ويروي أنه زار صديقا له قبيل موته فقال له صديقه: من يرعى ابتي بعد موتي؟، فتأثر الشيخ بذلك، وفي اليوم التالي والشيخ يقرأ القرآن من سورة الضحى حتى وصل إلى قول (فأما اليتيم فلا تقهر) فتذكر الفتاة وانهال في البكاء بحرارة، ثم خصص مبلغاً من المال للفتاة حتى تزوجت.
تنافست إذاعات العالم الكبرى، مثل: إذاعة برلين، ولندن، وباريس، في أثناء الحرب العالمية الثانية؛ لتستهل افتتاحها وبرامجها العربية بصوت الشيخ محمد رفعت؛ لتكسب الكثير من المستمعين، إلا أنه لم يكن يعبأ بالمال والثراء، وأبى أن يتكسَّب بالقرآن.
كانت طريقته في ترتيل القرآن الكريم تتسم بالتجسيد للمعاني الظاهرة وإمكانية تجلي بواطن الأمور للمتفهم المستمع بكل جوارحه لا بأذنه فقط، والتأثر والتأثير في الغير بالرسالة التي نزلت على رسول الله- صلوات ربي وسلامه عليه- فقد كان يبدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والبسملة والترتيل بهدوء وتحقيق، وبعدها يعلو صوته فهو خفيض في بدايته ويصبح بعد وقت ليس بالطويل غالباً "عالياً"، لكن رشيداً يمس القلب ويتملّكه ويسرد الآيات بسلاسة وحرص منه، واستشعار لآي الذكر الحكيم.
كان جل اهتمام الشيخ الجليل بمخارج الحروف، وكان يعطي كل حرف حقه ليس كي لا يختلف المعنى، بل لكي يصل المعنى الحقيقي إلى صدور الناس، وكان صوته حقاً جميلاً رخيماً رناناً، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف، وكان صوته يحوي مقامات موسيقية مختلفة وكان يستطيع أن ينتقل من مقام إلى مقام دون أن يشعرك بالاختلاف.
قال عنه الأديب محمد السيد المويلحي في مجلة الرسالة: "سيد قراء هذا الزمن، موسيقيّ بفطرته وطبيعته، إنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا".
كان منزل الشيخ رفعت منتدىً ثقافياً وأدبياً وفنياً؛ حيث ربطته صداقة قوية بالموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي أطلق عليه "الصوت الملائكي"، وكان يحرص على قضاء أغلب سهراته في منزل الشيخ بالسيدة زينب، وكثيراً ما كانت تضم هذه الجلسات أعلام الموسيقى والفن، وكان عبد الوهاب يجلس بالقرب منه في خشوع وتبتل، وتدور بينهما حوارات ومناقشات حول أعلام الموسيقى العالمية.
واعتادت الفنانة ليلى مراد الذهاب إليه قبل إسلامها برفقة والدها؛ لسماع الشيخ وهو يقرأ القرآن، على الرغم من أنها كانت يهودية الديانة فى ذلك الوقت.
وقال الشيخ علي جمعة، مفتي الجمهورية الأسبق خلال إحدى حلقات برنامج "والله أعلم" على "سي بي سي": "الشيخ محمد رفعت أحيا شباب الإسلام بجمال صوته.. كان أن ذهب يقرأ في منزل أحد البشاوات، وبعد ما قرأ زاده هذا الأمير من قيمة المبلغ، فلما سأله الشيخ رفعت عن ذلك، قال له ذكرتنا بالشيخ (حسن إلياس)، فسأل عن الشيخ إلياس فوجد أنه قارئ كان صوته كالقطار صباحاً وملائكياً ليلاً".
قصص كثيرة موثقة، كان بطلها صوت الشيخ محمد رفعت، لعل من بين أبرزها أن مصريين مسيحيين كانوا يحرصون على سماعه، لا سيما توقف سائق الترام الذي يمر بجانب المسجد الذي يقرأ فيه الشيخ رفعت، فيوقف الترام لكي يستمع لقراءة رفعت.
وقال قولاً اشتُهر به: "أنا لا أبحث عن المال أبداً، فإن الدنيا كلها عرض زائل"، كان ذلك عام 1935 حين رفض الذهاب للهند بعد أن ضاعف نظام حيدر آباد العرض المادي إلى 45 ألف جنيه، فغضب وقال قوله ذاك.
"إن قارئ القرآن لا يهان"، تلك العبارة الأشهر التي عُرفت بين قراء القرآن لصاحبها الشيخ محمد رفعت، حيث كان يعتبر تبرع آخرين له عند مرضه إهانةً لقارئ القرآن، ووصلت له تبرعات من دول مختلفة، وعرض ملوك ورؤساء عرب علاجه، لكنه رفض، وأمر بأن يودع مبلغ كبير جُمع من تبرعات محبيه له في صندوق للزكاة، ومات بمرضه ولم ينفق على علاجه من تبرع خارجي، حيث شاء الله أن يُصاب الشيخ بعدة أمراض لاحقته وجعلته يلزم الفراش، وعندما يُشفى يعاود القراءة، وتعرَّض في السنوات الثماني الأخيرة من عمره لورم في الأحبال الصوتية، منعَ الصوت الملائكي النقي من الخروج، ومنذ ذلك الوقت حُرم الناس من صوته.
وكانت وفاة الشيخ محمد رفعت- في مثل هذا اليوم- يوم الاثنين 9 مايو 1950، التاريخ نفسه الذي وُلد فيه، عن ثمانية وستين عاماً قضاها في رحاب القرآن الكريم.
فوجئ أبناؤه يوم وفاته بوجود أم كلثوم بينهم، تبكي وتودع جثمان الشيخ برفقة أهله وأسرته، رغم أنها قاطعته فترة كبيرة أثناء حياته بعد أن كانت تزوره في مناسبات كثيرة، وتحضر السهرات الفنية المتعددة التي كان يعقدها أمين المهدي بمنزله وكان يحضرها محمد رفعت أيضًا.
غضبت أم كلثوم من الشيخ محمد رفعت بسبب وشاية من أحد موظفي الإذاعة، فقد اختلف الشيخ مع الإذاعة وانقطع عن التلاوة أمام الميكروفون، وعندما سألت أم كلثوم عن السبب قال لها الموظف إن الشيخ يطالب بأجر يساوي ثلاثة أضعاف ما تحصل عليه هي، وأنه يحتج على ما تحصل عليه من أجر كبير، فصدقت أم كلثوم الوشاية وقطعت صلتها على الفور بالشيخ، وعلمت بعدها كذب الموظف، فقررت أن تزور الشيخ محمد رفعت في منزله، لكن جاءها خبر وفاته فأسرعت إلى بيته لتودعه وداومت على زيارة قبره كثيرًا.
اعتمدت الإذاعات العربية لسنوات طويلة قراءة الشيخ رفعت في افتتاحياتها، أو ختام إذاعة برامجها عند المساء، كما أنه يعد أحد أهم ملامح شهر رمضان الكريم، ليس فقط عند المصريين؛ بل في البلدان العربية، حيث تعتمد تلاوة القرآن بصوت الشيخ ثم يصافح صوته أذان المغرب في معظم المحطات الإذاعية والتليفزيونية.
ولا يزال صوت محمد رفعت يغرّد في تليفزيونات العالمين العربي والإسلامي، وينجذب إليه الكثير من الأجيال الشابة الذين لم يعاصروه ولم يروه، وتواصل تلاواته تسجيل ارتفاع في عدد مرات الاستماع إليها على موقع "يوتيوب".
* مصادر: ويكيبيديا- روايات موثقة لمشاهير وأحفاد الشيخ الراحل- أرشيف الإذاعة المصرية
فيديو قد يعجبك: