من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع المخالفين
لا يمكن لكاتب أو متتبع للسيرة النبوية أن يحصي مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم التي ضرب فيها أروع مثال للعدل والتربية والتسامح مع مخالفيه من غير المسلمين، حتى ليخيل إلى مطالع هذه السيرة العطرة أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعامل مع مخالفيه إلا بما يرضون ما لم يكن في الأمر مخالفة للشرع، كيف لا وقد حباه الله بما لم تعهده البشرية من صفات وخصائص جعلت منه شخصية استثنائية في كل شيء.
فقد كان العديد من مواقفه صلى الله عليه وسلم مدعاة لدخول الكثير من المخالفين إلى الإسلام، ومن الغريب أن تجد من يتكلم باسم الإسلام اليوم يتجاهل سيرة رسول الإسلام ومواقفه الرائعة مع مخالفيه، متبعا هواه وشيطانه مرتكبا جرائم باسم الإسلام أضرته أكثر مما نفعته ونفَّرت منه أقواما كانوا قد بدأوا يدخلون فيه أفواجا عندما وجدوا من الدعاة إلى الله من يشرح لهم روح الإسلام وجوهره وما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التسامح مع أعدائه عندما يقدر عليهم، وكيف كان عادلا في سلمه وفي حربه.
فطوال حياته المليئة بالجهاد في سبيل الله لم يؤثر عنه أنه أمر بقتل أسير سوى اثنين من قريش هما النضر بن الحارث، وأبو عزة الجمحي، فالنضر بن الحارث قتله بعد رجوعه من غزوة بدر، ثم لما بلغه شعر أخته بكى وقال ” لو بلغني هذا قبل أن أقتله ما قتلته “.
أما أبو عزة الجمحي فقد أسر يوم بدر فمنَّ عليه صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه رقة لما ذكره من حال بنات له وأنه لا عائل لهن من بعده، وعاهده أن لا يقاتله ولا يعين عليه، فنكث بالعهد وغدر، فما إن وصل إلى مكة حتى رجع إلى ما كان عليه من إيذاء المسلمين وهجائهم، وكان من المحرِّضين على قتال المسلمين يوم أحد فنام بعد انقضاء معركة أحد ورجوع كفار قريش إلى مكة فأخذه ثابت بن قيس رضي الله عنه وجاء به إلى رسول الله فقال له: أبا عزة؟ قال نعم، وبدأ يستعطف النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( لا والله لا تمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمدا مرتين) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ما عدا هذين الرجلين لم يؤثر أنه صلى الله عليه وسلم قتل أسيرا مطلقا – إذا سملنا أن بني قريظة كانوا حالة استثنائية فقد حاربوا وغدروا فقتلوا – بل كان يعفوا عن الأسرى ويصفح ويأخذ منهم الفدية، حتى إنه لما جاءه وفد هوازن وخيرهم بين سباياهم وأموالهم فلما اختاروا سباياهم، قال لهم ”أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم” فقال المهاجرون والأنصار ما كان لنا فهو لرسول الله، وتتابعت أحياء العرب من المسلمين على هذا سوى ما كان من عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس وعباس بن مرداس السلمي، وهو ما يؤكد أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى الرفق في كل شأنه وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، يفتح بذلك قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما في أمة العرب التي كانت تتمدّح بالتؤدة والعفو عند المقدرة لندرتهما فيها، فقد كان العرب – قبل الإسلام – يثورون إلى سيوفهم ويتفانوا لأتفه الأسباب دون أن يكون للتسامح والتسامي على الجهل أي أثر في قاموسهم، فبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق وليجعل من نفسه القدوة الحسنة في فن التسامح والإعراض عن الجاهل، فقد كان لا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح صلى الله عليه وسلم.
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة كانت كلها تسامحا وعفوا عن مقدرة جعلت منه شخصية استثنائية في هذا المجال، ولو لم نأخذ من هذه المواقف سوى موقفه صلى الله عليه وسلم مع زيد بن سعنة اليهودي قبل أن يسلم لعلمنا مدى حلمه ورحمته وتحريه للعدل حتى مع المخالفين في الدين.
فقد تحقق زيد بن سعنة – وهو من أحبار اليهود- من وجود كل علامات النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقيت اثنتان من علامات النبوة أراد أن يستوثق منهما بنفسه، يقول زيد بن سعنة: لم يبقَ من علامات النبوة إلا وقد عرفتُه في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما فيه: حلمه يسبق جهلَه ،ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حِلماً، قال زيد بن سعنة: فكنت أتلطّف له لأن أُخالطَه، فأعرف حِلمَه وجهلَه، فابتعت منه تمراً إلى أجل، فأعطيته الثمن، فلما كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة، أتيتُ محمداً صلى الله عليه وسلم فأخذت بمجامع قميصه، ورداؤه على عنقه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيَنَّ يا محمد حقي؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطُل.
فنظر إليه عمر رضي الله عنه و عيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، وقال: أي عدو الله تقول لرسول الله ما أسمع؟ فوالله لولا ما أحاذرُ فَوتَه لضربت بسيفي رأسك! قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر بسكون وتُؤَدَةٍ و تبسُّم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر: أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التِّباعة، ثم قال صلى الله عليه وسلم ” اذهب يا عمر فاقضِه حقّه وزِدْه عشرين صاعاً مكان ما رُعْتَهُ ” ففعل ذلك عمر رضي الله عنه ، قال زيد لعمر رضي الله عنه : و ما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر إلاَّ أنّي كنت رأيت صفاته التي في التوراة كلّها إلا الحِلْم، فاختبرت حِلْمَه اليوم، فوجدته على وصف التوراة، وإني أُشهِدُك أن هذا التمر وشطرَ مالي إلى فقراء المسلمين، وأسلم زيد وأهل بيته كلهم إلا شيخاً كبيراً غلبت عليه الشّقوة.
المصدر: موقع اسلام ويب
فيديو قد يعجبك: