حقيقة الأجهزة الوهمية لكشف القنابل
(بي بي سي):
وضع الحكم القضائي بسجن زوجين بريطانيين بتهمة تصنيع أجهزة وهمية للكشف عن القنابل وبيعها نهاية لسلسلة من المحاكمات بعد عملية احتيال عالمي، والتي شهدت وصول هذه الأجهزة إلى مناطق نزاع وكذلك استخدامها في بعض الدول في العالم.
فمن الحرب ضد الانتحاريين في بغداد، إلى حروب المخدرات في مكسيكو والحملة ضد الصيادين غير الشرعيين في أفريقيا، كانت أجهزة ''العصا السحرية'' تسخدم للبحث عن المتفجرات والكوكايين والعاج المهرب.
وفي جنوبي تايلند، وهي المنطقة التي تشهد تمردا منذ فترة طويلة، كانت القوات المسلحة تستخدم تلك الأجهزة في حملاتها الأمنية.
وفي باكستان، كانت تستخدم في تأمين مطار كراتشي، وفي حماية الفنادق بمناطق عدة في الشرق الأوسط.
وكلها كانت أجهزة وهمية، وعلى الرغم من ذلك، لا تزال تستخدم حتى الآن في نقاط التفتيش في العراق، وحماية المواقع في باكستان، وحراسة الفنادق بالشرق الأوسط.
وتتجاوز تكلفة الدعاية للأجهزة وتغليفها تكلفة الأجهزة ذاتها، إذ أن الأجهزة التي بيعت عبر ادعاءات كاذبة لكنها كانت تتسم بلهجة علمية،لم تكن أكثر من حقائب فارغة بها هوائي يعمل وفقا لحركات يد مستخدمها اللاشعورية.
ورغم ذلك، استمر هذا الاحتيال لسنوات، وحقق ملايين الجنيهات للمحتالين في بريطانيا من خلال الآلاف من عمليات البيع في أنحاء العالم.
وتعرضت أرواح الناس إلى الخطر.
''الحظيرة''
كانت الأجهزة، التي تشبه العصا ويجرى تسويقها عبر رجل أعمال يدعى جيمس ماكورميك ومقره مقاطعة سمرست جنوب غرب إنجلترا، تستخدم في العراق، وهو المكان الذي كان يعني فيه اكتشاف قنبلة فرقا بين الحياة والموت.
فبين عامي 2008 و2009، على سبيل المثال، قتل أكثر من ألف عراقي في التفجيرات وأصيب الآلاف.
وحكم على ماكورميك العام الماضي بالسجن 10 سنوات، ولحقه آخرون، إذ أدين رجل الأعمال غيري بولتن، 47 عاما، في أغسطس/ آب الماضي، وسيقضي صامويل تري ثلاث سنوات ونصف في السجن، وحكم على زوجته بالسجن مع إيقاف التنفيذ.
واشترى الزوجان من مقاطعة بيدفوردشير شرق إنجلترا قطعا بلاستيكية زهيدة الثمن من الصين، واستخدماها في تجميع أجزاء الأجهزة في حظيرة بحديقة منزلهما الخلفية.
وبدأ النموذج الأول من الجهاز في الولايات المتحدة عندما أطلق عليه اسم غوفر (السنجاب) وأنه ''هدية مثالية للاعب الغولف الذي يملك كل شيء.'' وزعم أن الجهاز البلاستيكي، الذي تبلغ قيمته 20 دولارا، يستخدم تكنولوجيا متقدمة، و''جرى برمجته على اكتشاف العناصر الموجودة في كرات الغولف''.
''جهاز كوادرو''
وقالت جوان لو، المحققة المسوؤلة عن التحقيق في عملية الاحتيال لصالح شرطة مدينة لندن: ''لو كان الأمر توقف عند العثور على كرات الغولف لما كانت هناك أي قضية''.
لكن، ومع إضافة علامة تجارية جديدة للجهاز، تحول ''غوفر'' إلى جهاز الكشف ''كوادرو'' (Quadro Tracker) - وباعه بائع السيارات المستخدمة السابق كجهاز لاكتشاف المخدرات والمتفجرات.
وبعد أن صنفته الشرطة الفيدرالية الأمريكية كعملية احتيال في عام 1996، جلب رجل بريطاني كان مشاركا في عملية انتاج الجهاز الفكرة الى بريطانيا ليعيد بعثها من جديد تحت اسم مول ''Mole''. (المفردة التي تعني حيوان الخلد(آكل الحشرات) ومجازا الجاسوس البارز).
وجرت محاولات لتسويق ''مول'' لبيعه للوكالات التابعة للحكومة البريطانية، وفي عام 2001، أجرى الخبير التقني في وزارة الداخلية، تيم شيلدون، اختباراته على الجهاز.
''جهاز مضلل''
وقال شيلدون لبي بي سي إنه أصدر أقوى تحذير ممكن عن الجهاز، في نصيحة جرى تداولها في وزارات الحكومة.
ويضيف شيلدون: ''كل ما قيل عن الجهاز مضلل كليا، وحذرنا من أنه قد يكون هناك خطر محتمل في استخدامه''.
واعتقد الخبير التقني بأن ذلك سيكون نهاية لهذه القضية.
لكن المحتالين في بريطانيا الذين يقفون وراء أجهزة الكشف الوهمية غيروا اسم الجهاز وغلافه مرة أخرى، وسعوا للبحث عن أسواق جديدة تقل فيها الأسئلة وتستطيع فيها الرشى إنجاز الصفقات المربحة.
وتقول لو: ''كنت في غاية الدهشة لما وصلت إليه القضية، وصدمت بالطرق التي سلكها المشتبه فيهم لبيع أجهزتهم''.
''بطاقات كاشفة''
وتضيف لو أنه سيجرى التلاعب بشهادات البيع كي تنجح عملية الاحتيال، فأي مشكك في الأجهزة سيتعرض للإهانة العلنية، فيما كان المستخدمون للجهاز يتلقون تعليمات بعدم فتحه خوفا من إتلاف ''التكنولوجيا الحساسة'' بداخله.
وكانت تباع مع بعض الأجهزة ''بطاقات كاشفة'' يزعم المحتالون أنها مبرمجة للعثور على كل شيء بدءا من المتفجرات والبشر والأموال النقدية من الدولار عبر الحوائط الإسمنتية والماء وعلى مسافات بعيدة.
ووصل الأمر إلى أن المحتال غيري بولتن كلف سلاح الهندسة الملكي آلاف الجنيهات بسبب بطاقات عديمة الجدوى فقدت من أحد المعارض التجارية، حيث دفع لبعض من كانوا يرتدون الزي العسكري مبالغ للترويج لتلك الأجهزة الوهمية.
ولقي جهاز بولتن، الذي يطلق عليه GT200، دعما من قبل السفارات البريطانية في مكسيكو سيتي ومانيلا، ثم بعد ذلك من قبل وزارة التجارة والصناعة.
ويقول شيلدون الذي صدم عندما علم بتورط خبراء من فريق دعم الصادرات في سلاح الهندسة البريطاني إن ''تورط وكالات وأجهزة تابعة للحكومة البريطانية في الترويج للجهاز يعد أمر محرجا ومربكا''.
وأضاف: ''لا أعلم حقيقة كيف لهذا الأمر أن يحدث. أعتقد بأنه كان ينبغي فحص تلك الأجهزة على أيدي الخبراء بشأن ما إذا كانت ثمة أي جدارة فعلية فيها قبل الترويج لها''.
وتقول الحكومة البريطانية إنها راجعت إجراءاتها منذ ذلك الحين، للتأكيد بوضوح على أن عرض بريطانيا لمعدات لا يعادل التصديق عليها أو تبنيها.
ويقول المتحدث باسم مكتب رئاسة الوزراء: ''عندما يتبين أن شركة ما تقدم ادعاءات كاذبة أو أن الخطر من جراء ذلك أصبح كبيرا فإن وزارة الاستثمار والتجارة في بريطانيا ستسحب تأييدها وستحيل القضية إلى الجهات المختصة.''
ولم تشتر الحكومتان البريطانية والأمريكية الجهاز لأنفسهما قط، لكن الحكومة البريطانية استغرقت حتى عام 2010 كي تفرض قيودا على مراقبة الصادرات، وعندئذ فقط منعت بيعها إلى العراق وأفغانستان.
ويقول النائب عن الحزب الليبرالي الديمقراطي عن مقاطعة سمرست وفروم، دفيد هيلث، التابع لها جيمس ماكورميك: ''بمجرد أن تأكد الأمر أصبحت بلا قيمة أو معنى، وأصبحت تلك الأجهزة التي تستخدم –كذبا- لحماية الناس من القنابل قطعا من الخردة، وكان ينبغي أن يفرض حظر فوري.''
وأضاف: ''الشيء الغريب، كما أفهمه، هو أنها لم تكن تعمل، ولم يكن عليها أن تحصل على ترخيص، لكن لم يفكر أحد أن يبلغ ذلك للشرطة، أو لوزارة الخارحية أو المختصين في التجارة والصناعة لإيقاف دعم تلك الأجهزة.''
كشف الإيدز بمصر
وتابع: ''هناك شخص ما في مكان ما ارتكب خطأ، وأريد أن أعرف من هو.''
ويقضي حاليا خمسة محتالين عقوبات بالسجن بتهمة بيع أجهزة وهمية.
ويقول تيم شيلدون: ''آمل أن يضع ذلك حدا للأمر الآن، لكن أعتقد أن الأمر سيعاود الظهور في غضون السنوات القليلة القادمة إن لم يكن حدث ذلك بالفعل.''
وفي الحقيقة، ظهر الجهاز في وقت سابق من هذا العام في مصر بادعاءات من الجيش المصري بأن الجهاز يمكنه تشخيص مرض التهاب الكبد الوبائي وفيروس نقص المناعة المكتسب (إيدز).
ولا تزال الأجهزة الوهمية تستخدم حتى الآن في نقاط التفتيش في بغداد. وجرى نشرها مؤخرا في مؤتمر للأمن في جيبوتي، وفقط هذا الأسبوع التقطت بي بي سي صورا للأجهزة أثناء استخدامها في مركز تسوق في باكستان.
والمدهش في الأمر أنه ربما لا يزال هناك بعض المسؤولين الذين يحملون الشخص الذي يستخدم الجهاز أو المناخ مسؤولية فشله في اكتشاف المتفجرات.
ويعترف الجنرال سعد معان، من وزارة الداخلية العراقية، بأن الأجهزة لا تعمل بـ ''المستوى المطلوب''، لكنه يقول إن البلاد لا تزال في انتظار استبداله.
ويضيف: ''ربما تأثرت الأجهزة ببعض الظروف، كالطقس أو طريقة استخدام رجال الشرطة أنفسهم للأجهزة.''
لكن رسالة الشرطة البريطانية واضحة ولا تقبل الشك، وهي أن ''الأجهزة لا تعمل، وتوقفوا عن استخدامها.''
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: