إعلان

شط إسكندرية (١): حكايات الطاولة رقم ٦

شط إسكندرية (١): حكايات الطاولة رقم ٦

ياسر الزيات
08:57 م الأربعاء 19 يوليه 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا أعرف ماذا فعلت الأيام بزملائي في مطعم أباظة في الإسكندرية. لا بد أن سميحة أصبحت جدة الآن، وكذلك هدى "القصيرة" وهدى "الطويلة". 

ولا بد أن جميل يصارع من أجل العثور على عمل في الموسم الصيفي لأحد مطاعم الإسكندرية، وأن أمجد قد أصبح موظفا في جهة حكومية بعد أن تخرج في الجامعة، وربما ترقى في عمله، أو ربما تحول إلى موظف فاسد في منظومة فاسدة. ما يحزنني أن الزمن قد لا يسعف عم حسن وعم كامل، السفرجيين النوبيين الرائعين، بالمزيد من العمر ليعلما الأجيال الشابة من "الجرسونات"- كما علماني وقتها- المزيد من دروس الحياة وأخلاق المهنة وأصولها.

كنت في السابعة عشرة من عمري عندما دخلت على أبي، بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة، واستأذنته في السفر إلى الإسكندرية، بحثا عن عمل في الإجازة الصيفية. قال أبي ببساطة الصعيدي، ولوعة أبوية: "ليه يا ابني؟ إنت ناقصاك حاجة علشان تروح تشتغل؟ قل لي انت محتاج إيه، وأنا أجيبه". وأجبت: "محتاج أكون مستقل، وباعتمد على نفسي".

قال: "على بركة الله، اتكل على الله. روح عند خالتك عفاف. جوزها عمك بخيت راجل محترم وكريم. لكن دايما خليك ضيف خفيف". وهذا ما كان.

كانت لدي دائما رغبة في الاستقلال والاعتماد على الذات، دفعت ثمنها بحياة قاسية في بعض الفترات، لكن قسوة الحياة علمتني الكثير. تضعك الحياة في اختبارات متكررة ومتنوعة، فإذا احتملتها واجتزتها كافأتك، إلى أن يحين موعد اختبار آخر. وليس بإمكانك أن تتوقع متى تعقد الحياة اختبارها القادم، ولا مدى صعوبته، لأن الحياة وحدها هي التي تقرر مواعيدها. أنظر إلى نفسي الآن، وأنا أمشي في شوارع مدينة كبيرة لم أزرها إلا عندما كنت طفلا. رحلة البحث عن عمل توجع الروح بقدر ما توجع القدمين، ولكنني اعتبرت نفسي محظوظا، لأنني لم أستغرق وقتا طويلا حتى حققت هدفي.

دخلت إلى المطعم في ميدان المنشية، وسألت إن كان لديهم عمل لي. أظن أن عم حسن النوبي هو الذي قادني بابتسامته الطيبة إلى صاحب المطعم، الذي سألني عدة أسئلة، ثم قال: "روح اشتري جاكيت أبيض زي اللي لابسينه السفرجية، وتعال اشتغل من بكرة.

يوميتك هتكون جنيه ونص". سألت عم حسن عن مكان يمكنني أن أشتري منه جاكيت أبيض كالذي يرتديه، فقال: "روح العطارين، واشتري واحد مستعمل". ومشيت في شوارع العطارين، ممسكا جيدا بما تبقى من نقود حصلت عليها من أبي.

وقادني أولاد الحلال، الذين كانوا أغلبية في مصر وقتها، إلى محل يبيع جواكيت بيضاء مستعملة رخيصة. في اليوم التالي، بدأت ما كان أول عمل لي في حياتي: سفرجي في مطعم. جئت قبل الموعد خوفا من أن أتأخر فيغيروا رأيهم، ويعتقدوا أنني غير ملتزم.

وصلت قبل أن يفتحوا الأبواب، تماما كما اعتدت أن أفعل لاحقا عندما بدأت عملي صحفيا في مجلة الإذاعة والتليفزيون، حيث يجدني عم أحمد وعبد العاطي منتظرا أمام باب المجلة. ما إن رآني عم حسن، حتى ابتسم، وقال: "اقعد مع زمايلك على نمرة ستة".

في المطاعم، يحمل البشر أرقام الطاولات التي يجلسون عليها: "شوف نمرة ١٢ عايز إيه"، "حساب نمرة ٨ بسرعة"، "نمرة ١٥ ده مقرف"، وهكذا. أما نمرة ستة، فكانت ملجأنا ومخبأنا نحن العاملين عندما لا يكون المطعم مزدحما. على هذه الطاولة تعلمت كثيرا من دروس الحياة وفنونها. علييها كانت لنا حكايات هي مزيج من الدموع والأحلام.

إعلان

إعلان

إعلان