''هالة" وعائلة "شموط" الفلسطينية.. شتات لأكثر من 40 عامًا
كتبت-إشراق أحمد:
عام واحد كان عمر الصغيرة "هالة"، قضته في كنف والدتها قبل أن تغادرها، ليقبع كل منهما في سجن، لم ينكسر قضبانه رغم مرور السنوات؛ الأم زكية شموط حال أهل فلسطين، لا ترضى لإسرائيل الوجود عنوة، وآثرت أن تذيق المحتل الصهيوني مثل ما يفعل بأصحاب الأرض، شاركت زوجها العمليات الفدائية، فكانت من رائدات النضال الفلسطيني، وأما "هالة" وأخواتها فقاسموا الأم ثمن هذا، تفرقوا في دور أيتام مختلفة، منذ صدور 12 حكم عليها بالسجن المؤبد، وأبيهم بحكم لمدى الحياة، ومن وقتها عرفوا معنى الشتات الذي يُكتب أينما وُجد المحتل.
7 عمليات فدائية كبدت إسرائيل خسائر مادية وبشرية، قامت بها السيدة زكية، منذ الستينيات وحتى 1972 قبل إلقاء القبض عليها من منزلها بحيفا، هي ووالديها، وكذلك زوجها أثناء إحضاره الأسلحة من سوريا، فيما أُودعت "هالة" وأخواتها الثلاثة، الذين لا يتجاوز عمر أكبرهم "مسعود" أربعة أعوام في دور أيتام مختلفة.
كانت "هالة" الابنة الرابعة بين أخواتها، طفلة لم تكد تدرك الحياة حتى تعرفت عليها لمدة أربعة أعوام في دار أيتام بالقدس، قبل أن تستكملها في أخرى بمدينة "حيفا"، لم تعرف طوال ذلك الوقت عن أسرتها إلا سمعًا، لم تحظ برفقة أشقائها إلا "نادية"، حينها علمت أنها لم تعد الأخت الصغرى، بل تلك ذات العامين، التي وضعتها أمها في السجن وجاءوا بها إليها "كنت أضلها جانبي.. كانت تخاف من خيالها" تقولها "هالة" عن أختها التي تعيش بالأردن الآن.
صغيرات داخل دور أيتام لا حول ولا قوة لهم "كنت أشوف واسمع واسكت لكن كنت أحصر كل شيء بصدري" هكذا كانت "هالة" حسب قولها، لم تحظ بتلك اللحظات الطبيعية لمن هم بمثل عمرها، ظلت على أمل أن يكون لها أم، لكنه لم يتحقق.
مطار القاهرة؛ المحطة الأولى والأخيرة لـ"هالة" مع والدتها، فيه رأتها أول مرة بعد 13 عامًا، وآخر مرة وهى في الثلاثينيات من العمر، في عام 1985 حيث جرت المفاوضات من أجل تبادل 1500 أسير، ورغم رفض إسرائيل في بادئ الأمر أن تفرج عن "شموط" لكنه تم إطلاق سراحها بعد 14 عامًا قضتها بسجن "الرملة" الإسرائيلي.
كانت "هالة" في الرابعة عشر من عمرها، تصطحب أختها "نادية"، أتى بهما الصليب الأحمر، أخبروها أنها ستلتقي بوالدتها، سبق ذلك لقاء فاتر المشاعر مع أختها "دولت"، لم تعرفها كما أنها لم تعرف والدتها إلا اسما، وأنها لا يحق لها البقاء في فلسطين لأنها في نظر إسرائيل "إرهابية" كما كان يقال لهم بدار الأيتام. بمطار القاهرة التقت السيدة "شموط" ببناتها، احتضنتهما وقبلتهما، أما "مسعود" و"عامر" فظلا في فلسطين، لم تستطع الأم إحضارهما.
لم تدرك الصبية ما يدور "كل اللي بعرفه إنها أمي"، تسير مع أهلها الذين تراهم للمرة الأولى، يسافرون إلى تونس، التحقت بمدارس هناك، ومع نهاية الصف التاسع "ما لحقت أتعرف عليهم زوجوني.. من خوف أمي علينا زوجتنا صغار"، كانت الابنة الرابعة أول من تزوج بين أخواتها، بعمر 16 عاما بدأت حياة جديدة أخرى لم تعرفها.
بعد شهرين من زواج "هالة" انتقلت والدتها وأبيها وأخواتها إلى الجزائر، وهناك تزوجت "دولت" و"نادية"، تتذكر الشقيقة الرابعة تلك اللحظات وتتمنى لو مكثوا في فلسطين "لما طلعنا على أمي ما كسبنا شيء اتفرقنا زيادة" تقولها بأسى بعد قرابة 28 عاما على اللقاء الأول، الذي غير مسار حياتها وأخواتها.
لم تتعلق "هالة" بشيء أكثر من جدتها لوالدتها، احتضنتها وأشقاءها قرابة أربعة أعوام، قبل أن تنتزعهم وزارة الشؤون الاجتماعية وتودعهم دور أيتام مرة أخرى "كانت تحبنا والوحيدة اللي تزورنا وين ما كنا"، من حضن جدتها سلبت "هالة" كما والدتها، فافتقدته حتى صارت هي الأخرى جدة، رغم عمرها البالغ 44 عاما، إذ تحظى بثلاثة أحفاد أصغرهم لا يتجاوز عمره العام الواحد.
صراخ يتبعه ركض بكل العزم، تصل إلى البوابة، تدفعها بكل قوتها، تركض في شوارع حيفا، لا تنظر ابنة الـ12 عاما وراءها، فطالما أرادت أن تقوم بذلك، لكنها لم تفعل، حتى اللحظة التي انفجرت بها في وجه إحدى الراهبات، اللاتي تعملن بدار الأيتام، ما وجدت غير صيدلية، دخلتها لتجد شابة، قصت لها حكايتها، فأخدتها إلى منزلها، لتجد "هالة" نفسها أمام والدة الشابة، كانت بالسجن مع والدتها، استضافوها تلك الليلة "وتاني يوم ودوني على دار الأيتام"، تتذكر "قاهرة الآلام" -كما تحب أن تصف نفسها- تفاصيل محاولة هروبها من دار الأيتام، يضيق صدرها مع ما تبعه من استمرار الشتات "قررت الراهبة المسؤولة تسليمنا لمركز الشؤون الاجتماعية لإخلاء مسؤولية الدار.. اللي أخدتنا عند عيله مسيحية بالناصرة وضلينا عندهم حتى طلعت أمي من السجن".
بالمكان ذاته؛ في مطار القاهرة، كان اللقاء الأخير بين هالة ووالدتها عام 2005. تعلم أنها كل عام تأتي إلى مصر، فسافرت إليها، عشرة أيام أمضتها معها، رغبت الابنة في إيجاد أمها، التي تبحث عنها بين الحين والآخر، فجاءت إليها في 2003، لكن كل مرة تقف الحواجز، فالفراق والشتات تمكن من مشاعر أسرة "شموط"، فعادت "هالة" إلى تونس مرة أخرى، قبل أن تغادرها عائدة إلى الموطن الأول فلسطين، قبل ستة أعوام بعد طلاقها من زوجها، لتستقر في العفولة -شمال فلسطين المحتلة- مع أصغر أبنائها "محمد".
لا تنسى "هالة" ما خطته يداها يوما حال لحظات حياتها التي لم تسر كما أرادت، حتى أنها لم تحظ بفرصة تخيلها، لذلك ظلت ذاكرتها محتفظة بتلك الكلمات التي دونتها في آخر لقاء لها مع والدتها "رغم الغربة والشتات.. رغم المؤامرات والمجازر لا يزال الشعب صامد.. ماذا تقولون لأطفال العرب حينما يسألونكم كيف قاتلوا وحدهم وكيف قاتلت فلسطين بعلبة من كبريت.. وكيف هذا الفلسطيني يذبحونه من يديه ومن عينيه فلا يموت.. وكيف على سيوفكم قد عشش العنكبوت.. أين دبابات العرب.. أين طائرات العرب.. نيابة عنكم أقول إنها واقف مشدودة بالحبال.. بانتظار الكفن الأخير والمشهد الأخير".
شريط حياة "هالة" -الوحيدة بين أخواتها الأربعة التي تلقت التعليم- مليء بالأحداث، أقساها ليس لما فعله المحتل، بل تعامل أصحاب الروابط العرقية "العرب.. ما حدا سأل عنا.. تركونا نعيش بدار أيتام" حسب قولها، كانت أقوى شخصية في عائلتها كما تصف، لذا استطاعت أن تحمي أبنائها "تحت جناحها"، تبقيهم جوارها، تحاول تعويضهم عن حنان الأم وإحساس الأمان الذي افتقدته.
الثلاثاء 16 سبتمبر 2014، كانت تطالع "هالة" المواقع الإخبارية، والتواصل الاجتماعي، حينما قرأت بين الأنباء، وفاة المناضلة زكية شموط عن عمر 69 عاما في الجزائر، دون أن يتحقق حلمها بالعودة لأرض الوطن، لم تتمالك الأبنة نفسها "بكيت لأن متهنيتش فيها لا وأنا صغيره لا وأنا كبيرة" تقولها السيدة الأربعينية الآن، التي تأكد لها الخبر من شقيقتها "مريم"، التي أنجبتها والدتها بعد خروجها من السجن "وتعتبرها بنتها الوحيدة"، 30 عامًا عاشت في كنف والدتها، منذ لحظة ميلادها حتى رحيل أمها، على عكسهم جميعًا.
تكره "هالة" الحروب، القتال، تحيا أيامها راغبة في العيش بسلام، تترحم على والدتها، تمنت لو أبقت على لقبها كأم تلازم أبنائها الذين افتقدوها، وشُتتوا في أنحاء الدول العربية، تمنت لو عاد بها الزمن فكان النضال لأبيها دون والدتها، لو ظلت بحضنها، فاحتفظت بعاطفة تسبق عقلها، بغير جلد الصفات الذي طبعته الأيام عليها، بفعل الغربة، والفراق وشتات الأهل.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: