"إتاوة اعتيادية".. دولة السايس تتحدى وزارة الداخلية
تحقيق – مي محمد ومها صلاح الدين:
وسط الأضواء الملونة لشارع الهرم الساهر دوما، صفت هند وزوجها السيارة بهدوء كعادتهم بجوار أحد فنادق الشارع الشهير، وأمام أحد المولات التجارية، لشراء بعض الأغراض في عجالة.
لم تدم سعادتهما بإتمام المهمة المنشودة، فعندما عادا إلى السيارة لاستقلالها والانطلاق نحو المنزل، استوقفهما رجل فى العقد الثالث من عمره، قوية البنية يطالبهما بأجر لا يعرفون مقابل ماذا، إلا أن اعتياد الموقف دفع هند وزوجها لمنحه بضعة جنيهات معدنية دون نقاش.
خرج الموقف عن سياق الاعتياد، حينما وقف الرجل عابس الوجه أمام عجلات السيارة، مانعا صاحبها من الانطلاق، يطالبه بـ 15 جنيها، قائلا بلهجة آمرة: "الركنة هنا بـ 15 جنيه، المكان ده بتاعي، ولو مدفعتش مش هتخرج بالعربية سليمة". واضطر الزوج مجبرا إلى الدفع في سبيل المغادرة.
السياس: ندفع للحى والشرطة.. والمعلمون الكبار يقسمون المناطق
هند وزوجها ليسا وحدهما، فهناك 8.6 مليون مركبة في مصر وفقا لآخر إحصاء رسمي أجراه الجهاز المركزي والإحصاء في العام 2015، يقعون تحت مطرقة استغلال "منادي السيارات"، أو من يطلق عليهم "السايس"، الذين يفرضون إتاوات، على المواطنين مقابل صف سياراتهم لمدة محددة، في مكان محدد بالشارع، في غياب الرقابة والقانون.
التفت المسؤولون الأمنيون مؤخرا إلى الأزمة، بعد أن رصد "سايس" بأحد الشوارع في مدينة السلام، فتاة في أحد بنايات الشارع، واستغل وجودها في شقتها وحدها، لينفذ مخططا شيطانيا ظل يراوده عدة أيام، بالاعتداء عليها وهتك عرضها، وسرقة مبلغ كبير من الشقة، وفقا لاعترافاته أمام نيابة السلام، في 8 فبراير من العام الجاري، وهو ما جعل الأجهزة الأمنية تخصص رقما ساخنا لتلقي الشكاوى ضد منادى السيارات، أي "السايس".
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد تعالت النداءات داخل مجلس النواب المصري، من أجل تقنين أوضاع منظومة "السايس" في مصر، لهذا قام مصراوي باختراق المنظومة نفسها للكشف عن قوانينها المستقلة، عبر 6 جولات عشوائية موثقة بالصوت والصورة، بمحافظتي القاهرة والجيزة، بدأت بمنطقة المهندسين.
منظومة المعلم
"الركنة عندنا بـ 10 جنيه.. والمعلم حسني هو إلي موقفني" هكذا اعترض "سايس" طريق محررتى "مصراوي" حينما هما بصف السيارة فى إحدى الشوارع الجانبية، المتفرعة من شارع جامعة الدول العربية، خلال ساعة الذروة. نافيا أن يكون هو ومعلمه تابعين للحي، مكتفيا بقوله: "الحتة دي بتاعتنا.. والمعلم مش موجود دلوقتي".
حاولت المحررتان معرفة المزيد عن كيفية تقسيم الشوارع وتبعتها لأفراد في المنطقة نفسها، فقال "فهد" الشاب العشريني النحيل، متوسط القامة، إنه يعمل "سايس" هو وشقيقه بالمنطقة، بالرغم من أنه يمتلك رخصة قيادة، ويمكنه أن يعمل سائقا، إلا أن مهنة "السايس" أكثر ربحا، وفقا لقوله.
كشف "فهد" أنه لا حاجة للحصول على تراخيص من الأحياء لكي تضع يدك على منطقة بالقوة، وتجني الأموال، ويوضح: "المعلم سمير والباشا والمعلم محفوظ دول بشوات مش بياخدوا مناطق بوضع اليد، دول بيراضو المدير، ويراضوا الشرطة ويراضوا الدنيا كلها، ده ممكن يكون بيدفع بال 2000 جنيه للمدير علي الأقل كل شهر".
وعن هوية هؤلاء "المعلمين" كشف فهد لـ "مصراوي" ـ بعد تردد ـ أنه عادة ما يكون "المعلمين" بالمهندسين هم حراس البنايات، الذين يمتلك بعضهم عمارات وسيارات فارهة، أبرزهم المعلم علي، والمعلم سيد، ناهيك عن آخرين يسيطرون على مناطق أكبر وأهم في وسط المدينة. عادة ما يكونون خريجي سجون وبلطجية، وهو ما يتسبب في مشاجرات كبرى قد تؤدي إلى جرائم قتل.
ولم ينكر العقيد عماد حماد، مدير إدارة الإعلام والعلاقات العامة بغرفة مرور القاهرة، ما يجرى فى شوارع العاصمة، إذ تلجأ أقسام الشرطة أحيانا لوضع منطقة ما تحت يد أحد المفرج عنهم، بعد أن قضوا عقوبتهم، ليكسبوا العيش الحلال، على حد قوله.
فى منطقة الزمالك، وقف "أحمد" واثقا أمام "كافيه شهير"، غير مبال بانتشار عناصر الأمن فى الحي الراقي، وقال: "المعلم سمير وديع كان بيشتغل عربجي قبل ما ياخد المكان ده، دلوقتي بيكسب في اليوم 4000 جنيه".
استنكر "أحمد" الذي يعمل بيومية تصل إلى 100 جنيه، وهو واحد من 17 سايس، لدى "المعلم وديع" منذ 3 سنوات، يستأجر خلالها المعلم رصيف المقهى بثمن زهيد، ويستولى على جميع أماكن صف السيارات بالمنطقة المحاوطة به، وحينما سألناه عما إذا كان "المعلم" لديه تراخيص، أجاب قائلا: "ولا تراخيص ولا الكلام ده، المعلم بيدفع للقسم والمحافظة، ومحمي من ظباط كبار، أصلا شغلنا ده مالوش تراخيص".
بلاغ على الخط الساخن
منذ تخصيص غرف المرور بمديريات الأمن رقم هاتف ( 136 ) لتلقي شكاوى المواطنين من منادي السيارات، ألقى القبض على 112 سايس يفرضون الأتاوات ويقومون بأعمال بلطجة في محافظة القاهرة، وفقا لتصريح العقيد عماد حماد، بينما يصل عدد الشكاوى يوميا إلى 200، أغلبها في مناطق التجمعات التجارية، وتحصر إدارات المرور البلاغات المقدمة في كل منطقة على حده، والتحرك في خلال 24 ساعة، ومن ثم إبلاغ أصحاب الشكاوى بالنتيجة، نظرا لقلة أعداد أفراد المرور، وفقا لقول حماد.
خاضت محررتا مصراوى، تجربة سيئة في ظهيرة السبت 11 مارس الجاري، لصف سيارة إلى جوار مستشفى الحسين، بمنطقة الدراسة، أصر خلالها "المعلم تامر وأخوه"، على تقاضى 20 جنيها مقابل الساعة الواحدة، مبررا ذلك بأنه يستأجر الشارع من الحي، وقال: "لو مش عاجبكم روحوا اركنوا في حتة تانية وريحوا نفسكم".
بالأسماء.. هؤلاء هم الكبار الذين يسيطرون على شوارع مصر
يزعم "المعلم محمد" الذى يسيطر على جزء آخر من نفس المنطقة، أن حي الدرب الأحمر هو الذى كلفهم بتنظيم حركة صف السيارات بالمنطقة، وقسم المناطق عليهم منعا للمشكلات، غير أن الحي ليس له دخل بتحديد التعريفة، وأنهم وحدهم أصحاب القرار، مقابل دفع مبلغ للحي.
قررت المحررتان التقدم ببلاغ بالواقعة في اليوم نفسه، على الخط الساخن، الذي بدأ موظفه المكالمة بطلب اسم مقدمة الشكوى، ورقم البطاقة، وتحديد منطقة الواقعة، ومن ثم أخبرها بانتظار الرد خلال 24 ساعة، ومر على التقدم بالبلاغ 4 أيام، دون رد.
ورغم أن قانون المرور المصري يغفل توقيع عقوبات على فرض أتاوات على صف السيارات، أكد العقيد حماد، أن منظومة المرور بصدد التعامل مع من يفرضون إتاوات باهظة، كعقوبة الغش التجاري، مشيرا إلى أن قضية "السايس" ليست متعلقة فقط بإدارات المرور، بل تخضع للمحافظات والأحياء أيضا. لهذا طالبت إدارة المرور بوزارة الداخلية المحافظات، بحصر أعداد مواقف السيارات المرخصة وغير المرخصة، لتقنين أوضاعها.
"جدول بساحات انتظار السيارات في القاهرة والجيزة وأسعارها"..اضغط هنا
الحي.. "المعلم الكبير"
فى ميدان فينى بمنطقة الدقى، وقف أحمد ورفيقه يثرثران في استنكار، بعد مغادرة أحد السيارات، بعبارات "بقوله إديني 5 جنيه زي ما إداك.. مرضيش"، ثم نظرا إلى محررتى مصراوى وقال أحدهما "هتركنوا هنا؟!"، وردا على سؤال بشأن إمكانية استخراج تراخيص موقف سيارات أمام مقهى بمصر الجديدة. كانت الإجابة: "ولا ترخيص ولا الهوا، قبل الثورة كنا بنعمل تراخيص، دلوقتي ولا بنروح ولا بنيجي".
وأكد الاثنان أن هذه الساحة الدائرية المتفرعة من شارع التحرير، ليست "باركينج"، ولكنهم يتقاسمون التعريفة التي قدروها بـ 10 جنيهات سويا، دون اعتراض الحي.
وبرر أحمد ذلك قائلا: "إحنا بندفع لناس في الحي، واللى بياخد في الحي بنكسر عينه، أنا هنا من سنة 80 ولو مين في الحي جه، ميقدرش يعمل معايا حاجة".
ووفقا لنظام مواقف السيارات المرخصة من الحي، من المفترض دفع جنيهات قليلة مقابل كوبونات ورقية يتسلمها المواطنون من السايس، وهو ما استنكره "عم شوقي" منادي السيارات التابع للحي بأحد مواقف السيارات الشاسعة بمنطقة عابدين، مؤكدا، أنه لا يوجد لديهم كوبونات، وأنه ورفاقه حددوا التعريفة، وهو ما لم ينكره أيضا مدير الإعلام والعلاقات العامة بمحافظة القاهرة، معلقا على ذلك بعبارات مقتضبة قائلا: "تم تشكيل لجنة برئاسة اللواء محمد الشيخ سكرتير عام محافظة القاهرة، تضم عددا من الخبراء في المرور والطرق والجهاز الهندسي للتخطيط، لوضع آلية لتقنين وضع "السياس" في الشارع المصري، وحصر كافة المواقف القانونية، وغير القانونية في الأحياء، وفرض تعريفة رسمية، وفرض زي موحد وشارة.
في العالم.. للسايس وجوه أخرى
أطلقت "أسماء" زفرات التململ وهي تقبض على محرك سياراتها لتنطلق، بعد أن دفعت للسايس 10 جنيهات، نظير صف سيارتها تحت مقر عملها، تدفعها تقريبا بشكل يومي، ناهيك عن مصروفات صف السيارة تحت المنزل، وفي الأماكن الأخرى، لتصل ميزانية صف سيارتها فقط إلى ما يقرب من 600 جنيه شهريا. وهو ما يشابه الوضع في دول العالم، من دون إتاوات السايس.
ابتكر معظم دول العالم، مواقف صف سيارات ذكية تعمل بالكروت أو العملات المعدنية، وباشتراكات شهرية محددة، كما هو مبين في الخريطة التفاعلية التالية.
خريطة تفاعلية تضم تجارب مجموعة من الدول.. اضغط على اسم الدولة ثم قم بتشغيل الفيديو للتعرف على كيفية تعامل الدول مع أزمة مواقف السيارات
ويعلق اللواء يسري الروبي الخبير المروري الدولي والإنقاذ والتدخل السريع في مكتب الأمم المتحدة بجنيف، على ذلك بالقول إنه لا يوجد سايس في كل بلدان العالم، فجميع الدول، يخصص أماكن للانتظار بنظام العدادات الذكية.
يردف الروبي بأن منظومة المرور بالكامل غير مؤهلة في مصر، السائق غير مؤهل، والمحقق في قضايا المرور غير مؤهل، المنظومة كلها تحتاج إلى نظرة، ولا يمكن قصر المشكلة على "منادي السيارات"، وهذا يمكن الوصول إليه عبر توافر الإرادة السياسية لإيجاد حل، وسؤال أهل الذكر وليس من يدعون، وترجمة رأيهم إلى قانون في مجلس الشعب، واستمرار الإرادة التنفيذية في التنفيذ.
ولحين تقنين أوضاع منادي السيارات "السايس" ستظل "هند وزوجها"، و"أسماء"، وغيرهم، تحت رحمة "السايس"، يدفعون إتاوة اعتيادية.
فيديو قد يعجبك: