تجارب شركات استغنت عن البريد الإلكتروني في العمل
لندن (بي بي سي)
كانت كلير بيرغ تعتقد أنها تحسن التعامل مع بريدها الإلكتروني، إلى أن عادت من رحلة استغرقت 10 أيام إلى المغرب عام 2001 لتجد أن صندوق الوارد في بريدها الإلكتروني يضم 10 آلاف رسالة.
لقد تلاشت الراحة التي شعرت بها بعد هذه الإجازة، وبدأت تلوم نفسها بسبب أخذها هذه الإجازة أصلاً. ثم وفي لحظة حزن، كما تسميها بيرغ، قررت أن توقف استخدام البريد الإلكتروني لمدة سنة كاملة.
وقد وضعت ردا تلقائيا يستقبله كل من يرسل أي رسائل إلكترونية لبريدها الإلكتروني، سواء الشخصي أو الخاص بالعمل. وتضمن ذلك الرد طلباً ممن يراسلونها بأن يتصلوا بها هاتفياً بدلا من إرسال رسائل إلكترونية. لقد كانت تلك لحظة تغير هائلة في حياة بيرغ.
تقول بيرغ: ''البريد الإلكتروني أداة أنانية جداً، حيث يرسل الناس رسالة محملة بالمهام دون ترو، والنتيجة أنك تصبح عبداً لصندوق الوارد في بريدك الإلكتروني، فتبدأ يومك بفتحه، ولا تغلقه حتى تذهب إلى فراشك للنوم.''
كل العاملين على المكاتب يعيشون تجربة بيرغ واحباطها مع تدفق الرسائل الإلكترونية (الإيميل) إلى حساباتهم ليل نهار. ومن الممكن أن يؤثر الإيميل على أداء الشركة عن طريق تشتيت تركيز الموظفين عن القيام بالأدوار المنوطة بهم، وذلك بمتابعة رسائل غير مهمة.
أحد الباحثين قدر الوقت الذي يستغرقه الموظف للعودة إلى عمله بعد أن يفتح رسالة جديدة وصلت على إيميله ب 64 ثانية. وأظهرت دراسات أخرى أن ذلك الوقت يزيد من مجمل الوقت الضائع سدى في الشركة كل يوم.
ونظراً لعلاقته بفاعلية الموظفين وملاءمة ظروف العمل، حظي الإيميل باهتمام الشركات حول العالم. في ذات العام الذي حققت فيه بيرغ ذلك النجاح بوقف استخدام الإيميل، أعلن المدير التنفيذي لشركة ''أتوس'' الفرنسية للاتصالات عن حظر البريد الإلكتروني الداخلي لنحو 80 ألف موظف في الشركة.
منذ ذلك الوقت، بات حظر الإيميل وسيلة شائعة لدى الشركات لمساعدة الموظفين على المحافظة على التوازن في حياتهم العملية وزيادة انتاجيتهم. بيد أن الحظر الشامل للإيميل يمكن أن يأتي بنتائج عكسية، كما يحذر جيم هارتر، كبير الباحثين في مجال (إدارة أماكن العمل) في مؤسسة غالوب للأبحاث.
ويضيف هارتر: ''تبدو للوهلة الأولى أنها خطوة صحيحة، لكن يتعين على الشركات أن تنظر إلى جذر المشكلة التي تسبب الإجهاد للموظفين.'' ويشرح هارتر ذلك بقوله إن منع الشركات لتداول البريد الإلكتروني بعد الدوام من شأنه أن ينفر الموظفين الذين يفضلون العمل وفق ساعات عمل مرنة.
البريد الإلكتروني في مرمى النيران
بينما يبدو أن حظر البريد الإلكتروني أمرا شائعاً في نوع معين من الشركات، إلا أنه يمتد الآن ليشمل نطاقاً أوسع. فقد أعلنت مصانع السيارات في ألمانيا عن سياسات للحد من استعمال الإيميل.
وكتب أحد صحفيي نيويورك تايمز مقالاً عن الوسائل التي يتبعها للتواصل مع رؤساء التحرير بديلاً عن الإيميل الإلكتروني.
كما قررت شركة ''هالتون هاوسينغ ترست'' البريطانية غير الربحية، والتي تدير آلاف البيوت، الحد من استعمال الإيميل. ويعرف نك ايتكن، المدير التنفيذي للشركة، بانتقاده للبريد الإلكتروني، رغم تصريحه بأن الجهود المبذولة للحد من استخدامه لم تصادف نجاحاً كبيراً.
وقد كتب في مدونة خاصة بالشركة أن الصعوبات التي تواجهه في حمل موظفي شركته البالغ عددهم 280 موظف على التوقف عن تصفح بريدهم الإلكتروني باستمرار، تثبت أن الناس باتوا بالفعل مدمنين على استخدام الإيميل، ولهذا كان تجاوبهم غير عقلاني مع محاولات منعهم من استخدامه أثناء العمل.
ضبط الإيقاع
في شركة ''فان ميتر'' لتوزيع المعدات الكهربية بولاية آيوا الأمريكية، تعد معالجة موضوع إرسال البريد الإلكتروني بعد ساعات الدوام من المواضيع التي تحتل مكاناً بارزاً في سياسة الشركة. فمنذ عشر سنوات، بدأت الشركة في قياس مدى تفاعل الموظفين، وطبقت سياسات لتحسين التوازن بين العمل والحياة الشخصية لموظفيها.
تقول لورا مكبرايد، المدير التشغيلي لشركة تضم 400 موظف، إنه بإمكانك أن تقول للناس أنك تريدهم أن يقيموا هذا التوازن بين الحياة والعمل، لكن بدون أن تبدأ في تطبيق سياسات سريعة وصارمة لتنفيذ ذلك بالفعل، فإن ما تقوله يبقى مجرد أقوال بلا قيمة.
بالنسبة لمكبرايد، كانت لحظة التغيير الحقيقية عندما أدركت أنها اعتادت على أن تغلق أبواب سيارتها على نفسها عندما تعود إلى منزلها بعد انتهاء الدوام، لاستكمال عملها، غير آبهة بأطفالها الأربعة الذين يطرقون شبابيك السيارة من الخارج.
ومما قالته: ''لا أدري إن كنت أعتبر ذلك أمراً شخصياً لا علاقة للعائلة به، ونحن نضحي من أجل العمل والعائلة معاً، ولكن بالتأكيد تأتي العائلة في المقدمة.''
تواصلت مكبرايد مع المسؤولين في شركة ''فان نيتر''، واقترحت عليهم أن يتوقفوا عن إرسال البريد الإلكتروني الداخلي، وأن يقوموا بدلا من ذلك بالاتصال الهاتفي خلال عطلة نهاية الأسبوع، وبعد الساعة الخامسة مساء، وقبل السابعة صباحاً خلال أيام الأسبوع.
وبررت مكبرايد ذلك بأنه لا بد من اتباع سياسات تحترم وقت الآخرين، أكثر من الإيميل الذي يأتيهم في أوقات مختلفة قد تكون غير مناسبة. رغم ذلك، كلما يسمع الواحد منا نغمة بريده الإلكتروني تخطره بوصول رسالة جديدة، فإنه يشعر بأنه ملزم بفتح بريده ليرى إذا ما كانت تلك الرسالة مهمة أم لا.
تقول مكبرايد: ''في المكان الذي عملت فيه سابقاً، اعتبر بعض الناس أنه أمر في غاية الاحترام للآخرين أن يرسلوا لهم إيميل في منتصف الليل، لكنني عندما استرجع ذلك أجده أمراً محرجاً.'' مع مرور الوقت، باتت هذه السياسة جزءاً أصيلاً من خطط النهوض بمستوى الموظفين. والآن، تغلق الشركة حسابات البريد الإلكتروني للموظفين خلال العطلات.
وتقول مكبرايد إنها وعدد غيرها من الموظفين مازالوا يعملون في ساعات المساء، لكن إن تعين عليها أو على غيرها كتابة رسالة بريد إلكتروني، فلا يرسلونها إلا في اليوم التالي، إلا إذا كان رداً ضروريا على أحد الزبائن، أو إذا اقتضى الأمر ذلك نظرا لضيق الوقت.
وعندما تتلقى مكبرايد إيميلاً لا يحتاج رداً عاجلاً، تقوم بفتحه في اليوم التالي. وتعلق على ذلك قائلة: ''لا يتسبب ذلك في مشكلة لأحد، لقد بات ذلك جزءاً أصيلاً من ثقافة العمل في شركتنا.''
وسائل بديلة للتواصل
الذي تعلمته بيرغ على مدار عام من تجربتها هو أنه يتعين على الشركات أن تجد بدائل للتواصل مع موظفيها وفيما بينهم إذا أرادت أن تتخلص من الإيميل بنجاح.
وعندما قررت في البداية أن توقف بريدها الإلكتروني عام 2012، لم تستطع ذلك، لأنه لم يكن يوجد وقتها وسائل تواصل بديلة مثل تطبيق الرسائل المكتبية الذي يعرف باسم (office messaging app).
تقول بيرغ: ''وقتها لم يخطر ببالي أنه يمكن أن نعيش في عالم خال من البريد الإلكتروني، لكن وسائل التواصل اليوم تطورت لتكون بديلاً أفضل أحياناً من الايميل.''
حظر الإيميل كخطوة أولى كان أمرا سهلاً، حسب قول لي مالون، مؤسس شركة الاستشارات الإلكترونية البريطانية (Rarely Impossible) الذي حظر البريد الإلكتروني في شركته بعد أن سمع بيرغ تتحدث عن الموضوع العام الماضي.
يقول مالون: ''وجدت نفسي أفحص هاتفي لرؤية الإيميل 150 مرة في اليوم، لقد بات الإيميل مصدر إزعاج وتشتيت مستمر للذهن''.
ويقول إنه عندما جاء ذات يوم في أواخر عام 2014 ليعلن حظر البريد الإلكتروني بلا سابق انذار، شعر موظفوه بالارتياح. وأخبر مالون موظفيه أن أي موظف ينتهك الحظر فسوف يعاقب بالعمل في مكان ليس فيه جهاز كمبيوتر، ويطلق علي ذلك المكان اسم ''المقعد الشرير''.
وكان هو الوحيد الذي تعين عليه الجلوس في ذلك المقعد لأنه قام بإعادة إرسال البريد الإلكتروني الوارد من الزبائن إلى موظفي الشركة. ويضيف مالون أن التحدي الأكبر في حظر الإيميل يكمن في إيجاد أساليب بديلة للتواصل يمكن عن طريقها تبادل الوثائق وتوزيع المهام.
يقول مالون: ''في الماضي، كان الإيميل مستودعاً لكل الرسائل، بما في ذلك التواصل مع الزبائن ولتخزين الوثائق، و الآن نستخدم حوالي أربع وسائل لوضع الأشياء في شكلها الملائم. ولأن المكان الذي نعمل فيه صغير من ناحية المساحة والحجم، فإن القضايا العاجلة التي كنا نتداولها عبر الإيميل، نقوم الآن بحلها والتعامل معها إما بشكل شخصي، أو بمجرد مكالمة هاتفية سريعة، أو رسالة نصية''.
ويستخدم العاملون أيضا برامج مثل سكايبSkype ، و سلاك Slack، ودروبوكس Dropbox ، لتبادل المعلومات والتواصل بخصوص المشاريع المشتركة.
ويقدر مالون أن شركته استطاعت توفير 20% من الوقت المهدور يومياً نتيجة التخلص من الإيميل، ويقول: ''يتواصل فريق العاملين لدي بطريقة أفضل بكثير من السابق، حيث يمكننا الآن حل المشاكل والتعامل مع القضايا المختلفة بشكل مباشر وسريع''.
وتعتقد بيرغ أننا لن نعيش عالماً خالياً من الإيميل في المستقبل القريب. وتختم قائلة: ''مازلت استخدم الإيميل بشكل يومي لأنني لم أتمكن بعد من تغيير السبعة مليار شخص الذين يستخدمون الإيميل حول العالم، وإلى حين أن أتمكن من ذلك فسأظل أستخدم الإيميل للتواصل مع الناس''.
فيديو قد يعجبك: