حكاية غدير: جلسة رقص خاصة من الهاتف المحمول إلى صفحات التواصل الاجتماعي
لندن (بي بي سي)
تبدأ قصة غدير عندما كانت في الثامنة عشر من العمر "من حينٍ لآخر، يجب أن تكسر إحداهن القالب الذي وضعنا به جميعًا. يجب أن تعلنها: "نعم، تم ابتزازي باستخدام صوري الخاصة. وعلى الرغم من أن هذه الصور قد أرسلتها لأحدهم بإرادتي الحرة، فما زال لا يملك حق استخدامها ضدي سواء بغرض التشهير أو الإذلال."
في عام 2009، عندما كنت في الثامنة عشرة ، كنت في منزل إحدى صديقاتي نحتفل ونرقص على الموسيقى في مساحة خاصة مثل كثير من الفتيات في عمرنا.
تبدأ قصتي عندما طلبتُ من صديقتي أن تُسجل مقطع فيديو وأنا أرقص بكاميرا هاتفي المحمول. لا يمكن وصف الفيديو بأنه كان إباحيا أو ما شابه، ولكنني كنت أرتدي فُستانا قصيرا يكشف عن سيقاني. بعدها بعدة أيام، قمتُ بإرسال الفيديو إلى شريكي العاطفي حينذاك.
أمر كهذا لن يكون مستغرباً في الدول الغربية. ولكن كأغلب الفتيات في مصر، تربيت أنه لا يحق لرجل رؤية جسدي ماعدا زوجي وبالأخص لأنني أنتمي إلى طبقة اجتماعية أقل من المتوسطة تتبنى أفكاراً محافظة.
كنت ما زلت أرتدي الحجاب عند مغادرتي المنزل وكنت على علم كامل بأنني أخاطر بإرسال مقطع فيديو لا أرتدي فيه الحجاب وبملابس كاشفة نسبيًا إلى رجل ليس زوجي أو حتى خطيبي؛ بل أنني خاطرت بالأكثر وأرسلت له بعضًا من صوري الخاصة.
بدأت التهديدات في عام 2012 عندما انفصلت عن هذا الصديق؛ فقد هددني بنشر الصور والفيديو على الإنترنت في حال اصررتُ على الانفصال. كان مقتنعا أن استخدامه للصور في هذا التوقيت سيدمر مستقبلي المهني وصورتي الشخصية في المجتمع خصوصا أنني كنت قد انخرطت في العمل العام في مصر كناشطة سياسية ومدافعة عن حقوق النساء.
لم أكن خائفة فقط، كنتُ مرعوبة! حتى أنني اعتقدت أن حياتي في خطر بسبب تلك التهديدات التي ستتخطى مستقبلي المهني لتشمل أسرتي أيضًا؛ فسمعة الأسرة في مجتمعنا تكمُن في سلوك نسائها، سواء كنَّ الابنة أو الأخت أو الزوجة. فنحن كنساء لا نملُك أجسادنا. فهي التي تحفظ “شرف العائلة"، يملكها ذكورها وليس نساؤها. كنتُ متوجسة أن يجلب الفيديو "عارًا” لعائلتي، حيث سيوبخ الجميع أبي أنه فشل في تربيتي! مدفوعة بمخاوفي، رجوتُ الشخص ألا ينشر الفيديو أو الصور، ولكني اكتشفت لاحقًا أنه فعل.
في بدايات عام 2013، ذكرت في حديث مع مجموعة أشخاص أنني أحب الرقص الشرقي، ولكني أبدًا لن أنسى رد أحدهم على جملتي: "أعرف، لقد شاهدتك على يوتيوب"!
صُعقت من الجملة وعلى الفور تذكرت الفيديو! لم يكتفِ صديقي السابق بنشر فيديو الرقص، لكنه أيضًا نشر فيديو مُجمعا بطريقة المونتاج لصوري الخاصة! فورًا، راسلت “يوتيوب” الذي حذف محتوى الصور الخاصة باعتبارها تنتهك الخصوصية ولكنه لم يحذف فيديو الرقص.
تواصلت - سرًا- مع صديق آخر يعمل بالمحاماة لأسأله إن كان هناك نص في قانون العقوبات المصري يعتبر نشر محتوى خاص على الإنترنت انتهاكاً للخصوصية. شجعني المحامي على تقديم بلاغ رسمي في صباح اليوم التالي ضد صديقي السابق أتهمه فيه بالتشهير.
كنت آمل أن يظل البلاغ سريًا، ولكن بعد شهور قليلة كنت في طريقي من محافظة القاهرة -حيث عملي وإقامتي- إلى محافظة الغربية - مكان إقامة عائلتي الذي غادرته منذ أقل من سنة في هذه الفترة لأستقل اجتماعيًا. تلقيت اتصالاً هاتفيًا من أمي، تُخبرني أن صديقي السابق المُصاب بالقلق من بلاغي ضده، قد أخبر أبي بـ “كل شيء”! لم يكتفِ الصديق السابق بإظهار الفيديو والصور لوالدي ليُثبت له أنه قد "رأى جسمي"، فقد ساومه على الزواج مني "لاستعادة" شرف العائلة، مع تنازلي بالطبع عن بلاغي ضده! كان ذلك أسوأ طلب زواج تلقيته في حياتي!
يعتمد هذا العرض - والذي هو في الواقع تسوية قانونية في هيئة طلب زواج - على المبادئ التي أعتبرها تقيد الحرية الجنسية للنساء في مصر والعالم العربي، والتي يرتبط فيها مفهوم "شرف العائلة" بشكل وثيق بمفاهيم "عفّة" و"طهارة" النساء- أي حريتهن في التصرف بأجسادهن. فإن تم التنازل عن هذه "الطهارة" بأي شكل، فالحل هو استعادة الشرف إما عن طريق الزواج أو عن طريق القتل - في أسوء الحالات. صاحت أمي عند دخولي من باب المنزل: "فضحتينا". حينها أدركت أنني خسرت عائلتي للأبد، فغادرت المنزل في طريقي عائدة مرة أخرى إلى القاهرة ولكنني وجدت نفسي بعد بضعة كيلومترات أطلب من سائق الحافلة التوقف لأتمكن من النزول. لم أسافر. عدتُ إلى منزل عائلتي مرة أخرى أطلب منهم مساندتي في تصحيح مجرى الأمور: "أحتاج دعمكم! لن أتمكن من تصحيحها بمفردي".
كان أبي غاضبا جدًا لأنني أرسلت محتويات خاصة لشخص غريب عني. فحاولت إقناعه أنني لم أخطئ، بل أن الشخص الذي انتهك خصوصيتي هو المُخطئ والمُنتهك. وعلى الرغم من أنه بدا غير مُقتنع تمامًا فقد دعمتني أسرتي في مسيرتي لانتزاع حقي في الخصوصية، وذلك بالرغم من الضغط المجتمعي الذي تعرضوا له من أجلي.
في النهاية تحقق لنا النصر في منتصف عام 2014. حكم على صديقي السابق - غيابيًا - بالسجن لمدة عام بتهمة التشهير.
لم يلبث هذا الصديق أن عكر صفو هذا النصر بعدد من الاتهامات المضادة لإجباري على التنازل. فزور توقيعي على عدة أوراق قانونية ثم تقدم ببلاغات ضدي يتهمني بتبديد أموال وممتلكات الغير بهدف النصب.
في النهاية وبعد أن أرهقتني هذه القصة وإجراءاتها التي لا تنتهي، قررت التصالح لإسقاط العقوبة عنه.
كان كافيًا بالنسبة إليّ أن القاضي أدان صديقي السابق بعد فحص بلاغي ضده، وبأنني أنا مَن قررت التنازل عن البلاغ دون ضغط. انتهى الابتزاز لدرجة أنني اعتقدت أنني سأنسى القصة برُمتها وألتفت لحياتي مرة أخرى. ولكني كنت مخطئة!
عودة لعام 2012، بالأدق بعد عام واحد من الثورة المصرية 25 يناير 2011، أسستُ مجموعة نسوية تُدعى "ثورة البنات".
بدأت “ثورة البنات” كهاشتاج على تويتر، ثم سرعان ما تحولت إلى منصة داعمة للنساء تهدف إلى تغيير واقعهن في مصر بعد الثورة.
ما دفعنا لتأسيس “ثورة البنات” هو رغبتنا في انتزاع حقوقنا كنساء في مصر، حتى لا نعامل كضيوف على مجتمعنا.
في هذه الأثناء أيضًا، قررت أن أخلع الحجاب، واقتحمتُ المجال السياسي العام كفتاة ناشطة ولدت من رحم ثورة يناير، مُتحدثة بكل صراحة ووضوح عن أوضاع النساء في مصر، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أو شاشات التليفزيون.
كما هو متوقّع، بدأ بعض الرجال في تكوين عداءات وضغائن ضد شخصي، وشرعوا في شتمي على الإنترنت.
في أكتوبر عام 2014، شارك بعض المتنمرون رابطا للفيديو - والذي كان مازال متاحًا على يوتيوب- قائلًا: "هذه هي غدير أحمد، الفتاة التي تُريد إفساد الفتيات في مصر، وها هو الفيديو الذي يُثبت أنها "عاهرة".
كانت تلك هي النقطة الحاسمة في قصة الفيديو. ففي الوقت الذي كنت استشيط فيه غضبًا كنت أردد لنفسي: “لا، لن يتم ابتزازي مرة أخرى. لن يهددني أحدهم ثانية. أرفض أن أوصم لمجرد أنني أملك جسد امرأة! لن أشعر بالذنب مُجددًا تجاه جسدي، ولن أشعر بالخوف مما أفعله به!.
في خلال ساعات قليلة قررت نشر مقطع الفيديو علانيًة على حسابي الشخصي في موقع فيسبوك… نعم قررت نشر الفيديو بنفسي هذه المرة!
وكتبت على المنشور: "بالأمس، قام مجموعة من المتنمرين بمشاركة مقطع فيديو خاص بي وأنا أرقص، محاولين وصمي به.
اكتب الآن لأعلن أن هذا الفيديو صحيح. نعم، أنا الفتاة التي ترقص في الفيديو، وأنا لا أشعر بالعار من جسدي.
إلى أي من كان يحاول وصمي عن طريق استخدام جسدي لأنني ناشطة نسوية، فقد تخطيت كل المفاهيم الاجتماعية المغلوطة عن أجسام النساء، هذه المفاهيم التي مازالت تهيمن على المجتمعات الشرقية.
لا أشعر بالعار من جسدي وأنا أرقص ببهجة، تمامًا كما فعلت في زفاف أختي أمام الناس، وحيث كنت أرتدي أيضًا فستانا قصيرا يكشف عن جسدي.
الآن أجيبوني: ماذا يزعجكم أكثر في شخصي؟ افتراضكم أنني عاهرة .. أم افتراضكم أنني عاهرة ومع ذلك لن أمارس الجنس معكم؟!"
انتشر هذا المنشور سريعًا على مواقع التواصل الاجتماعي المصرية. عبّر الكثير من الناس عن إعجابهم بشجاعتي، وساندوني في الجدل الذي خلقته حول حق النساء وحدهن التصرف في أجسادهن، وحقهن في ألا يشهر بهن في كافة الوسائل وبالأخص الرقمية.
تلقيت اتصالات هاتفية من أصدقاء يعرضون مساندتي ومساعدتي على التعافي من أثر التجربة ككل.
أخيرًا: بعد خمسة أعوام، أشعر بأنني وضعت نهاية مُلائمة لكل هذا الرعب وأنني قد أغلقتُ الباب نهائيًا.
وعلى مدار عامين من نشري للفيديو، لم أندم لحظة على النشر. فمن حين لآخر، يجب أن تكسر إحداهن القالب الذي وُضعنا به جميعًا. يجب أن تعلن: "نعم، لقد تم ابتزازي بصوري الخاصة. وعلى الرغم من أن هذه الصور قد أرسلتها لأحدهم بإرادتي الحرة، فما زال لا يملك حق استخدامهم ضدي سواء بغرض التشهير أو الإذلال."
اليوم أنشر قصتي لتشجيع الآلاف من الفتيات حول العالم واللائي يتعرضن للتهديد والابتزاز بصورهن على الإنترنت.
هذه كلماتي الأخيرة لكنّ: لستنّ وحدكنّ. لقد شعرت في خضم صراعي أنني أصارع وحدي، تمامًا كما قد تشعر الكثيرات منكن. اختبرت العجز في أسوأ صوره. وتمكّنت منّي قلة حيلتي، تلك التي تصيبنا عند الشعور بالخزي. كدت أنهار في مرحلة ما وسط هذه التجربة المرهقة جدًا، واستنفذت قواي وخررتُ صريعة لبعض الوقت.
لن أدعوكن لخوض صراعٍ كصراعي، ولكني أرجوكن أن تطلبن المساعدة من أشخاص تثقن بهم.
فبمجرد طلبنا للمساعدة، نشعر أننا لا نعتلي جبهة القتال بمفردنا، وأننا أقل عرضة للإصابة بالخطر.
معًا، يُمكننا تغيير الثقافات التي تُهدد أمننا الجسدي والنفسي، وتدفعنا نحو الخزي من أجسامنا.
معًا، يُمكننا النجاة ويُمكننا - كأخوات- تحويل العالم إلى مكان أكثر أمنًا للنساء.
فيديو قد يعجبك: