كولومبيا "الأسعد في العالم" رغم وضعها الاقتصادي
(بي بي سي)
لا يتوقف الكولومبيون عن الاحتفال، ويكفي أن نعرف أن عدد الاحتفالات في هذه الدولة الأمريكية الجنوبية يفوق عدد أيام السنة نفسها، ودائما ما تقام الحفلات والمهرجانات، سواء كانت لعدة أيام متواصلة خلال كرنفال بارانكويلا، أو عروض كبيرة خلال مهرجان الزهور، أو حتى عندما يزين مواطنو ساحل الكاريبي الحمير في الشوارع خلال "مهرجان الحمير".
يعد هذا مجرد سبب واحد من بين أسباب كثيرة جعلت الاستطلاع السنوي الذي تجريه مؤسسة "وين غالوب الدولية للأبحاث" يضع كولومبيا بين أكثر بلدان العالم سعادة (وأحياناً الأكثر سعادة في العالم).
وتستمر الاحتفالات والأفراح رغم ماضي كولومبيا السيء، الذي يجعل أغلب الناس بالخارج يعرفون أن البلاد تعاني من عنف شديد، علاوة على أنها عاشت 50 عاما من الحرب الأهلية، حيث يعتبر الاختطاف شائعا من جانب الميليشيات اليسارية والقوات شبه العسكرية اليمينية، وكبلاد تنتشر فيها تجارة الكوكايين وغيره من المخدرات.
لكن كولومبيا لم تعد كما كانت أيام تاجر المخدرات الشهير بابلو إسكوبار. ومع اتفاق السلام بين الحكومة وأكبر مجموعة ميليشيات في البلاد "فارك"، يبدو من المناسب أن نفهم كيف يحافظ الناس على سعادتهم المعروفة في مواجهة الفظائع والصعوبات الاقتصادية التي لا يمكن تخيلها.
لو سألت 100 كولومبي عن السعادة، فمن المرجح أن تحصل على 100 إجابة مختلفة عن نفس الموضوع. وبالفعل كانت بعض الردود التي حصلت عليها كالآتي: "المال شيء جيد لكنه ليس أهم شيء في الحياة" و"بشكل عام تحترم ثقافتنا ما يملكه الإنسان" و"نحن نحب الناس والموسيقى".
ويمكنك أن ترى أدلة على منظومة القيم هذه كل يوم، والتي تظهر بوضوح في ترحيب الكولومبيون بالسائحين الأجانب الذين يتزايد عددهم بسرعة كبيرة. وتمتد هذه النوايا الطيبة لتشمل الناس في بلادهم ذاتها أيضاً.
ويشكل الكاثوليك 90 في المئة من أعداد الكولمبيين، أما بالنسبة للمهاجرين فيشكل العرب القادمين من منطقة الشرق الأوسط أكبر مجموعة مهاجرة في كولومبيا، والذين كان يتراوح عددهم بين 40 ألف و50 ألف بين عامي 1880 و1930، أما الآن فهناك جاليات عربية في جميع أنحاء البلاد (أحد أضخم المساجد في أمريكا الجنوبية يقع في مايكاو في منطقة لا غواخيرا الكولومبية). ورغم ذلك، لا تكاد البلاد تشهد أي توتر ديني ولم يصل الإرهاب العالمي إلى هذا البلد، ولا تشير إحصائيات الجريمة إلى وجود جرائم كراهية ضد المسلمين.
يملك ماهر نوفل، فلسطيني كولومبي، مطعم "خليفة" لتقديم وجبات الشاورما في وسط بوغوتا. وفي داخل المطعم، تعمل المحجبات جنبا إلى جنب مع الكولمبيات السود المعممات، وهن غالباً من المهاجرات من منطقة تشوكو الفقيرة على شاطيء المحيط الهادي.
وبينما كنت أفكر بحادث إطلاق النار الذي وقع في أمريكا مؤخراً ضد هنود ظناً من المعتدي أنهم إيرانيون، سألت نوفل ما إذا كان الزبائن قد نظروا ذات مرة بعين الريبة والشك إلى الموظفين العاملين في المطعم، فأجاب "كلا"، وأضاف: "الكولومبيون أبرياء وطيبون ولديهم حب استطلاع، ويسألون الموظفين عن أشياء يشاهدونها في التلفاز تقول إن كل المسلمين إرهابيون. ويوضح الموظفون أن هذه القلة من الإرهابيين لا تمثل دينهم الذي يدعو إلى المحبة وقبول الآخر، ويتقبل الكولومبيون تلك الإجابة".
هل حقا كولومبيا هو أسعد بلد في العالم؟
وبالطبع عانت كولومبيا من العنف والإرهاب المحلي، حيث لم يشهد أي بلد في أمريكا الجنوبية هذه الفترة الطويلة من العنف، لكن يعتقد أوسكار غيليد، عالم أحياء ينظم رحلات من خلال شركة "كولومبيان هايلاندس" للسياحة، إن هذا جزء لا يتجزأ من مفهوم السعادة.
ويقول: "أظن أن الكولومبيين بشكل عام يشعرون بالسعادة، ومفهوم السعادة مسألة فردية. أعني أنه من الواضح أن بلاداً مازالت تعيش في حرب منذ خمسين عاماً ينبغي أن تكون فيها معدلات السعادة متدنية جداً".
ولم تكن الحرب بعيدة عن غيليد، إذ كان أخوه حارسا عسكريا في ساحة بوليفار بمدينة بوغوتا عام 1985 عندما اجتاحت حركة 19 أبريل المسلحة قصر العدل وقتلت 12 قاضياً في المحكمة العليا.
ويقول غيليد: "هذه الحرب التي لا تنتهي هي ذاتها نفس السبب الذي يجعل الكولومبيين لا يكترثون بالحرب. بمعنى آخر: إذا لم تؤثر الحرب علي بشكل مباشر، فينبغي أن أشعر بالامتنان والرضا والتفاؤل وبأنني محظوظ".
ويتفق مع ذلك رودريغو مارتينيز، مؤرخ بجامعة أنتيوكيا، مشيرا إلى أنه رغم أن الكولومبيين لم يتوصلوا بعد لتحقيق الأمن والاستقرار، فإنهم يتوقون إلي ذلك بإرادة لا تتزعزع. ويضيف: "لقد أظهر الكولومبيون دائما قوة وإرادة صلبة في مواجهة الحرب والموت والتاريخ القاسي من العنف والفشل الدبلوماسي".
ويؤمن غيليد بأن الكولومبيين يعززون هذا الصمود القوي عن طريق العلاقات الإنسانية والتفاعل الاجتماعي، ويقول: "نحن نعيش لنحتفل ونستمتع بالإجازات ونشغل أنفسنا بالمناسبات الرياضية والترفيه ومسابقات الجمال وهكذا، ونبدأ في التفكير بالمناسبة التالية قبل أن تنتهي المناسبة الحالية".
أما النشاط الذي يبدو أن الكولومبيين لا يتوقفون عن التفكير فيه فهو الرقص. وتعد رقصة الصلصا هي الأشهر في البلاد والجميع يتقنها هناك، خاصة في كالي.
وتعتبر هذه المدينة المبهجة الواقعة في وادي كاوكا الخصيب جنوب كولومبيا هي المكان الأشهر لرقصة الصلصا، إذ تنظم المسابقات السنوية الدولية، وتشتهر بوجود أشهر أندية رقصة الصلصا في البلاد.
تقول نورا أليخاندرا توفار، معلمة رقص وصاحبة مدرسة "أريباتو سالينو" لتعليم الصلصا في كالي: "الرقص يجعلك متحررا، فهو وسيلة للتعبير والإحساس. وتسري الموسيقى مسرى الدم في العروق والقلوب. إنها عشق نحمله طوال العمر".
وتعد رقصة الصلصا مؤشرا على المساواة، فكل شخص يستطيع ممارستها، ويبدو أنها تجعل البلاد كلها تشعر بالسعادة. لكن هل تختلف تجربة الكولومبيين مع الصلصا عن تجارب شعوب أخرى كالبرازيليين مثلاً مع السامبا؟
تقول توفار: "أعتقد أن هناك عدة فروق، فرقصنا يتميز أكثر بالصفة الاجتماعية لأنه من الضروري أن ترقص الصلصا في جماعات."
وعن أهمية الرقص في البلاد وسط العنف والصراع والمشاكل الاقتصادية، تقول توفار إن الصلصا تلغي المسافات الاجتماعية التي تفصل بين الناس لأنها تتطلب أن يحتضن الراقصون بعضهم البعض في لحظة تلتقي فيها نظراتهم. الشعور بهذا القرب يجمعهم سويا في لحظة واحدة، مما يساعدهم على معرفة بعضهم البعض، ورؤية أفضل ما عند الآخر.
هناك بالتأكيد حالة من السعادة والسلام في نوادي الصلصا، لكن هل يمتد ذلك إلى كل مكان وإلى المناطق التي يعيش فيها الناس في ظروف صعبة للغاية؟ هل يمكن أن يكون هناك سلام في أكثر الأماكن قسوةً؟
لمعرفة الإجابة ركبت حافلة صغيرة في شوارع مدينة ميدلين المتعرجة، وهي المدينة التي كانت أكثر مدن العالم عنفا في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، لكنها أصبحت الآن مختلفة تماما بسبب مكافحة المخدرات وبناء خط مترو يربط أرجاء المدينة ببعضها البعض.
تقول كارولينا راميريز، دليلتي السياحية في هذا اليوم، وهي تنظر إلى الجبال المحيطة: "نحن محظوظون أن الله وهبنا هذه الأرض".
وشأنها شأن الكثيرين في هذه المنطقة، تعاني كارولينا من أثار سنوات العنف. وحتى لو نجحت في إخفاء الأثار الجسدية تحت الملابس، فإن الأثار النفسية العاطفية لا تزال حاضرة وتظهر من خلال الابتسامات المتوترة والتقلب المزاجي. تقول كارولينا، التي عاشت عائلتها في مدينة ميدلين 60 عاما، وهي تشير إلى مجمع "أوفا لا ليبرتاد" الرياضي: "اليوم توجد حدائق وممرات للدراجات، ويلعب المئات من الأطفال كرة القدم في ذلك المكان".
ولا تزال ترتكب جرائم في هذا المكان، لكن توجد هناك حياة أيضا ويمكنك أن ترى الآباء والأمهات وهم يصطحبون أطفالهم للمدارس، والرجال وهم يلعبون وربات البيوت وهن يتحدثن مع جيرانهن.
تقول راميريز: "لقد نجا جيلي مما حدث، لكنه عانى من تبعات الحرب، التي تتمثل في المخدرات والدعارة. وهناك فرص أكثر للأجيال الشابة أن يتعلموا ويعملوا ويبنوا حياتهم الآن". وأضافت أنها تشعر بالسعادة من أجلهم.
ويمكن أن ننظر إلى راميريز على أنها رمز لأمتها. فالبرغم مما عانته كولومبيا فإن شعبها لم يفقد براءته ولا إرادته، ويشعر بالسعادة ويتعامل مع الآخرين بالمودة والإحسان. وبالنسبة لأي شخص أجنبي، ربما يبدو ذلك ساذجاً، لكن سعادة الكولومبيين الدائمة ما زالت تشكل السلاح الأكثر فعالية في حربهم ضد اليأس، وهي التي مكنتهم من الاستمرار رغم الحروب الأهلية والتفجيرات والخطف.
فيديو قد يعجبك: