لماذا تتسع الفجوة كثيرا بين الفقراء والأغنياء؟
لندن (بي بي سي)
يقول الباحثون الذين يدرسون نظرة الناس للتفاوت في توزيع الثروات إننا لم ننجح في وضع التعريف الصحيح لقضية عدم المساواة.
في ظل اتساع الفجوة بين أصحاب الثروات والمعوزين، واستحواذ واحد في المئة من سكان العالم على نصف الثروات، والتفاوت في مستويات الدخل، يحظى ذلك البون الشاسع بين الفقراء والأغنياء باهتمام غير مسبوق في الوقت الراهن. وأشارت تقديرات إلى أن واحدا في المئة من سكان العالم يملكون 50 في المئة من ثروات ذلك العالم.
ووصف هذا المستوى من عدم المساواة، في الكثير من السياقات، بأنه "التحدي الأكبر" الذي يواجهه العالم. لكن هل يمثل عدم المساواة أكبر التحديات التي نواجهها بالفعل؟
يرى بعض الباحثين أن التفاوت في مستويات الدخل قد لا يكون هو التحدي الأساسي الذي يواجهه العالم، ويقولون إن المشكلة الحقيقية لا تكمن في الهوة بين الأغنياء والفقراء، إنما في غياب العدالة، الذي يتجلى في محاباة البعض، وظلم آخرين. ولعل التحدي الأهم في القرن الحادي والعشرين هو الاعتراف بوجود علاقة بين الفقر والظلم.
وبينما ينظر الكثيرون لعدم المساواة على أنه أحد مظاهر غياب العدالة، فمن المهم أن نزيل اللبس بين المساواة والعدالة. ويرى هؤلاء الباحثون أن الاتفاق على تعريف قاطع لمصطلح عدم المساواة سيساعدنا في تحسين المجتمع الذي نعيش فيه، لأننا بهذا سنوجه الموارد لتلبية الاحتياجات الضرورية.
لماذا تشغل قضية عدم المساواة والتفاوت حيزا كبيرا من اهتمامنا؟ هل بسبب وجود أغنياء وفقراء؟ أم بسبب عدم تكافؤ الفرص؟ أم لسبب أخر؟
وتحت عنوان "لماذا يفضل الناس التفاوت الاجتماعي"، نُشر بحث في أبريل في دورية "السلوك البشري الطبيعي"، استعرض خلاله فريق من الباحثين من جامعة ييل الأسباب التي تجعل البشر، حتى الأطفال والرضع، يفضلون العيش في مجتمعات يسودها التفاوت الطبقي.
ربما يبدو ذلك منافيا للمنطق، فلماذا يفضل الناس التفاوت الاجتماعي؟ تشير الدراسات إلى أن الناس إذا وجدوا أنهم جميعا متساوون، سيشعر الكثير منهم بالغضب أو الضيق إذا لم يكافأ المجتهد، أو إذا نال المقصر مكافأة لا يستحقها.
وفي دراسة نُشرت عام 2012 في دورية علم النفس التجريبي، كُلِفت مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين ستة وثمانية أعوام بتوزيع عدد من المماح (جمع ممحاة) على صبيين ينظفان إحدى الغرف في صورة مكافآت.
واكتشف الباحثون أنهم عندما أخبروا مجموعة الأطفال أن الصبيين أبليا بلاء حسنا، ثم أعطوا الأطفال عددا فرديا من المماح، وافق الأطفال فيما بينهم بالإجماع على التخلص من الممحاة الزائدة بدلا من إعطائها لصبي من الصبيين دون وجه حق.
ورغم ذلك، عندما أخبر الباحثون الأطفال أن أحد الصبيين اجتهد أكثر من الآخر، منحت المجموعة الممحاة الإضافية للصبي المجتهد.
تقول كريستينا ستارمانز، باحثة ما بعد الدكتوراة في علم النفس بجامعة ييل، والتي شاركت في هذا البحث: "نحاول من خلال هذه الدراسة أن ندحض الاعتقاد الشائع أن أغلب الناس يكرهون التفاوت الاجتماعي في حد ذاته، وأن نثبت في المقابل أن ما يشغل الناس ويؤرقهم هو غياب العدالة".
وتضيف ستارمانز: "إن هناك التباسا في الوقت الحالي في الولايات المتحدة وأغلب بلدان العالم بين قضية المساواة وقضية العدالة. ونظرا لاتساع هوة التفاوت الاجتماعي، افترض البعض غياب عدالة التوزيع. إلا أن ذلك اللبس أدى إلى تشتيت الانتباه عن القضية الرئيسية وهي العدالة والإنصاف، والتركيز في المقابل على التفاوت في توزيع الثروات بحسبانه المشكلة التي يجب معالجتها".
وأوجز مارك شيسكين، باحث ما بعد الدكتوراة في العلوم المعرفية بجامعة ييل، والذي شارك في إعداد الدراسة مع ستارمانز، نتائج البحث ببراعة، قائلا: "يفضل الناس بشكل عام التفاوت الاجتماعي تحت مظلة سياسات عادلة، على المساواة تحت مظلة سياسات جائرة".
ويرجع ذلك إلى أن محاولات سد الهوة بين الفقراء والأغنياء في العالم تتعارض مع إدراك الناس لمفهوم العدل والإنصاف، وهذا قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار.
ويرى نيكولاس بلوم، أستاذ الاقتصاد بجامعة ستانفورد، أن المجتمع الذي يخلو من الفقر هو مجتمع مثالي غير واقعي. لكن، حتى في هذا المجتمع، إذا كان الناس متساوين اجتماعيا، وتحكمهم سياسات جائرة، فسيصبح هذا المجتمع عرضة للانهيار.
ويقول بلوم: "الناس لا تعمل ولا تبتكر ولا تجتهد في المعتاد من دون حافز لأسباب وجيهة تماما. فإذا كنتُ رساما، أو طبيب أسنان، أو عامل بناء، لماذا سأعمل 50 ساعة في الأسبوع إذا كنت سأحصل على كل شيء بالمجان؟"
ويضيف بلوم: "من خلال تجربتي في الإدارة، يعتقد الناس أنه ليس من الإنصاف أن تكافيء المقصر والمتهرب من العمل. وإذا كنت تقود فرقا كبيرة من الناس، ستجد أنه لا شيء يثير غضب الناس كما يثيره حصول المتقاعسين على نفس المكافأة والترقية التي حصل عليها المجهتدون".
ولكن كيف نُعرّف عدم المساواة؟
يرى الباحثون أننا يجب أن نتفق على تعريف موحد لمصطلح "عدم المساواة"، أو ما يسمى بـ "التفاوت الاجتماعي".
وإذا كنا نحاول التوصل إلى طرق للتصدي لعدم المساواة، لا يفوتنا أن نذكر أن هناك ثلاث أفكار مستقلة، ولكنها مترابطة، تندرج ضمن عدم المساواة.
أولا، فكرة حق الناس في الحصول على فرص متكافئة في المجتمع، دونما تمييز على أساس الخلفية الثقافية أو الاجتماعية، أو العرق، أو الميول الجنسية، أو النوع الاجتماعي، وما إلى ذلك.
والفكرة الثانية هي التوزيع العادل، والذي يستوجب توزيع المزايا والمكافآت بإنصاف بناء على مبدأ الاستحقاق.
والفكرة الأخيرة هي مفهوم المساواة في النتائج، والذي ينص على أن الناس يجب أن يحصلوا على عوائد مالية متساوية مهما اختلفت ظروف العمل.
وهذه الفكرة الأخيرة صعبة الفهم إلى حد ما، وقد ناقش الكثير من الخبراء في "بي بي سي فيوتشر" هذه العبارة وفسروها على النحو التالي: لنفترض أنك تحصل على خمسة جنيهات، وصديقك يحصل على عشرة جنيهات، فهذا يمثل تفاوتا في النتائج، لأنكما حصلتما على مبلغين مختلفين من المال، بغض النظر عن الظروف المختلفة التي عملتما فيها.
وتمثل كل فكرة من هذه الأفكار الثلاث ضربا من ضروب عدم المساواة التي نلمسها في حياتنا اليومية، وتصب جميعها في الاتجاه العام الذي تندرج تحته هذه الأفكار، والذي اعتاد الكثيرون على تسميته "التفاوت الاقتصادي". ولابد من إدراك هذه الأبعاد المختلفة لعدم المساواة من أجل إعداد خطة شاملة للتصدي لها.
إذن، أي نوع من أنواع عدم المساواة الثلاثة يجب معالجته؟ وأي نوع من أنواع المساواة سيزيد من احتمالات تحسين المجتمع؟
التصدي للمشكلة الحقيقية
يوافق الكثير من الباحثين والخبراء الاقتصاديين الذين حاورتهم بشأن هذا الموضوع على أن الأضواء مسلطة أكثر من اللازم على أصحاب الثراء الفاحش ونسبة الواحد في المئة من سكان العالم، الذين يملكون نصف الثروات.
ويقولون إننا من الأفضل أن نركز على مساعدة الفئات الأقل حظا، الذين لم يستطيعوا أن يحسنوا أوضاعهم بسبب غياب العدالة.
ويرى هاري جي فرانكفورت، الأستاذ الفخري للفلسفة بجامعة بيرنستون، في كتابه "نظرة على عدم المساواة"، أن الالتزام الأخلاقي ينبغي أن يتمثل في القضاء على الفقر، وليس تحقيق المساواة، والسعي الجاد من أجل توفير السبل التي تكفل الحياة الكريمة للجميع.
ويقول فرانفكورت: "أغلب الظن أن الناس سيتعاطفون مع المعاناة التي يتكبدها الآخرون بسبب الفقر أكثر مما يتعاطفون مع الضرر المترتب على أولئك الأقل ثراء من غيرهم. وربما يفضي هذا التعاطف إلى فرض تشريعات مناسبة لتخفيف وطأة الفقر والمعاناة".
لقد أصبح التفاوت الاقتصادي من المشكلات المستفحلة التي طالت مختلف المجالات، ورغم ذلك لا يزال يكتنفها اللبس، بسبب دقة الفروق بينها وبين غيرها من المشكلات. ويعد هذا التفاوت محصلة لعوامل ثقافية وسياسية متداخلة حول العالم على مرّ الأزمان.
وسيسهم فهم تعريفات عدم المساواة المختلفة، والتي من بينها عدم تكافؤ الفرص، في تسليط الضوء على وجود تفاوت في الفرص المتاحة للأفراد لتحقيق النجاح، وانعدام الفرص أمام البعض حتى لو بذلوا مجهودا شاقا لتحقيق النجاح.
وستختلف الحلول التي ستطرحها لحل مشكلة عدم المساواة باختلاف الرؤى والاتجاهات السياسية التي تتبناها. فلو كنت يساريا، قد تؤيد إتاحة نظام التأمين الصحي الشامل لجميع المواطنين، أما إن كنت يمينيا فقد تؤيد خلق فرص عمل لذوي الأجور المنخفضة.
ومهما اختلف النهج السياسي للتصدي لعدم المساواة، يقول الخبراء إن الحل يكمن في التركيز على قضيتي الفقر وغياب العدالة. وهذا هو الالتزام الأخلاقي الحقيقي الذي يصفه الباحثون بأنه التعاطف مع الفئات التي تئن تحت وطأة الفقر والظلم.
وتقول ستارمانز: "يجدر بنا أن نحول الأنظار عن قضية عدم المساواة، وأن تتصدر قضايا أخرى في المقابل أحاديثنا وأبحاثنا، مثل غياب العدالة، والفقر، وهما سببان رئيسيان للمشكلات التي تشغل اهتمامنا".
فيديو قد يعجبك: