إعلان

سد تركي يقضي على بلدة يعيش فيها الإنسان منذ 12 ألف عام

07:55 ص الأحد 06 أكتوبر 2019

سد تركي يقضي على بلدة يعيش فيها الانسان منذ 12 ألف

"بي بي سي":

لنهري دجلة والفرات مكانة خاصة في التراث والموروث الشعبي الكردي، وهما موضوع كثير من الأغاني والأمثال الشعبية والقصص، لكنهما تحولا خلال العقود القليلة الماضية إلى مصدر شقاء لأبناء المنطقة بعد أن بنت الحكومات التركية المتعاقبة 22 سدا على هذين النهرين، مما أدى الى تهجير أبناء مئات القرى التي باتت أثراً بعد عين وأُجبر مئات الآلاف منهم على الهجرة إلى المدن الكبرى غربي البلاد.

وخلال أيام قليلة قد تتحول بلدة "حسنكيف" وعشرات القرى الواقعة على ضفاف نهر دجلة إلى مجرد ذكريات بعد أن تغمرها مياه بحيرة سد إيليسو الذي اكتمل بناؤه.

وقد بدأت الحكومة التركية ملء بحيرة السد، وهو الأمر الذي قد يستغرق عامين ويتوقف على كميات الأمطار التي تهطل. وتشير صور الأقمار الصناعية التي التقطت حديثا إلى إرتفاع منسوب المياه في حوض النهر.

وسيتم فرض طوق أمني على البلدة في الثامن من الشهر الحالي وستقطع الطرق المؤدية إليها مع خروج آخر أبنائها منها.

وكانت الحكومة التركية قد شرعت العام الماضي بملء بحيرة السد وأوقفت تقريبا تدفق المياه إلى العراق، لكنها تراجعت عن ذلك وأجلت الخطوة إلى العام الحالي بعد احتجاج الجانب العراقي.

احتجاجات

ورغم الاحتجاجات المحلية والدولية حول الآثار المدمرة لهذا السد منذ إعلان الحكومة نيتها بناءه أواسط القرن الماضي مضت حكومة الرئيس، رجب طيب أردوغان، في هذه الخطط بعد أن تجاوزت كل العقبات عام 2006 وباشرت بناء السد.

وفي عام 2008 انسحبت الشركات الغربية من مشروع بناء السد فلجأت الحكومة إلى التمويل المحلي ورفعت وتيرة أعمال البناء.

وقبل التوجه إلى محكمة حقوق الانسان الأوروبية، رفع أنصار البيئة والمدافعون عن "حسنكيف" دعوى أمام القضاء التركي لوقف البناء لأن السلطات لم تقم بدراسة الأثر البيئي للسد كما يشترط القانون التركي، فما كان من الحكومة سوى إلغاء القانون ببساطة.

فلجأ المعارضون إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية العام الماضي في مسعى أخير لوقف عمليات تخزين المياه في السد، لكن آمالهم خابت بعد أن قالت المحكمة إن حماية الإرث الثقافي للأفراد ليس من بين حقوق الإنسان الأساسية المعتمدة عالميا.

ويرى علماء الآثار أن الانسان بدأ الاستيطان في مدينة "حسنكيف" التي تقع في الجزء الأعلى من وادي الرافدين، قبل 12 ألف عام وهي الفترة التي تعرف بالعصر النيوليتي.

وقد عُثر على آثار تعود لتلك المرحلة في مئات الكهوف المحفورة في المنحدرات الصخرية الواقعة على ضفاف النهر، بل وصل الأمر بالعلماء للتأكيد على أن المدينة هي أقدم مستوطنة بشرية منذ أن تحول الإنسان من مرحلة البداوة إلى السكن والزراعة ولم تنقطع الحياة فيها منذ ذلك الحين.

حضارات متعاقبة

تناوبت على حكم المنطقة العديد من الحضارات التي تركت آثارا واضحة فيها. وكان الأشوريون يطلقون على المدينة اسم "كاستروم كيفا" ويعني القلعة الصخرية.

وفي عام 300 بعد الميلاد بنى الرومان في المدينة حصنا بهدف حماية حدود الإمبراطورية والوقوف بوجه الإمبراطورية الفارسية الواقعة على حدودها الشرقية، وكذلك حماية قوافل الماشية وتجارة الحبوب.

وفي القرن الخامس الميلادي سيطرت الإمبراطورية البيزنطية على المدينة ثم أقامت فيها مقرا كنسيا. لكن العرب دخلوها عام 640 ميلادي، وأطلقوا عليها اسم حصن كيفا وبعدها تولى حكم المدينة الأرتقيون التركمان والأيوبيون الأكراد وفي عام 1260 سيطر عليها المغول مع غيرها من مدن المنطقة.

وخلال العصور الوسطي حافظت "حسنكيف" على دورها كمحطة هامة على طريق التجارة "طريق الحرير".

وفي عام 1515 سيطر عليها العثمانيون وباتت جزءا من الإمبراطورية العثمانية.

ومن أبرز آثار المدينة قصر الملك الأرتيقي الذي بُني في القرن الثاني عشر ومسجد رزق الذي بناه السلطان الأيوبي سليمان عام 1409وقبر زينل المخروطي الذي تغطيه قطع الموزاييك الأزرق والفيروزي اللامع.

وكانت آلاف الكهوف المجاورة للنهر مسكونة من قبل أبناء المنطقة حتى عام1972، وكانت أبعد ما تكون عن الكهوف إذ كانت أشبه بشقق محفورة داخل الصخور.

وكانت "حسنكيف" محطة أساسية على "طريق الحرير" بسبب موقعها المميز. ولم يتم التنقيب في الطبقات المختلفة الواقعة تحت المدينة.

وستغمر مياه البحيرة أكثر من 300 موقع أثري وتاريخي على ضفاف النهر إذ ستمتلئ بحيرة السد بنحو 11 مليار متر مكعب من المياه وتمتد على مسافة تزيد عن 176 كيلو مترا ، فحسنكيف التي تقع على بعد 93 كم من موقع السد ستصبح على عمق 60 مترا تحت الماء وستبلغ مساحة البحيرة 313 كيلو متراً مربعاً. ويبعد السد الذي تقدر تكاليفه بنحو مليار ونصف مليار دولار 65 كم عن الحدود السورية والعراقية.

كما ستغمر مياه البحيرة العديد من الروافد والأنهار الصغيرة التي تصب في النهر الكبير، والتي يبلغ إجمالي طولها 400 كم وستصبح جزءاً من البحيرة الاصطناعية.

وحسب دراسات جامعة "دجلة" التركية هناك 40 نوعا من الأسماك التي تعيش في النهر سيتراجع عددها بنسبة 40 في المئة في ولايات باطمان وديار بكر ونهر دجلة.

كما ستكون جودة المياه في البحيرة الاصطناعية أدنى بكثير من نوعية مياه النهر قبل بناء السد.

ومن بين الأثار المتوقعة للسد تسببه في توتر العلاقة مع العراق وسوريا. ففي سنوات الجفاف قد توقف تركيا تدفق مياه دجلة إلى البلدين وسيكون لذلك آثار مدمرة على البلدين وخاصة العراق إذ يعتبر نهرا الفرات ودجلة المصدران الأساسيان للمياه المستخدمة لأغراض الزراعة والشرب في العراق، وهما مصدر الحياة لأهوار العراق وسكانه.

وتبلغ الطاقة التي ينتظر أن يولدها السد 1200 ميغاواط من الكهرباء وهو ما يعادل واحد في المئة من حاجة تركيا.

وعند امتلاء بحيرة السد ستتأثر نحو مئتي قرية بشكل أو آخر في أربع ولايات، وحسب إحصاءات الحكومة ستغمر مياه البحيرة 85 قرية بشكل كامل وسيفقد 55 ألف شخص منازلهم وأراضيهم ويواجه 15 ألف شخص الترحيل القسري.

ولم يبق من أبناء بلدة "حسنكيف" سوى العشرات وهم في طريقهم إلى ترك مساكنهم التي عاشوا فيها جيلا بعد آخر قبل أن تغمرها المياه.

والغالبية العظمى من أبناء القرى التي ستتأثر هم من الأكراد وهناك قريتان من أتباع الديانة الأيزيدية، بينما أبناء "حسنكيف" موزعون بالتساوي بين عرب وأكراد.

وقد اجتمع حاكم ولاية باطمان التي يقع فيها السد مع من بقي من سكان "حسنكيف"، ليخبرهم أن قوات الأمن ستمنع الدخول إلى البلدة في 8 أكتوبر وستغلق الطرق المؤدية لها.

فائدة عابرة

والعمر الافتراضي للسد هو ما بين 50 إلى 60 عام وبعدها يجب التخلص منه، لكن بعد أن يكون قد دمر النظام البيئي الدقيق الذي تطور عبر ملايين السنين والأرث التاريخي والإنساني الذي يمتد لأكثر من 12 ألف عام.

ويقول علماء الآثار إنه لم يتم التنقيب سوى عن 15 في المئة من آثار المنطقة.

ويجدر بالذكر أن منطقة ميزوبوتاميا التي تشمل المنطقة الواقعة بين نهري الفرات ودجلة تعتبر مهد الحضارة الانسانية وفيها تعلم الانسان الزراعة وتدجين الحيوان وأقام أولى المستوطنات البشرية.

وهذا السد عبارة عن حلقة من مشروع الغاب التركي الطموح الذي يشمل بناء 22 سدا عملاقا لتخزين المياه و19 محطة لتوليد الكهرباء على نهري الفرات ودجلة بطاقة إجمالية تبلع 7476 ميغاواط. ومن المتوقع أن يتم ري 1.89 مليون هكتار في تسع ولايات وهو ما يعادل أكثر من 10 في المائة من مساحة تركيا.

وسيؤدي هذا المشروع في نهاية المطاف إلى تراجع حصة سوريا من مياه نهري الفرات ودجلة بنسبة 40 بالمائة وحصة العراق بنسبة 80 في المائة.

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: