"امرأة مصلوبة".. مصراوي يتتبع خطى مدمن "PUBG" قاتل معلمته بالإسكندرية
كتب- طارق سمير، وسامح غيث:
تصوير- حازم جودة
رسوم- سحر عيسى
صباح الخميس قبل الماضي، أمسك "س. م" يد صديقه "سيف الدين. إ" المتهم بقتل مُدرِّسته، وهنأه بعيد ميلاده "كل سنة وأنت طيب عيد ميلادك بكرة"، لكنه فوجئ برد فعل الأخير حينما قال: "هيبقى أسود يوم في حياتي. لازم أقتل ميس هانم".
في اليوم التالي، أنهى سيف حياة مُدرِّسته طعنًا بالسكين، أثناء تواجده في مسكنها لتلقي درس خصوصي، وبرر جريمته قائلا إنه يمارس لعبة "PUBG" الإلكترونية التي تستند إلى وقائع مسلسل رسوم متحركة، فولَّدت لديه فكرة القتل.
بين 4 أحياء في محافظة الإسكندرية، تنقل محررا مصراوي لسماع روايات أهالي وأصدقاء المتهم وضحيته لمعرفة الأسباب التي قادت الطالب لقتل مُعلِّمته بسبب لعبة.
ماذا حدث؟
الأجواء كانت هادئة.. أهالي المنطقة يجهزون حالهم لتأدية صلاة الجمعة.
"ميكرفون المسجد" يطلق الشعائر الدينية. خلال ذلك حضر "سيف" إلى منزل مُعلمته، لتلقي درسه المعتاد في مادة الكيمياء، وبمجرد دخوله المسكن طالبها بإحضار كوب ماء "عايز أشرب يا ميس"، وما إن توجهت إلى المطبخ حتى تعقبها، وانقض عليها بسكين، صرخت بعدها المعلمة مرة واحدة، وانقطع صوتها.
فرَّ المتهم هاربًا، وتركها جثة هامدة وسط بركة دماء، وإلى جوارها حقيبته المدرسية وحذاؤه، فيما ظلت والدة المٌعلمة (كفيفة) التي تبلغ من العمر 95 عامًا، في حجرتها لا تشعر بأي شيء.
رويدًا رويدًا عاد سكان العقار بعدما فرغوا من أداء صلاة الجمعة، تنامى إلى مسامعهم أصوات استغاثات؛ في البداية تخيلوا أن أحد المرضى يجري عملية جراحية بالمستشفى الواقع بالطابق الثاني، ومع استمرار الصراخ، وبتتبع مصدر الصوت تبين أن والدة "ميس هانم" تتأوه بحثًا عن نجلتها التي غاب صوتها قرابة الساعة، وحينما حضر الأهالي، وجدوا باب الشقة مفتوحًا، وجثة المجني عليها ملقاة على الأرض، وبها طعنات عدة بأنحاء متفرقة من جسدها.
بعدما نفذ المتهم جريمته، هرول حافي القدمين إلى منزل جدته بمنطقة محمد نجيب التي تبعد عن منزل معلمته 2 كيلو متر، وبصوت مرتجف طلب الاختباء في المنزل "خبيني يا تيتة". الجدة ظنت أنه تعرض لمكروه، وهاتفت والدته التي أبدت اندهاشها، وأخبرتها بعدم معرفة أسباب ذلك التصرف، وطمأنتها "خليه يهدى شوية يمكن اتخانق مع حد"، وفق ما روى والد "سيف" لمصراوي.
لم يعد أمام الأهالي سوى إبلاغ قسم شرطة أول المنتزه بالواقعة، وعندما وصل رجال الأمن وجدوا جثة الضحية وإلى جوارها حقيبة مدرسية داخلها سكين كبير الحجم داخل كيس بلاستيك، وورقة دُوِّنت بها عبارات تحث على القتل، وبعض الأدوات المدرسية، وحذاء رياضي، وجاكت رجالي.
بعد فحص محتويات الحقيبة، تبين أنها خاصة بتلميذها المقيم بشارع مسجد سيدي بشر. انتقل ضباط مباحث القسم إلى منزله، وأخبرهم والده أنه متواجد في منزل جدته، فتم ضبطه، واعترف أمام النيابة المختصة أنه قتلها بعدما ولدَّت لديه لعبة "PUBG" فكرة إزهاق روح أي شخص مقرب منه.
لم يكن "طالب الإسكندرية" الضحية الأولى للألعاب الإلكترونية؛ إذ إن عام 2018 شهد عدة وقائع انتحار بسبب تلك الألعاب، يرصدها "مصراوي" خلال الإنفوجرافيك التالي.
خلال التحقيقات، قال المتهم إنه ألقى السكين الذي استخدمه في ارتكاب الحادث، بأحد الشوارع في طريق هروبه نحو جدته، ولم يتذكر مكانها نهائيًا، وقررت النيابة حبسه 4 أيام على ذمة التحقيقات.
"امرأة مصلوبة"
حياة صاحب الـ16 ربيعًا، كانت مليئة بالتفاصيل الخفية التي شكلت شخصيته، فرفاقه بالمدرسة لهم حكايات لم يتصور أحدهم أنها قد تمهد لجريمة قتل؛ فقبل شهر لاحظ طلاب مدرسة "م. ا. الثانوية" التابعة لإدارة شرق الإسكندرية التعليمية تغير سلوك زميلهم سيف الدين، ورسمه أشكالًا غريبة على مقعده.
يقول الطالب "م. س": "سيف كان بيزوغ من المدرسة، ويتفرج على أفلام جن ورعب في محل بلاي ستيشن.. كان بيرسم على الدسك امرأة مصلوبة، كما كان يكتب عبارات غريبة واسم مُدرِّسة الكيمياء"، فيما تحفظت إدارة المدرسة على المقعد الخاص، بالمتهم بعد الواقعة لإخفاء الرسومات عن أعين زملائه.
لم يتوقع صديق "سيف" أنه سينفذ ما قاله عن قتل "ميس هانم يوم عيد ميلاده"، حمل قوله على سبيل الضحك، حتى علم بالواقعة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقال إن إدارة المدرسة أخفت عن الطلاب الواقعة خوفًا عليهم من الصدمة، على حد تعبيره.
أتى إليهم مدير المدرسة، وبث داخلهم روح الطمأنينة بكلمات تشير إلى أن الواقعة حالة فردية تحقق فيها الجهات المختصة.
ووصف "ع. م" زميل المتهم، شخصية "سيف" قائلا: علاقاته محدودة، لم تنم أفعاله عن رغبة القتل نهائيًا "كان شخص عادي"، والمدرسون حاولوا إقناعه بأن يكف عن الرسم على مقعده، لكنه لم يتوقف.
"مريض.. وصوت يحدثه"
في أحد عقارات شارع سيدي بشر، يقطن "طالب الثانوية". واجهة فخمة من ١٧ طابقًا. الهدوء يسود العقار يقطعه على فترات أصوات الأسانسير، وفي الغرفة المجاورة يقيم الحارس وأسرته.
بعد فترة من التعارف والنقاش سمح لنا بالتحدث مع أشقاء الطالب عبر "الإنتركم"، إلا أن الشقيق الأكبر رفض الإدلاء بأية معلومات "خد رقم بابا كلمه واسأله على كل حاجة".
سيف الأصغر بين أشقائه الـ٥ (3 أولاد وبنتين)، قبل سنوات بدأ سلوكه يتغير، يجلس بمفرده طوال الوقت، لا يتحدث مع أحد، يقول والده "إ. م."، إن الأسرة لاحظت قيامه بأفعال غريبة، والجلوس في الغرفة بالساعات يلعب بهاتفه، حتى اقتنعوا أن لديه مشكلة نفسية لابد من حلها وعرضه على طبيب لكنه دائمًا ما كان يرفض، لذلك تعاملت معه الأسرة كـ"مريض نفسي".
"ابني عنده تاريخ طويل مع المرض، واحنا هنجهز تقرير وهنقدمه للنيابة"؛ يقول والد المتهم، ويكمل متنهدًا: "تفاقمت مشكلة عندما تخيل أن هناك شخصا يتحدث إليه دون توقف، وكان يرد عليه بلا توقف ما تسبب في عجزه عن النوم لفترة طويلة، حتى أنه لجأ لوضع بلاستر على فمه ليسيطر على الأمر".
الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي فسر لـ"مصراوي" كيف تسببت نشأة الطفل وممارسته للألعاب الإلكترونية في إقدامه على قتل ضحيته، شاهد الفيديو التالي:
الضحية.. "آية في مصحف"
في منطقة فيكتوريا، كان الحزن باديا على طالبات ومعلمين مدرسة "ميس هانم". "كانت آية في مصحف"، قالتها ولية أمر طالبة، قبل أن تقاطعها سكرتيرة المديرة: "كانت رافضة لفكرة الدروس الخصوصية، لكنها عملت كدة عشان تساعد الطلاب"، ودخلت إحدى المدرسات في الحديث "لازم الطالب يتعدم، ومحدش يقول مريض نفسي".
"ميس هانم" البالغة من العمر 59 عامًا، غادرت الصعيد بعد انفصالها عن زوجها قبل 15 عامًا، وانتقلت للعيش في الإسكندرية رفقة والدتها المسنة، تتردد عليهما من حين لآخر ابنتها التي تدرس في جامعة القاهرة وتقيم بالقرب من جامعتها؛ كانت تعمل في إحدى مدارس إدارة غرب الإسكندرية، قبل أن تنتقل للعمل في مدرسة "أ.ع"..
لم تود ابنة المجني عليها التطرق إلى الحديث حول الواقعة، واكتفت بالرد عن رغبتها في توكيل محام لمتابعة سير القضية للتمكن من استرداد حق والدتها.
سيناريوهات المحاكمة
مازالت قضية "سيف" قيد التحقيق بالنيابة التي أمرت بعرضه على لجنة متخصصة من الطب الشرعي للوقوف على حالته النفسية، لتحديد مدى مسؤوليته الجنائية.
يقول وائل عباس محامي المتهم، إن موكله مريض نفسيا ارتكب جريمة، ولم يكن شخصًا عاديًا ارتكب جريمة وادعى الجنون، بدليل أن المجني عليها لم تؤذه أبدًا، وليس هناك أي مبرر لقتلها كالسرقة مثلا، واعتراف "سيف" أن اللعبة هي سبب الواقعة، لأنها دفعته للعنف.
ورأى "عباس" أن موكله: "عايش في عالم مع نفسه من الكارتون والألعاب، ولما بتتمنع عنه ممكن ما ياكلش ولا يشرب"، مشيرا إلى أنه إذا صح مرضه النفسي سيودع بمستشفى الأمراض النفسية والعقلية.
لكن إذا ثبت الإدراك الكامل للمتهم، سيواجه مصيرًا آخر أمام محكمة الطفل. يقول المستشار عبد الستار إمام، رئيس محكمة جنايات القاهرة السابق: مادام الجاني لم يتخط 18 عاما وقت حدوث الجريمة، وفق ما هو مدون بشهادة ميلاده، يعامل معاملة الطفل، وتنظر محاكمته أمام محكمة أحداث (الطفل)، والعقوبات لا تتخطى السجن 10 سنوات، موضحًا أن الأحكام سلطة تقديرية للمحكمة، وفق ما تراه من أدلة أمامها.
وأوضح "إمام" في تصريحات لـ"مصراوي": في حالة "سيف" إذا أدين بتهمة القتل، وكانت عقوبة الجريمة إذا ارتكبها بالغ الإعدام يُحكم عليه بالسجن لمدة لا تقل عن 10 سنوات، وإذا أدين بذات التهمة وكانت عقوبة الجريمة الأشغال الشاقة المؤبدة يحكم عليه بالسجن لمدة لا تقل عن سبع سنوات، مستندًا إلى نص المادة 112 من قانون الأحداث رقم 12 لسنة 1996.
وتنص المادة على أنه "لا يحكم بالإعدام ولا بالأشغال المؤبدة أو المؤقتة على المتهم الذي زاد سنه على ست عشرة سنة ميلادية، ولم يبلغ الثامنة عشر سنة ميلادية كاملة وقت ارتكاب الجريمة. وفى هذه الحالة إذا ارتكب المتهم جريمة عقوبتها الإعدام يحكم عليه بالسجن لمدة لا تقل عن عشر سنوات".
و"إذا كانت الجريمة عقوبتها الأشغال الشاقة المؤبدة يحكم عليه بالسجن الذي لا تقل مدته عن سبع سنوات، وإذا كانت الجريمة عقوبتها الأشغال الشاقة المؤقتة يحكم عليه بالسجن".
وقال رئيس محكمة الجنايات السابق: إذا سُجن المتهم سيظل مودعا بالأحداث حتى وصول عمره 18 سنة، ومن ثم يكمل باقي عقوبته داخل سجن عمومي.
فيديو قد يعجبك: