"مشهور ابن موت".. حفل عيد الأم على شرف شهيد مأمورية الواحات (حوار)
كتب - محمد شعبان:
لم ينسوه بعد ولن تتلاشى ابتسامته التي زينت حائط المدخل بالعقار "61" من منطقة البارون في التجمع الخامس. الصورة تأخذ زائرها إلى مشاهد أخرى لذلك العشريني، عُلقت على قلوب جيرانه وفي أرجاء مسكن العائلة.
هنا بدا صغيرًا يلهو، وهناك شابًا مرتديًا بدلته ورابطة عنق ذهبية، وهنالك ببدلته الرسمية وثبت نظراته ثقة وفرحة، وفي الوسط من كل هذا جلست هي في منتصف الصالة تتنقل بعينيها بين صورتين لـ"إسلام" المشهور بـ"ابن موت"، الذي بدل عيد أمه حفلاً على شرف ذكراه.
قبل عام ونصف العام، ذاع شريط الأخبار النبأ الأصعب في تاريخ عائلة مشهور "أعلنت الأجهزة الأمنية استشهاد النقيب إسلام مشهور في تبادل إطلاق نار مع عناصر إرهابية بصحراء الواحات" وسط تفاخر الأب ببطولة نجله "ده ابن موت من يومه.. خد الرصاصة في صدره".
حكاية شقيقين مع اختبارات الحربية والشرطة
"هقدم في الكلية الحربية" بهذه الكلمات أخبر "إسلام" والده الذي عمل في التدريس قرابة 20 عامًا داخل أروقة الكلية، إلا أنه لم يوفق في الاختبارات، ذلك المشهد الذي عاشته الأسرة للمرة الثانية، إذ لم يجتز شقيقه الأكبر "أحمد" اختبارات أكبر الهيئات التعليمية العسكرية في "المحروسة" قبل أن يلتحق بكلية الشرطة.
لم يتردد "إسلام" في السير على درب أخيه الذي طالما يراه مثله الأعلى، فكان التوفيق حليف الأخ الأصغر تلك المرة، وأضحى طالبًا بالفرقة الأولى بكلية الشرطة محققا تفوقا ملموسا في الدراسة حتى تخرجه في عام 2012، وتم ترشيحه للعمل في الأمن العام وتوزيعه على مديرية أمن القاهرة.
تقول سوزان مشهور والدة النقيب إسلام إنه عمل في قسم الزاوية الحمراء لمدة عامين، نال خلالها إشادة رؤساءه الذين شهدوا له بسرعة البديهة والحزم، لكنه كان يضع نصب عينه مزاملة شقيقه الذي يعمل في معسكر الدراسة للعمليات الخاصة، فكان له ما أراد في مايو 2014، وتم إلحاقه بقطاع سلامة عبد الرؤوف أحد أهم معسكرات المجموعات القتالية بقطاع الأمن المركزي واصفة حالته آنذاك: "كان طاير من الفرحة.. ربنا اختاره في المكان ده".
كمبيوتر العمليات الخاصة الجديد
تتذكر الأم الأيام الأولى لفلذة كبدها في مقر عمله الجديد، لم تفارق الابتسامة وجنيته، إصرار وعزيمة على بذل الجهد لاستكمال مسيرة العائلة ذات الخلفية العسكرية، بريق لمعان في مقلتيه لدى إبلاغه بمأموريته الأولى بمحافظة بني سويف رغم مرور فترة قصيرة على نقله: "قولت له بالسرعة دي يا ابني؟" لترفع أكف الضراعة إلى السماء طالبة التوفيق والسداد له: "لما رجع كانت الفرحة مش سيعاه".
لم يكتف "إسلام" بتفوقه القتالي، وحرص على إثبات ذاته في الأعمال المكتبية جنبا إلى المأموريات التي تسند له، فكان صاحب فكرة عمل مكتبة تضم ملفات القطاع كافة، وبات المسؤول عن تنظيم المأموريات وسط إشادة زملاءه لتؤكد والدته: "ماحدش كان متوقع إنه يعمل كل ده بسرعة.. كانوا بيقولوا عليه كمبيوتر القطاع".
رغبة جامحة كانت تسيطر على الضابط الشاب في الانضمام لأي مهمة قتالية تُسند للقطاع "كان بيستنى أي حد يعتذر.. بقى رقم 1 عند القائد" تحكي الأم، أن قائد القطاع كان يعتمد على نجلها في أمور عدة: "كان يسأل فين مشهور، لو نايم صحوه أو ييجي من البيت حالا" لاسيما أنه كان لا يهاب الموت فطالما تمنى الشهادة مرتديا بدلته العسكرية "أنا خريج مدرعة" بالإضافة إلى أنه لا يروي تفاصيل عمله لأسرته: "كتوم في حياته مش بيحكي كل حاجة".
الأسبوع الأخير
مطلع أكتوبر من عام 2017، لاحظت الأم، تبدل أحوال نجلها العشريني تزامنا مع زيادة العمليات الإرهابية التي تستهدف رجال الجيش والشرطة لكنه كان يطمئن والدته باستمرار "كان يقولي ماتخافيش يارب أموت شهيد هو حد يطولها".
اعتاد "مشهور" المبيت في القطاع يومي الأحد والأربعاء أسبوعيا، والعودة ظهر اليوم التالي، تتذكر سوزان يوم الإثنين 16 أكتوبر لدى عودته من العمل "كان قرفان وتعبان.. أول مرة يقولي زهقت"، وأخبرها أنه كان في مأمورية تمشيطية بالصحراء -دون تحديد المكان- فحاولت التخفيف عنه "طول بالك ده أكل عيشك".
بعدها أعدت له الأم، وجبته المفضلة وتناولها أمام التلفاز يشاهد فعاليات مؤتمر الشباب الأول حيث علق آنذاك "أهو طالع مأمورية 10 أيام" فداعبته والدته "حد يطول يروح شرم الشيخ"، ليرد عليها "مش هستمتع بحاجة.. يا نوم يا خدمة".
لم يتغير الحال في اليوم التالي، علامات الإرهاق بدت جلية، حالة الزهق مستمرة، فشكت الأم لابنتها الكبرى ريهام، تغير سلوكيات "آخر العنقود" فطالبتها الأخيرة بالصبر "سبيه لما يعوز يتكلم هيتكلم". تتذكر الأم، ما كانت عليه تلك الأيام ضيق وانقباض في الصدر لم تفارقاها حتى أنها لم تهتم بالأعمال المنزلية "كنت متعصبة وشايلة الستائر وإسلام طلب أركب (البلاك أوت) علشان يعرف أنام".
صباح الأربعاء 18 أكتوبر، استيقظ الأب محمد مشهور مبكرًا جلس على مقعده في الصالة يحتسي كوبًا من الشاي، تبعه نجله "إسلام" في طريقه للقطاع، إلا أن خطواته نحو أباب الشقة كانت متثاقلة حتى أنه عاد مرة أخرى محدثًا والده "عاوزك تشتري معايا بدلة أحضر فرح حد صاحبي الأسبوع الجاي" فأكد له الأب أنه سيكون في انتظاره في اليوم التالي.
تكرر المشهد تارة أخرى، عاد الابن ليجدد طلبه من والده "هاتها إنت عارف مقاسي.. بس تكون سودا"، غادر بعدها المنزل الذي عاش بين جدرانه 27 ربيعًا مع والديه وأشقائه الثلاثة، دون أن يدري بأنها لحظات الوداع.
ظهر الخميس، انتظرت الأم، قدوم صاحب الابتسامة الدائمة كعادته، جلست تبحث عن إعداد وجبته المفضلة، لكنه لم يحضر. السابعة مساء عاد الأب من الإسكندرية للمنزل وطالبته الأم بالاتصال للاطمئنان عليه فقال "أنا في مأمورية خارج القاهرة.. وهاجي بكرة"، فطالبه والده بالاعتناء بنفسه وطمأنته ووالدته.
لم تنس الأم تلك الليلة، ابنتها باتت في المنزل مع رضيعها ابن الأربعة أشهر، لم تذق طعم النوم، قضت ساعات الليل على الكرسي المواجه للتلفاز حتى آذان الفجر، توضأت وصلت داعية الله أن يحفظ زوجها وأبنائها "هما حياتي.. ماليش إخوات ووالدي ووالدتي ماتوا"، لافتة إلى أنه مع شروق الشمس استيقظ الجميع، طالبتها ابنتها بأخذ قسط من الراحة بينما أخبرها الزوج بأنه سيستعد للذهاب للمسجد مبكرا ثم يتجه إلى مكتبه قبيل قيادته تمرين رياضي في أحد الأندية.
الثانية والنصف ظهر الجمعة 20 أكتوبر، فوجئت السيدة سوزان مشهور بسيل من المكالمات دون فاصل زمني ردد جميع المتحدثين سؤالا واحدا "إنتم كويسين؟"، بدءا من زوجة عمها وآخرها صديقة اعتادت مهاتفتها ليلا مما آثار دهشتها فسألتها : "هو إسلام حصله حاجة؟" لتستفسر منها الصديقة عما إذا كانت بمفردها بالمنزل فمنحت الهاتف لابنتها التي تلقت الخبر المفجع تزامنا مع صوت طرق الباب، حضر الجيران من كل حدب وصوب في حالة من البكاء: "البقاء لله.. إسلام استشهد".
أم البطل الشهيد
سقطت الأم مغشيا عليها، نقلوها إلى مستشفى قريب، وعادت لتمكث في غرفة نجلها، جلست على سريره "شوفت صورته على الحيطة قدامي زي البدر وبيضحك"، لتدخل في نوبة بكاء تسببت في تدهور حالتها الصحية فتم استدعاء الطبيب بالمنزل.
لم تختلف حالة الأم عن الأب المكلوم الذي تلقى اتصالا من والد خطيبة ابنه باكيا "فين ابني يا مشهور.. إسلام استشهد يا مشهور" ليخر الرجل العجوز على الأرض، فنقله زملاؤه إلى الشقة في حالة يرثى لها حتى جاءهم الخبر اليقين باستشهاد النقيب إسلام مشهور داخل مدرعته "كان دايما يقول أنا خريج مدرعة.. مات فيها"، تقول الأم.
صباح اليوم التالي "السبت" توجهت الأسرة لمستشفى الشرطة بمصر الجديدة لإلقاء نظرة الوداع على الشهيد وكانت الأم آخر مودعيه "قبلته مرتين وابتسم لي" حتى أن الحضور أخبروها بأنه لم يبتسم لأحد سواها، حتى وارى جسده الثرى.
بالعودة إلى المنزل، تنظر والدة الشهيد إلى السفرة "أحلى حاجة لما بشوفهم حوليا.. كان يقعد جنبي ويتكسف يجيب حاجة بعيدة أنا أجيبها له"، لافتة إلى أنها كانت تتفنن في إعداد الوجبات التي يفضلها نجلها، تتذكر دخوله عليها المطبخ عائدا من العمل حيث يدور بينهما حوارًا عنوانه التفاؤل وقوامه الضحك الذي حل الحزن مكانه "من يوم موته مش عارفة أطبخ حاجة.. نسيت الأكل والطبخ".
ومع الاحتفال بعيد الأم، لن تتلق السيدة سوزان مشهور أي معايدة من نجلها "كان لازم يكلمني في التليفون ويقولي كل سنة وأنتي طيبة يا ست الكل.. اتحرمت منها" لافتة إلى أنه أصر أن تصطحبني "ريهام" لشراء هدية، لا تزال كلماته يتردد صداها في أذنها "إنتي الوحيدة اللي تحبيني أكتر من أي حد" مؤكدة أن أمنيتها الوحيدة رؤية نجلها لمرة واحدة "مش بيجيلي في الحلم بس بيبعت لي رسايل مع ناس قريبة مني".
تمنت والدة البطل لو عاد بها الزمن وأسرعت في إتمام زواج "إسلام" ويكون لها أحفاد منها لتتذكر تكريم أسر الشهداء في مدرسة قريبة من محل سكنها حضرته وزوجها الذي غالبته الدموع "قالي كان نفسي إسلام يكون له طفل يعوضنا".
وكرَّم الرئيس عبد الفتاح السيسي والدة الشهيد خلال ندوة تثقيفية في مارس الماضي "حسيت فيه الإنسان والقلب الطيب.. شكرته على إنه جاب حق ابني وزمايله من القتلة"، موضحة أنها شعرت بحالة ارتياح بعدها، داعية الله أن يجمعها بفلذة كبدها في جنات النعيم.
فيديو قد يعجبك: