يوميات فقراء "أبو كبير" مع خطة "الإصلاح الاقتصادي"
كتبت - حسناء محمد:
سوق مركز أبو كبير، نقطة تجمع لأهالي المنطقة التي تصنفها التقديرات الرسمية كأحد أفقر البقاع في محافظة الشرقية، يروي العديد من المترددين عليه من الباعة والزبائن كيف تغيرت حياتهم بشكل درامي منذ الأشهر الأخيرة في العام الماضي، وفي خلفية تلك الروايات قرارات اقتصادية صعبة اتخذتها الحكومة للسيطرة على أزمة مالية متفاقمة، مصراوي عاش يوما في سوق أبو كبير واستمع لحكايات رواده.
مع شروق الشمس تتجه سحر إلى سوق أبو كبير، تقودها قدماها بروتينية إلى مكانها المعتاد، تضع "فرشتها" على الأرض وتجلس فوقها، تبدأ في رصّ الفاكهة بتنسيق علّها تلفت أنظار المُشترين.
"أنا كنت تاجرة جملة ليّا إسمي في سوق أبو شيرا" تقول سحر وهي تحكي كيف تدهورت معيشتها بعد أن تراكمت عليها الديون في نوفمبر الماضي؛ مما اضطرها لترك تجارتها التي كانت تؤمن لها دخلًا ثابتًا، وتتجه إلى افتراش أرض السوق ببعض كيلوجرامات من الفاكهة تؤمن بهم قوت يومها.
تروي سحر أنها وقعت في شرك الديون بعد أن انخفضت مبيعاتها من الفاكهة، ويتزامن تدهور حال التاجرة الشابة مع ارتفاع مضطرد في معدلات التضخم منذ الربع الأخير من 2016 بسبب تطبيق الحكومة لحزمة من الإجراءات الاقتصادية لكبح عجز الموازنة والدين العام المتفاقمين.
وشملت الإجراءات الإصلاحية قرارات أثرت بشكل مباشر على القدرة الاستهلاكية للمواطنين مثل تطبيق ضريبة القيمة المضافة ورفع أسعار الوقود، وجاء الأثر الأكبر من رفع البنك المركزي يده تماما عن حماية العملة المحلية مما أفقدها أكثر من نصف قيمتها أمام الدولار وتسبب في تآكل قوي للقدرة الشرائية.
وساهمت الضغوط التضخمية الناتجة عن "الإصلاح الاقتصادي" في رفع تكاليف الإنتاج، لكن البعض وجه اتهامات للتجار بأنهم يفتعلون أزمات لزيادة الأسعار، ووصف النائب مصطفى الجندي، عضو مجلس النواب عن ائتلاف دعم مصر، التجار بأنهم "كفرة" لهذا السبب.
مع انحسار آخر خطوط النهار، تأتي عزة لاستلام الفرشة من سحر والجلوس مكانها في الفترة المسائية بالسوق.
عزة عائدة لتوّها من عملها في إحدى الشركات الهندسية الصغيرة بالقاهرة التي تعمل فيها نهارا وتأتي مساء للسوق، ليصل إجمالي عدد ساعات عملها يوميا لـ 19 ساعة.
استفادت عزة من أحد الإجراءات التعويضية التي طبقتها الحكومة بالتزامن مع بدء إجراءات الإصلاح الاقتصادي في 2014 والتي تتعلق بالتوسع في توزيع المعاشات للفقراء.
تقع عزة تحت بند الفقيرات اللاتي يعانين من هجر الزوج، والواقع أن الزوج هجرها مُجبرا بعد أن تراكمت عليه الديون واضطر للهرب خوفا من السجن، فوجدت السيدة الشابة نفسها مسئولة وحدها عن ابنيها وهما لا يزالان في مرحلة الدراسة.
قيمة المعاش الذي توفره الحكومة لعزة لا يغطي بندا واحد في نفقات أسرتها وهو إيجار المنزل، فالمعاش 320 جنيها والإيجار 550 جنيها، وتصف عزة أموال المعاش بقولها "همّا ولا حاجة.. بس الرضا بالمقسوم عبادة.. الحمد لله".
ربما كانت عزة - على صعوبة أحوالها - أكثر حظًا من إنعام، التي تجلس على بُعد أمتار منها بالسوق، لكنها لم تفلح في الحصول على معاش مثلها.
تردد إنعام ذات الخمسين عامًا وسط باعة السوق: "أولادي راحوا مني.. عزوتي راحت".
كانت في الخامسة عشر من عمرها عندما اضطرت لترك مدرستها ومرافقة أمها يوميًا للبيع بالسوق. وفرضت الظروف المعيشية على أبناءها الخمسة نفس المسار، فالأسرة لم تقدر على أن توفر تعليما لأي من أبناءها يتجاوز المرحلة الإعدادية.
ووفقًا لتقارير الإدارة التعليمية بالزقازيق، ينتقل 2% فقط من البنين في أبو كبير إلى المرحلة الثانوية. أما بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فتخبرنا أن محافظة الشرقية احتلت المرتبة الثالثة بين أكثر محافظات الوجه البحري أُميّة، بنسبة بلغت 20.5%.
وقد يكون انتشار الفقر في الشرقية سببا رئيسيا في إعاقة أبناءها عن التعلم، فنسبة السكان الفقراء في هذه المحافظة وصلت إلى 21%، وتعتبر أبو كبیر من البقاع الأكثر فقرًا في المحافظة.
كانت إنعام تُسير حياة أسرتها بالكاد وسط الضغوط المعيشية، قبل أن تتفاجىء بموجة ارتفاع في الأسعار في ديسمبر الماضي تسببت في ركود بضائعهم.
خسر الابن الأكبر 50% من أرباح عربة الطعام التي يملكها، بعد أن اتجه الكثيرون لتقليل نفقاتهم على الأكل خارج المنزل، مما اضطره للجوء إلى الهجرة غير الشرعية.
وابن آخر لإنعام فقد قدمه إثر عراك عنيف داخل سوق أبو شیرا مع أحد تجار الجملة بسبب الديون التي تراكمت عليه.
وفي مغامرة طائشة من الابن الأصغر لسداد ديون أخيه، راهن على منزل عائلته في لعبة "قمار"، وخسر الرهان فاضطر للهروب للإسكندرية.
وبعد أن فقدت إنعام منزلها بسبب رهان الابن، اضطرت للانتقال إلى منزل أخيها "سيد" والمكون من غرفتين فقط.
يلاحظ زبائن محل "سيد" البسيط تغير حالته المزاجية، وانقلابها من المزاح إلى العبوس الدائم، كان السبب بالطبع تزايد المسئوليات عليه، ولم يفلح معاش "كرامة" الذي نجح في إقناع الحكومة بأنه من مستحقيه، في إزالة عبوس وجهه، لأن نفقات أسرته تتجاوز بكثير قيمة هذا المعاش.
بعينين تحيط بهما تجاعيد شاهدة على أعوامه الـ 76، يجلس الحاج حامد يراقب أوضاع السوق، فالجميع هنا يعتبرونه "الزعيم"، لانتمائه إلى قبيلة "هذيل"، التي ارتحل معظمها إلى منطقة أبو كبير في عهد الفاطميين، وسُميت المدينة باسم أحد شعرائها "أبو كبیر" تفاخرًا بلسانه.
ويحكي الحاج لـ "مصراوي" عن التقلبات الاقتصادية خلال العقد الماضي وكيف كان لها تأثير كبير على مجتمعه الصغير في تلك المدينة.
"زمان كانت الحیاة فيها أمان مكناش بنخاف نروّح من غیر لقمة عیش لعیالنا، لأ ده احنا كنا بنتاجر ونكسب ونروّح بفراخ مشویة وكباب".
تعاقبت العقود على البائع المسن وهو يراقب من خلف فاترينة محله لبيع الحلوى التقليدية كيف كانت القرارات الاقتصادية، التي تُتخذ في العاصمة البعيدة عن مدينته بمئات الأميال، تبدل أحوال أقرانه من الباعة البسطاء في السوق.
مع ضعف الاستثمارات العامة في المحافظات كانت فرص العمل المتاحة لأبناء المدينة تتضائل، مما اضطر معه الكثيرون للتنقل يوميا إلى القاهرة بحثا عن الرزق، ومع سفرهم اليومي للعاصمة لا يجد الباعة في السوق المشترين الذين كانوا يعتادون على حضورهم، كما يروى الحاج معلقا "الناس بقت تشتري المجمد من الماركت وسابوا سوق أبوكبير بينش".
"الموضوع مش فلوس بس.. لو مش لاقي تأكل عیالك طبعك هیتغیر. في الفترة الأخيرة نص الستات بتشتكي من رجالتها، الطباع بتتغير. دلوقتي جیلكم ما یعلم بیه إلا ربنا"، يقول "حامد" مختتما حديثه بنبرة من السخط على أحوال المعيشة، ثم يلقي نظرة طويلة على السوق الذي يعرف كل حكاياته المتخفية تحت صخب نداءات البيع ومفاوضات الشراء.
فيديو قد يعجبك: