قصة أول طبيب قال "لا" لجهاز "الكفتة" (حوار)
كتبت ـ شيماء الليثي :
تصوير- علياء عزت:
حين تخرج في كلية الطب منذ أكثر من عشرين عاما، لم تكن السنوات السبع مدة الدراسة بكافيته، لم يشأ أن يسلك المسلك التقليدي الذي انتهجه الأغل ، كان بيده أن يصير طبيبا عاديا يعمل بأحد المستشفيات صباحا و بعيادته مساءا ، لكنه أبى إلا أن يكون العلم هو طريقه ، بعد إيمانه بأن تلك السنوات السبع لاتؤهل المرء في بلادنا بأن يكون طبييا ناجحا ، فاضطر إلى سلك الطريق الأصعب، الذي جعله دوما مغامرا معافرا، وافقا في أغلب الأوقات في وجه المدفع .
إنه الطبيب محمد فتوح ، الرجل الذي قاده بحثه عن العلم للوقوف في وجه جهاز عرفته مصر في العام الماضي وداعمته المؤسسة العسكرية، ذاك الجهاز الذي أعلن عنه اللواء إبراهيم عبد العاطي و المعروف باسم جهاز القوات المسلحة لعلاج فيروس سي والإيدز .
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقرر فيها فتوح أن يكون له موقفا فيها، إذ أن الاعتراض دائما ماكان وسيلته في كل مالايراه منطقيا بالنسبة له ، فقد اعترض فتوح يوم أن كان طبيب تكليف بوزارة الصحة ، على أن يكون مسؤلا عن أرواح 15 ألف نسمة بأحدى قرى كفر الشيخ ، مما دفعه إلى غلق وحدته و إصراره على عدم العمل حفاظا على حياة مرضى لا يمكن لطبيب حديث التخرج بأن يكون قادرا على تشخيصهم وعلاجهم ''مشيت لإني شوفت ان العيانين لازم يروحوا عند حد بيفهم آمن عليهم من إني أشخصهم أو أعالجهم غلط أو يموتوا بسببي '' قالها فتوح بكل حزم ، كأنما الزمن لو عاد به لما تغير شيئا ولفعل مثلما فعل مرة أخرى .
حتى عندما تسلم نيابته لم يختلف الأمر كثيرا، بعد أن جاءته فرصة التعيين و استلام نيابته الطبية بأحد مستشفيات التأمين الصحي ، وهي الفرصة التي لايجدها الكثيرون ، إلا أنه لأسباب قال عنها أنها تتعلق برؤيته لتجاوزات في حق المرضى مما يسميه هو ''الحال المايل'' ، قرر أن يثور بالمستشفى و يرفض العمل به و يقرر النقل فورا إلى العمل بأحد مستشفيات وزارة الصحة ، والتي استقال منها فيما بعد حينما قرر السفر للدراسة والعمل بالخارج .
''غربتي واضطراري للعمل والدراسة بالخارج و بُعدي عن أهلى كانوا من أكتر الأسباب اللى كرهتني في مبارك وفي النظام وقتها '' من هنا كانت بداية خوض فتوح لثورة أخرى ، في حياة بدت و كأنها ليست إلا مجموعة متنوعة من الثورات، غير أنها متعددة المراحل، إذ يروي الطبيب الأربعيني هذه الفترة الشاقة من حياته حين سافر للمملكة العربية السعودية للعمل هناك لمدة سنوات أربع ، تبعتهم خمسة آخرون بالمملكة المتحدة بريطانيا للدراسة حتى يصبح زميلا لكلية الجراحين الملكية ، ثم بالعودة مرة أخرى إلى المملكة السعودية بعام 2010 وقد وصل إلى درجة استشاري .
''السفر خلاني أشوف أطباء تاني كانوا في نفس عمري من جنسيات مختلفة لكنهم في حال أفضل مني في كل شئ ، أما أنا فلأني مصري كنت مضطر أكون متغرب و أعيش معاناة كبيرة لكسب لقمة العيش و التعليم الجيد '' كلمات قالها فتوح أعادت بداخله ذاك الجرح القديم الذي لم يضمد بعد ، إلا أن معاناته جعلته دوما شغوفا بحلم الثورة و التغيير، إلى أن بدأت بالفعل بودارها ، فكان هو أول من يقدم لها القرابين ، حين قرر أن يتخلى عن عمله بأحد المستشفيات الكبيرة بالخارج من أجل المشاركة في ثورة 25 يناير ، و أسرع بالعودة إلى مصر ليكون من أول الوافدين لساحة الميدان باليوم المشهود .
ففي ظهيرة ذاك اليوم توجه فتوح إلى الميدان مثلما توجه الكثيرون، حاملا حقيبته التي تحوي عدد من أدوية الإسعافات الأولية التي ربما يحتاج إليها لمداوة المصابين، فلا أحد كان على علم بماقد يحدث بذلك اليوم، إلا أنه بعد اشتغال المعركة يومها بالفعل بدأ لأول مرة في اسعاف الثائرين، وهي التجربة التي بدت جديدة عليه في البداية، إلا أنه دون أن يدرك يومها أصبح واحدا من الأطباء المؤسسين لما سُمي فيما بعد بـ ''المستشفى الميداني'' دون عمد منه ، يتذكر فتوح ذاك اليوم جيدا ، يرويه وعينيه لامعتان من هول من رأى ، ذاك اليوم الذي جعل منه بعد ذلك مشاركا تلقائيا في مجالات مجتمعية لأول مرة، بعد أن أصبح واحدا من مؤسسي رابطة '' أطباء التحرير'' و رئيس مجلس إدراتها ، تلك الجمعية التي لم تكن سوى معركة أخرى من معاركه، حيث عملت على توثيق أعداد مصابي وشهداء الثورة و التقارير الطبية لحالاتهم والتي كانت موازية لتقارير الطب الشرعي و هو ماجعل جمعيته تخوض العديد من المواجهات أنذاك .
إصراره على مواجه الظلم و الجهل و التجهيل الواقع على الشعب المصري ، خاصة في مجال الصحة ، جعله معتادا على خوض العديد من الحروب طوال الوقت ، حتى أصبح له بعد ذلك دورا نقابيا بعد انتخابه كأحد أعضاء مجلس نقابة القاهرة ، وهو المنصب المجتمعي الذي لايزال يشغله حتى الآن و يشارك عن طريقه في خدمة المجتمع بطريقته الخاصة .
وعلى طريقة فتوح فإن جهاز القوات المسلحة لعلاج فيروس سي والإيدز الذي تم الإعلان عنه بالعام الماضي لم يكن منطقيا منذ على الاطلاق، ابتداءا من جهاز الكشف عن الأمراض الفيروسية الذي لم ير فتوح أن له نظرية علمية راسخة، وفي شرحه لرؤيته يقول أنه جهاز تم الادعاء بأنه يقوم بالإشارة عن بُعد إلى المرضى المصابين بالفيروس عن طريق البصمة الجينية للتردد الموجى للموجات الكهرومغناطيسية الناجمة عن تحرك الجزيئات داخل الحمض النووى للفيروس، وهى نظرية غير قابلة للتطبيق علمياً حيث إن حجم الفيروس ضئيل جدا ولا يسمح بتوليد أي طاقة تسمح بتحريك مؤشر ذلك الجهاز ـ بحسب قوله .
وفيما يتعلق بإمكانه تحديد نوع وكمية الفيروس المصاب به الشخص وبأن الجهاز لديه حساسية وخصوصية لتحديد الفيروسات بنسبة 100% ، فيقول الطبيب الأربعيني أنها نسبة لم يصل إليها أى جهاز أو اكتشاف علمى منذ بدء تدوين تاريخ الطب والعلوم، كما أن أحدث أجهزة الكشف عن الفيروسات فى العالم لا تستطيع القيام بذلك إلا من خلال عينات من الدم أو الأعضاء المصابة وبنسبة حساسية وخصوصية لا تزيد على 85% فى أفضل الأحوال.
جهاز العلاج أيضا بالنسبة له لم يكن بالأمر المقبول، حيث تعتمد فكرة الجهازـ كما أعلن عنه الفريق المشرف عليه ـ على تمرير دم المريض داخل الجهاز فيما يشبه جهاز الغسيل الكلوى وتعريض الدم داخل الجهاز إلى موجات كهرومغناطيسية ذات تردد معين بهدف تدمير الجدار الخارجى للفيروسات وإطلاق الأحماض الأمينية بداخل الفيروس ليستفيد منها المريض ، و هو ماقال عنه فتوح أنه تجاهل عدة حقائق علمية مثبتة أهمها أن الفيروسات لا توجد فى الدم فقط بل توجد فى أعضاء أخرى بالجسم حسب نوع الفيروس وحسب طريقة عمله ، مما ينزع عن الجهاز إمكانية الشفاء نظراً لعدم القدرة على تمرير الأعضاء المصابة داخل الجهاز .
كما أن الإعلان عن الجهاز شابه الكثير من المغالطات الطبية والعلمية ـ وقفا لرواية فتوح ـ منها الادعاء بأنه تم نشر أبحاث متعلقة به فى عدد من النشرات والدوريات العلمية وهو ما لم يكن واقعيا ، وتم الإعلان كذلك عن تجربة الجهاز على البشر منذ أكثر من عام ونصف العام قبل الإعلان عن الجهاز، فى مخالفة صريحة لقواعد البحث العلمى المتعارف عليها والمنصوص عليها فى المادة 60 من الدستور المصرى وكذلك قبل استيفاء الخطوات المطلوبة كالنشر فى الدوريات العلمية والبحث داخل المعامل ثم التجارب على الحيوانات وتسجيل النتائج قبل بدء التجارب الإكلينيكية على البشر .
كل ذلك كان دافعا قويا لفتوح بأن يقول ''لا'' في وجه كثيرين ممن قالوا ''نعم'' للجهاز وقتها، فهكذا هو طريقه الذي اعتاد على سلكه في كل مرة مهما كلفه من خسائر، فطبيعته المبادرة جعلت منه على غفلة من أمره صاحب أول شكوى ضد أحد المروجين للجهاز فيورس سي والإيدز، بلجنة آداب المهنة بالنقابة العامة للأطباء، وهي اللجنة تتيح الفرصة لأي مواطن بأن يقدم شكوى ضد أي طبيب يرى أنه ارتكب مخالفة ، وتقوم اللجنة بفحص شكواه والتأكد من صحتها ثم اصدار حكمها لاحقا .
لذلك تقدم فتوح بشكواه ضد الدكتور أحمد مؤنس الذي تبني الحديث عن الجهاز في عدة لقاءات تلفزيونية سابقة ، ''كنت عايز أقدم الشكوى ضد اللواء إبراهيم عبد العاطي لكن اتضح أنه ليس طبيبا و غير مسجل بكشوف النقابة '' قالها الطبيب عضو مجلس نقابة القاهرة معلالا أسباب تقدمه بها، مؤكدا أنه قرر أن يبادر بها حتى يحذو الأطباء الرافضين للجهاز حذوه ، وذلك لمحاولة محاسبة المسؤول عنه، إلا أنه بات الوحيد الذي تقدم بها ، مما جعله في مقدمة المواجهة حين قرر ''مؤنس'' أن يقدم ضده دعوى قضائية باعتبار أن شكواه بمثابة سبّ وقذف و تؤثر على سمعته ، وهي القضية التي تم تغريم فتوح فيها 20 ألف جنيها، ولاتزال قائمة ينظر بها القضاء، إلا أن فتوح لايزال يصرّ على استكماله للمواجهات ، والتصدي لكل مالايراه منطقيا ، فبلهحة تحمسية أكد الطبيب ''الصحة مالهاش غير باب واحد هو العلم و اللى عايز يتكلم معانا يتكلم بالعلم والمنطق بس أو يسكت '' .
نقابة الأطباء بدروها قامت مؤخرا بإحالة 9 من أعضائها للجنة التأديب بالنقابة للتحقيق معهم، بينهم 4 من أساتذة الجامعة، و 5 من أعضاء الفريق البحثي لجهاز فيروس سي والإيدز ، وذلك بناء على المذكرة التي تقدمت بها اللجنة التي شكلتها النقابة العامة للأطباء، بعد أن ورودت عدة شكاوى أخرى تطالب بالتحقيق مع المروجين لهذا الجهاز بتهمة الإضرار بصحة المرضى، والإساءة لسمعة الطب المصري، خاصة بعد مرور المدة المحددة التي وعدت بها لجنة الجهاز دون الإعلان الرسمي عنه .
كما طالبت النقابة في بيان سابق لها ، كل من قام بمحاولات الدعاية أو الترويج للجهاز بتقديم اعتذار واضح للشعب المصري ، لادعائهم أن الجهاز قادر على علاج مرضى فيورس سي ، وهو أثر على صحة بعض المرضى الذين لذين تطلعوا إلى حلم زائف بالعلاج من تلك الأمراض الفيروسية المميتة مما جعلهم يتركون العلاج التقليدى فى انتظار هذه الاكتشافات .
فيديو قد يعجبك: