صلاح عيسى.. تاريخ من الشغب الجميل
كتب - محمد عاطف :
تعددت مواهب الكاتب الموسوعي الراحل صلاح عيسى، ومن هنا تعددت خسارة الأوساط التي ترك "عيسى" بصمته فيها بعد رحيله.
لم يكن "عيسى" الذي تقيم أسرته مراسم العزاء فيه اليوم، مجرد كاتب صحفي تميز بأسلوب سلس سحري يشبه المنوم المغناطيسي، ولا مؤرخ له دراسات لا يتجاوزها أي باحث منصف، ولا حكاء "أراري" يغوص في قلب كل حكاية ليروي ويكشف ما خفي عن عامة المثقفين، ولا إداري ناجح أثبت مكانته من خلال إدارته لأكثر من خمس صحف طوال حياته، ولا قطب يساري رفض أن يترك رفيقه "رفعت السعيد" وحيدا في الدار الآخرة وأصر على أن يلحق به؛ وإنما كان أيضا مناضلا لا يشق له غبار، صاحب موقف لا يتزحزح عنه، مشاغب دفع الكثير من الأثمان الباهظة لمواقفه الشريفة راضيا.
فليست الصحافة وحدها هي التي خسرت أحد أعمدتها بوفاة "عيسى"، وليس اليسار المصري وحده هو الذي خسر أحد أقطابه، بل وليست السياسة وحدها خسرت أحد منظريها، بل إن مصر كلها خسرت برحيل "عيسى" واحدًا من أنبه وأنبل كتابها ومؤرخيها.
فقد جلبت مواقف صاحب "الثورة العرابية"، عليه الكثير من المآسي التي بدأت مبكرا منذ العهد الناصري، حيث اعتقل لأول مرة بسبب آرائه السياسية عام 1966، وزامل في زنزانته الكثير من المبدعين مثل أحمد فؤاد نجم، وعبدالرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، وغيرهم، وتكرر اعتقاله أو القبض عليه أو التحقيق معه أو محاكمته في عدة سنوات ما بين 1968 و 1981 وفصل من عمله الصحفي المصري والعربي.
له مواقف نقابية معروفة دفاعا عن المهنة والنقابة منها موقفة في التصدي للقانون المشبوهة رقم 93 لسنة 1995، فقد كان في مقدمة الصفوف يناضل ضد القانون الذي تبناه الرئيس الأسبق حسني مبارك ووزير إعلامه صفوت الشريف.
لم يبخل بقذائفه الصحفية والإعلامية عندما تولى الإخوان الحكم عام 2012، وأكد في مقالاته وحواراته التليفزيونية أن الإخوان عاجزون عن القيام باجتهاد سياسي خلاق، وأن جماعة الإخوان باتت أشبه برجل قوي مفتول العضلات، لكنه بلا عقل، ينطبق عليه المثل الشعبي «العافية هابلة»، مشيرا إلى أن هذه العافية البلهاء هي التي قادتهم إلى سلسلة من الأخطاء انتهت بصدامات دموية بينهم وبين نظم الحكم المدنية.
لم يكن "عيسى" مريحا للسلطة طوال حياته رغم أنها منحته الكثير من المكتسبات لعل أبرزها رئاسته تحرير ومجلس إدارة الجريدة الرسمية لوزارة الثقافة طوال عقدين، إلا أن روحه ظلت ليبرالية تحررية في كتاباته التاريخية، منحازا للمعارضة حتى وإن أبدى انحيازا للسلطة في بعض المواقف، يقول للغولة لا عندما يجد الجد، ويشعر أن هناك موقفا لابد أن يأخذه.
وفي كتابه "شاعر تكدير الأمن العام: الملفات القضائية للشاعر أحمد فؤاد نجم" يطل "عيسى" بأسلوبه الرشيق على الملفات القضائية للشاعر المعارض الكبير أحمد فؤاد نجم، مستعينا بالمصادر الرسمية والصحف ليأخذنا في رحلة صحفية شيقة. يتناول في الجزء الأول منها تاريخ ما يسمى "بالجرائم التعبيرية"، مثل الشعر والأغاني والأفلام والمسرحيات والقصص، وما تعرض له الفنانون فس مصر فس العصر الحديث من بيرم التونسى وطه حسين إلى يوسف شاهين. ثم يعرض لنا قصة حياة أحمد فؤاد نجم غير العادية بتفاصيلها الممتعة. ثم يتناول ما تعرض له هذا الشاعر المعارض من مضايقات وحملات من السلطة أدت إلى التحقيق معه فيما عرف بقضية "نيكسون بابا" عام 1974، وموال "الفول واللحمة" عام 1977. ويلحق بالتحقيقات حيثيات الحكم في قضية قصيدة "بيان هام".
وفي كتابه الشائق "شخصيات لها العجب"، يستعرض ملامح حيوية من أحداث تاريخنا الحديث المعاصر، عبر50 شخصية من النخب السياسية والثقافية والفنية المصرية التي لعبت دورا علي مسرح الحياة العامة خلال النصف الثاني من القرن العشرين يقدم لنا صورة بانورامية عريضة تجمع في طياتها بين العظماء والصعاليك علي حد سواء..
إذ يتساءل الكاتب علي سبيل المثال هل كانت محاولة الملك فاروق بعد هزيمته عام1948 لاستدعاء قائد عسكري ألماني لإعادة تدريب وتسليح الجيش المصري، وراء تآمر إسرائيل وحلفائها علي عزله عن العرش، وما مدى مسئولية مرشد الاخوان حسن البنا عن العمليات الارهابية التي قام بها الجهاز الخاص لجماعة الاخوان المسلمين، وتضم الصورة أيضا في جوانبها أهل اليمين واليسار والوفديين والناصريين والإخوان المسلمين والشيوعيين والديمقراطيين والإرهابيين، وكأن الكاتب قد التقط بقلمه البارع وقدرته الفائقة علي قراءة ورصد الأحداث بين السطور صورا شديدة الخصوصية لشخصيات لها العجب من زمان له العجب علي حد كلماته.
أما كتابه "تباريح جريح"، فيكفي أن نقرأ كلمة الكتاب التي كتبها عيسى بنفسه لندرك أننا فقدنا أسطورة في عالم الإبداع، قل الزمان أن يجود بمثله؛ حيث يقول واصفا الكتاب: "في هذه التباريح شيء من السياسة.. وبعض من الفكر، ونماذج من البشر، وشظايا من الذكريات، ونتفات من القهقهات وسحابات من الدموع والأوجاع معظمها مما يُضحك حتى تطرق الدموع أبواب العين ويُبكي حتى يذوق اللسان ملوحة الدمع.. وقد يراها البعض سياسة خالصة، وقد يعتبرها آخرون أدبا خالصاً وقد لا تُرضى هؤلاء، ولا أولئك.. وهذا حقهم الذي لا أنازعهم فيه! وفي هذه التباريح شيء من المرارة، وكثير من الغضب، واحتجاج بمساحة العمر.. وحزن بعمق الجراح الطرية التي ما زالت تستعصى على الاندمال، أعلق فأسها جميعاً في رقبة الذين طاروا بأشواق جيلنا إلى ذُرى الجبال، ثم ألقوا بها بقسوة جلفة إلى جُب الهزيمة والانكسار لكنها -هذه التباريح - تستقطر الضحكة، من زمن الكوميديا السوداء الذي نعيشه، لذلك أهديتها لذكرى "ناجي العلى": ضحكتنا التي تشرق بالدموع.. ووجعنا الذي لن يطيب".
فيديو قد يعجبك: