إعلان

"كل يوم حكاية".. ذكريات إبراهيم عبدالمجيد خلال شهر رمضان

11:47 م السبت 27 مايو 2017

الأديب الكبير إبراهيم عبدالمجيد

كتبت- نسمة فرج:

تحت عنوان "كل يوم حكاية"، يكتب الأديب الكبير إبراهيم عبدالمجيد ذكرياته خلال شهر رمضان، عبر الصفحة الرسمية لدار "بيت الياسمين للنشر" بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".

وتحت "رسائل من الجنة" جاءت الحكاية الأولى:

جلس الأب في الصالة يقرأ القرآن في صمت، وضع أمامه حاملا من الخشب فوقه المصحف، الحامل من خشب الورد، معشق بالصدف الذي يشكل رسومات دقيقة لطيور تسبح في الفضاء ورثه من العصور الوسطي أبًا عن جد، وكان صانعه قد ضمخه بعطر الكافور الذي لم يتلاشَ مع الزمن. كانت هناك نصف ساعة باقية علي مدفع الإفطار. وفي المطبخ كانت الأم والابنة تجهزان الطعام والشراب الذي سينقلانه إلي الصالة بعد قليل، كان في المطبخ راديو صغير ينساب منه صوت الشيخ محمد رفعت يملأ الفضاء بالرضا، لكن الابنة رأت دمعا يتسلل من عيني الأم التي راحت تمسحه براحة يدها. لم تتحمل الابنة وهتفت:

- ماما.

ثم انفجرت باكية وانهارت علي مقعد صغير. تماسكت الأم واقتربت من الابنة ووضعت رأسها علي صدرها وراحت تمسح عليها براحتيها وتقول:

- خلاص يا رقية. حقك عليا، ما تعيطيش ياحبيبتي. أخوكي في أحسن مكان عند ربنا.

لكن الإبنة انفجرت في البكاء أكثر.

- بلاش بابا يسمعك يارقية. بابا مش مستحمل ياحبيبتي. يعلم الله حالته إيه دلوقتي في أول يوم رمضان وأخوكي مش معانا.

رفعت الإبنة رأسها وقالت باكية:

- ليه كده ياماما.أخويا كان جميل أوي.

- حكمة ربنا يارقية. ربنا سبحانه وتعالي هو اللي بيختار. اختار الشباب الحلوين كلهم. فاكرة صورهم. كلهم بيضحكوا مبسوطين. دول رايحين الجنة يارقية.

- لكن أنتِ مش قادرة تنسي يا ماما، وفي المدرسة بتكتبي كل يوم علي السبورة تاريخ اليوم 28 يناير 2011. "مس هبة" زميلتك قالت لي كده وكانت بتعيط علشانك.

وقبل أن ترد الأم سمعا الأب يهتف من الخارج بصوت عال:

- يا رقية، يا أم رقية.

هتفت الأم في هلع:

- باباكي.

وجرت خارجة وخلفها رقية، فوجدتا الأب جالسا في مكانه زائغ النظرات. المصحف أمامه فوق الحامل مفتوح، وفوقه مظروف أبيض شاهق البياض يشير إليه في رعب.

نظرا إلي المظروف في دهشة فقال:

- جواب من مصطفى.

تبادلت الأم والابنة النظر في قلق علي الأب الذي قال وهو يشير إلي النافذة النصف مفتوحة في ذهول:

- دخل من هنا وحط لي الجواب.طائر عمري ما شفت زيه. دخل رفرفرف ملا الصالة بريحة المسك وحط لي الجواب وطار. شامين الريحة؟

قالت الأم بعد أن جلست جواره تبكي:

- خايفة عليك يابو مصطفى، ليه بتعمل في نفسك كده بس؟ ابننا عند ربنا.شهيد يابو مصطفي مع الصديقين والأنبياء.

لكن رقية كانت أمسكت بالمظروف الذي بدأ ينفتح وحده بين يديها، فوضعته مكانه علي الفور وهي ترتعش، والأم والأب ينظران إليه إذ راحت تخرج منه زهور بيضاء جميلة تطير في الصالة، فتراجعت رقية وجلست جوار أبيها الذي راح يحيطها وأمها بذراعيه ويتمتم. بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الرحمن الرحيم. والزهور البيضاء تتوالي في الخروج تملأ الصالة وتسبح في فضائها وتنشر رائحة المسك العتيق، وصار بعضها يطير الي النافذة نصف المغلقة تتزاحم للخروج وتغرد كعصافير الفجر. هتف الاب "افتحي الشباك يارقية علي الآخر".

أسرعت رقية وسط الزهور، وفتحت النافذة، فتدافعت الزهور في الخروج إلي الفضاء تملأه وينتشر عطرها في الشوارع، والأب والأم متجمدان أمام المظروف الذي لا ينقطع خروج الزهور منه، ورقية بدورها عادت مرعوبة من عند النافذة، وجلست من جديد جوار أبيها لا تصدق ما يجري. في الخارج. انفتحت نوافذ كل البيوت التي انتشر فيها العطر فجأة ولم يعرف أحد مصدره حتي زاد، فخرج الناس جميعا يرون الزهور تسبح أمامهم ويرونها من بعيد تخرج من نافذة أبو مصطفي. هكذا صار كل من تأخر في الخروج إلي النافذة أو الشرفة يخرج مسرعا، وكل من كان مسترخيا يخرج، وكل من كان أمام التليفزيون يخرج، ليملأ صدره بهذه الرائحة القادمة من الجنة. وزاد ت الزهور في الفضاء بشكل كبير، وراحت تدخل من النوافذ والشرفات الي البيوت تنشر عطرها وتخرج.

ولما رأي الناس مصدرها الذي لا ينقطع خروجها منه وهو بيت ابي الشهيد، هتفوا معا "الله اكبر.. الله اكبر" والزهور راحت تبتعد تاركة في الفضاء والبيوت رائحتها. بعد قليل إنطلق مدفع الإفطار لكن كان الناس جميعا في حالة من الشبع، وأحسوا أنهم ارتووا بالماء الزلال، وجلسوا جميعا في بيوتهم صامتين ينظرون إلي بعضهم في دهشة،ودموع الكثيرين منهم تطل علي بعضها لا تصدق ما جري.

في بيت أبي مصطفي انقطع خروج الزهور من المظروف. وجلس الأب والأم والإبنة ينظرون إلي بعضهم في فرح عميق. انحني الاب علي المظروف يمسكه ويقبله، وأعطاه للأم التي قبلته بدورها وأعطته للإبنة رقية التي قبلته ودموعها تترقرق في عينيها. بعد قليل أشعل الناس تليفزيوناتهم فرأوها قد غيرت برامحها كلها ولا كلام لها إلا عن رائحة المسك العتيق التي ملأت كل البلاد. وفي الصباح كان حديث الصحف عن هذه الظاهرة الغريبة. عن الزهور التي خرجت من بيوت عديدة في كل وادي النيل والصحراء لتنشر رائحة المسك العتيق. صار معروفا أنها كلها خرجت من بيوت الشهداء، لكن كتبت إحدي الصحف أن رائحة الجنة رسالة إلي الأمة التي تقاعست في الثأر للشهداء ربما سوف تتبعها عاصفة من جحيم. في الحقيقة كان الناس يدركون ذلك. وراحوا يمشون في البلاد صامتين.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان