إعلان

نزار قباني.. أهرام من الكلمات (بروفايل)

11:09 م الإثنين 30 أبريل 2018

نزار قباني

كتب- محمد عاطف:

فريدًا في أسلوبه، لا ينازعه فيه أساتذة تتلمذ على يديهم، ولا تلاميذ نهلوا من موهبته، ولم يستطع أحد من جيله على الرغم من العمالقة الذين عاصروه أن يقتربوا من سمق قامته، وعلو هامته الشعرية، وأسلوبه المميز، إنه نزار قباني، ابن سوريا، الذي ولد في العاصمة دمشق.

لأسرة دمشقية عريقة، ترجع بنسبها إلى الإمام علي بن الحسين زين العابدين، ولد نزار في 21 مارس 1923، ودرس الحقوق في الجامعة السورية، وفور تخرجه منها عام 1945 انخرط في السلك الدبلوماسي متنقلًا بين عواصم مختلفة حتى قدّم استقالته عام 1966.

أصدر أولى دواوينه عام 1944 بعنوان "قالت لي السمراء"، وتابع عملية التأليف والنشر التي بلغت خلال نصف قرن 35 ديوانًا أبرزها "طفولة نهد" و"الرسم بالكلمات"، ولم يترك سيرته الذاتية للاجتهاد من قبل النقاد المعاصرين له، ولجأ إلى كتابة ونشر مذكراته في حياته، خوفًا من أن تكون حياته مادة ثرية للنميمة الصحفية أو الاجتهاد الأدبي في وسط يعيش على فضائح النجوم والمثقفين.

وبحسب مذكراته، انطلق صاحب "الرسم بالكلمات"، مبكرًا في سماء الفن على خلفية الرسم بالألوان، وذكر أن سر محبته للجمال والألوان واللون الأخضر بالذات أنه في منزلهم الدمشقي كان لديهم أغلب أصناف الزروع الشاميّة من زنبق وريحان وياسمين ونعناع ونارنج.

اتجه بعد سنوات من حبه للرسم بالألوان إلى الولع بالموسيقى، وتعلم العزف والتلحين على آلة العود، لكنّ الدراسة خاصة خلال المرحلة الثانوية، جعلته يهجر هذه الهواية المعقدة، قبل أن يستقر على شطآن الشعر، ويغوص في حفظ أشعار عمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وطرفة ابن العبد، وقيس بن الملوح، متتلمذاً على يدِ الشاعر خليل مردم بِك وقد علّمه أصول النحو والصرف والبديع.

كانت بدايته في عالم الشعر رقيقة رومانسية حالمة، معبرة عن عشقه للمرأة وجسدها الفتان، وهو ما تجلى في عدد من الدواوين الأولى له وعلى رأسها "قالت لي السمراء"، "طفولة نهد"، "أنت لي"، "حبيبي"، وغيرها من الدواوين.

انحرف مسار نزار قباني الشعري انحرافًا حادًا إلى السياسة مع وقوع النكسة وهزيمة العرب الكبرى عام 1967 أمام الكيان الصهيوني، فأنشد يقول:

أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمة

والكتبَ القديمة

أنعي لكم..

كلامَنا المثقوبَ، كالأحذيةِ القديمة..

ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمة

أنعي لكم.. أنعي لكم

نهايةَ الفكرِ الذي قادَ إلى الهزيمة

....

مالحةٌ في فمِنا القصائد

مالحةٌ ضفائرُ النساء

والليلُ، والأستارُ، والمقاعد

مالحةٌ أمامنا الأشياء

..

يا وطني الحزين

حوّلتَني بلحظةٍ

من شاعرٍ يكتبُ الحبَّ والحنين

لشاعرٍ يكتبُ بالسكين

هكذا تحول مسار نزار من شاعر رقيق رومانسي حالم، ينثر التفاؤل ويحدق بالقمر وينشد الجمال في النساء، إلى شاعر عنيف، حاد، حانق، بائس، لا يرحم أحدًا من لسانه، يهاجم الجميع في أشعاره، لا يأبه بما يمكن أن يلاقيه من صنوف التجاهل والتشويه والمعاناة.

وفي 15 ديسمبر 1981، وقعت الواقعة وقتلت زوجته وحب عمره "بلقيس" في حادث مأساوي تحت أنقاض السفارة العراقية في بيروت، إثر انفجار هائل وقع بها، ويصف نزار قباني هذه اللحظة قائلًا: "كنت في مكتبي بشارع الحمراء حين سمعت صوت انفجار زلزلني من الوريد إلى الوريد ولا أدري كيف نطقت ساعتها : يا ساتر يا رب.. بعدها جاء من ينعي إلي الخبر.. السفارة العراقية نسفوها.. قلت بتلقائية بلقيس راحت.. شظايا الكلمات مازالت داخل جسدي.. أحسست أن بلقيس سوف تحتجب عن الحياة إلى الأبد، وتتركني في بيروت ومن حولي بقاياه، كانت بلقيس واحة حياتي وملاذي وهويتي وأقلامي".

لم يترك صاحب "طفولة نهد" هذه المناسبة تمر مرور الكرام ونظم واحدة من القصائد التي خلدتها الذاكرة العربية وهي "بلقيس".

شُكراً لكم ..

شُكراً لكم . .

فحبيبتي قُتِلَت .. وصار بوُسْعِكُم

أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدهْ

وقصيدتي اغْتِيلتْ ..

وهل من أُمَّـةٍ في الأرضِ ..

- إلا نحنُ - تغتالُ القصيدة ؟

بلقيسُ ...

في يوم 30 إبريل من عام 1998 لفظ آخر أنفاسه عن عمر ناهز 75 عامًا في لندن، بسبب أزمة قلبية، ودفن في دمشق كما أوصى، باعتبارها "الرحم الذي علمني الشعر، الذي علمني الإبداع والذي علمني أبجدية الياسمين"، غادرنا "قباني"، ومازالت أشعاره حية نابضة بالحيوية باعتبارها هرمًا من الكلمات.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان