من بيت الأمة.. أسرار ثورة 1919 بعيون "مصطفى أمين"
كتب-محمد مهدي:
موجات من الغضب سرت في الشوارع المصرية ضد الاحتلال الانجليزي بمارس عام 1919، بدأت بمسيرات قليلة ثم تحولت إلى ثورة باتت علامة هامة في تاريخ مصر، حاول الكثيرين رصدها من بعيد، غير أن الصحفي الكبير مصطفى أمين قاده القَدر للتواجد في قَلب الأحداث، عايش مسارات الثورة وتقلباتها وكواليسها من داخل بيت الأمة، إذ كان يعيش رفقة قائدها "سعد زغلول" وزوجته "صفية" بُحكم القرابة لنحو 13 عاما من بينهم أيام الثورة.. فكانت روايته عن ما جرى تحمل مصداقية ودقة في كثير مما جاء بها، دونها في كتابه "الكتاب الممنوع" الصادر عن مؤسسة أخبار اليوم.
لماذا سيشيل؟
كانت بريطانيًا تعلم قَدر مكانة الزعيم سعد زغلول لدى الشارع المصري، حاولوا التخلص سريعًا من الضغوط التي ستمارس عليهم في حالة وجوده داخل مصر، لذا قررت الحكومة البريطانية نفيه وزملائه إلى جزيرة سيشيل، لكنها لم تكن الاختيار الأول، وتم تغيير مساره لسبب يبدو غريبًا.
من خلال اقترابه من خاله "سعد زغلول" والاطلاع على مذكراته، تعرف "مصطفى أمين" على سر اختيار سيشيل، إذ صدر القرار أولًا بالنفي إلى جزيرة سيلان، اعتقادًا من رئيس الوزراء البريطاني "لويد جورج" بأنها جهنم، قبل أن يزورها ذات مرة ليجدها جميلة-وفق تعبير جورج.
حينما قُبض على زغلول وتم نقله إلى عدن واعتقاله هناك لبعض الوقت في انتظار إرساله إلى منفاه تلقت الإدارة البريطانية مراسلات من المندوب السامي لدى القاهرة يؤكد اشتعال الأوضاع في الشوارع غضبًا من الامساك بزعيم الأمة- كما اطلع الصحفي الكبير- هنا رغب "جورج" في التدخل بفكرة خبيثة، فأرسل برقية إلى حاكم عدن بالإبقاء على زغلول لعدة أيام لحين إرسال ظابط مخابرات بريطاني يتحدث اللغة العربية جيدًا لعرض كرسي الحُكم على القائد المصري مقابل الاعتراف بالحماية البريطانية على مصر.
لقاء ملتهب جرى بين ضابط المخابرات وزغلول، حاول الأول إقناع الأخير بالعرض المغري، خاصة أن ذلك ستسبب في انخفاض شعبيته لدى المصريين، لكن الأخير-كما كتب في مذكراته- كان لديه ردًا واحدًا "إني أفضل أن أكون خادمًا في بلادي المستقلة.. على أن أكون سلطانا في بلدي المستعبدة المختلة" بائت المحاولة بالفشل، وتلقت الحكومة رسالة بفشل مساعيهم فاستشاطوا غضبا.
مدفوعًا بالضيق أصدر "جورج" قرارًا بنقل زغلول إلى سيشيل بدلًا من سيلان كعقاب أكبر له ولسبب ذكره رئيس الوزراء البريطاني بعد سنوات "اخترتها لأن أحد أصدقائي مات فيها" كان يراها الرجل مكانًا مقبضَا فأرسل زغلول إلى هناك.
سر نجاة مذكرات الزعيم
لنحو 13 مرة، فتش الإنجليز بيت الأمة خلال الثورة بحثًا عن مذكرات سعد زغلول السرية-بحسب مصطفى أمين- لم يتركو مكانًا دون تفنيده، الغرف والأثاث حتى العاملين داخل البيت، لكنهم لم يحصلوا على شيء في نهاية كُل مرة، امتلكهم الجنون دون أن يصلوا إلى معلومة، كان سؤال وحيد يدور في العقول حينها.. أين أخفى زغلول مذكراته؟.
ذات يوم بينما يتجول الفتى مصطفى أمين في أروقة بيت الأمة، بينما يضج المكان بعدد كبير من الزائرين كالعادة، وصل إلى المكان شيخ في سن الستين، تقدم إلى أحمد عثمان، مساعد سعد زغلول هامسًا في أذنه "13 يوليو".. بعدها انطلق الرجل إلى غرفة الزعيم قبل أن يعود مرة أخرى ومن خلفه "زغلول" مما أثار انتباه الفتى-أمين.
تحدث زغلول مع الشيخ لدقائق ثم اختفى قليلًا وشاهده مصطفى أمين يقترب من الرجل وفي يديه لفافة بها عدد من الأوراق، استلمها الرجل وغادر سريعًا، لم يرَ صاحب "الكتاب الممنوع" هذا الشيخ حتى عام 1926 حين عاد زغلول من المنفى، الذي ظهر حاملًا لفافة أوراق أيضًا. فيما بعد اكتشف أن الرجل في المرة الأولى أخبر الزعيم بأنه سيقبض عليه ولابد من إخفاء أوراقه المهمة "فسلمه سعد هذه الأوراق.. كانت مذكرات سعد زغلول السرية".
المكواه ورسائل "زغلول" السرية
من باريس كان سعد زغلول خلال عرض قضية مصر مداومًا على إرسال واستقبال رسائل سرية بينه وعبدالرحمن فهمي الذي ترأس الجهاز السري للثورة حينها-حصل مصطفى أمين على نسخ منها- تحمل دائمًا أفكار زغلول عن الثورة وتعليماته للتنظيم لكيفية التحرك والتعامل مع الأحداث والمجريات التي تدور في مصر في عام 1920، غير أن التخوفات كانت قائمة من عثور السلطات البريطانية على تلك التدوينات مما استدعى اللجوء لحل مبتكر.
تعلم سعد زغلول كيفية الكتابة بالحبر السري، يحصل يومًا على مجلات فرنسية، يكتب عليها في سطور مقتضبة رسائله إلى الجهاز السري للثورة، تحمل أفكاره منها أن يكون رئيس الدولة في مصر بالانتخاب وليس التعيين أو الوراثة وهو النظام الجمهوري، وقال نصًا في أحد خطاباته "يجب التحذير من الاقتراب من هذا المركز –رئيس الدولة- إلا بإرادة الأمة".
بعد الكتابة يُرسلها زغلول إلى القاهرة مع رجل ذو ثقة، وحين تصل إلى المسؤولين في الجهاز السري للثورة يتعامل معها الدكتور أحمد ماهر، المسؤول عن عملية حل الشفرة بطريقة لا يتوقعها أحد، وهي تمرير مكواة ساخنة على الورق لتتضح رسائل الزعيم أمامهم من بين السطور المكتوبة في المجلات، بدون تلك الحيلة لم يكن لزغلول إمكانية إدارة الثورة من باريس-كما يؤكد مصطفى أمين.
فيديو قد يعجبك: