"كعب داير".. كيف تتتبع "فرق تقصي كورونا" خُطى الفيروس؟
كتب- أحمد جمعة:
منذ مارس الماضي وهاتف عبدالحي علي (مراقب صحي)، لا ينقطع عن الرنين. فهو ضمن فرق التقصي التي كلفتها وزارة الصحة بمتابعة المخالطين للمصابين بفيروس كورونا، وتقديم الإرشادات الصحية لهم منعًا لزيادة عدد الحالات.
بطبيعة الحال لم يعد الأمر كما كان في الأيام الأولى للجائحة في مصر، فزيادة عدد الحالات قبل أسابيع دفع "عبدالحي" ومن معه لبذل جهود مضاعفة؛ لاحتواء الموقف: "إحنا شغالين 24 ساعة في الـ7 أيام، مستني طول الوقت يجي أي بيان أو اتصال على البرنامج الخاص بنا للتقصي عن حالات مُصابة بكورونا".
لا يزال المراقب الصحي بمدينة الحوامدية بالجيزة يتذكر أول حالة "كورونا" تعامل معها، بينما كان الخوف ينتشر في كل موطئ قدم. كانت سيدة عائدة لتوها من رحلة عمرة أوائل مارس، وسرعان ما ظهرت عليها الأعراض؛ لتنتقل إلى مستشفى قريب، ويجري تشخيصها "إيجابي كورونا" وتدخل مستشفى النجيلة للعزل في وقت كانت وزارة الصحة لا تترك مصابًا واحدًا دون عزله.
من هنا بدأ عمل "عبدالحي" فعليًا. تلقى إشارة ببيانات الحالة، فذهب مع فريقه إلى مسكنها، وجمَّع أكبر قدر من المعلومات عن المخالطين، مع مناظرتهم طبيًا؛ للاطمئنان على حالتهم: "خدنا مسحات من 20 مخالطًا بشكل مباشر أو غير مباشر"، عقب ذلك أبلغهم بالعزل المنزلي لأسبوعين مُشددين مع توزيع دواء مقوّي للمناعة، ولاحقًا كانت نتائجهم سلبية. فيما بعد، لم تعد تُجرى "مسحات كورونا" للمخالطين، أو لكثير من الحالات البسيطة المُصابة بالفيروس بأعراض طفيفة.
طوال الأسبوعين كان فريق التقصي البالغ عدده 5 أفراد، يتابع المخالطين بزيارات منزلية أو باتصالات هاتفية بشكل دوري، لكن الخوف لم يتملك "عبدالحي" من مواجهة "كورونا الغامض" حتى هذه الأثناء "بالعكس؛ كنت متحمس، وحابب مجال عملي، ومستني أقدّم حاجة لأهلي"، ما طمأنه أكثر كانت الإجراءات الوقائية الكاملة التي حلّ داخلها دون أن يظهر منه شيء "لبست البدلة الواقية كاملة، ونضّارة طبية، والجوانتي".
ومع زيادة عدد الحالات واتباع وزارة الصحة استراتيجية العزل المنزلي، كان "عبدالحي" ومن معه يقسّمون مهامهم "جزء من المرضى يتم الاتصال بهم تليفونيا وأعراضهم بسيطة، وجزء آخر يتم التنسيق لمقابلتهم ميدانيًا حال وجود عوامل خطورة"، ويحاول مرارًا معرفة مصدر الإصابة للحالات "لو عرفت مصدر العدوى نقدر نحجم الموضوع على قد ما نقدر".
لم ينس "عبدالحي" تلك السيدة التي لم تكترث لإصابتها بالفيروس "عندها كورونا وتتعامل بكل أريحية في بيت عيلة"، ففي جولته الميدانية وجدها "تغسل الملابس" داخل منزلها الريفي دون خضوعها للعزل.
حاول في البداية إقناعها بخطورة ما تفعله "قلتلها يا ست أنتِ عندك كورونا مفروض تعزلي نفسك وتطبقي الإرشادات"، لكنها مع ذلك لم تستجب بينما كانت أعراضها بسيطة، ولا تشعر بفرق بينه وبين "دور البرد" الذي يأتيها كل شتاء. ومع تجاهلها للتحذيرات، تحدث إلى "كبير البيت"، والذي ألزمها غرفتها حتى تعافت "فيه ناس مش مقتنعة إن عندها كورونا، وفيه تجاهل غريب للمرض".
ما يزعجه "التهجم المجتمعي والتنمر" الذي يتعرض له في مواضع كثيرة، خاصة حين يكون في عمل يتطلب ارتداء ملابسه الوقائية. حدث ذلك منتصف أبريل عندما كان يتابع إحدى الحالات بالحوامدية "الناس اعتبرونا الوباء نفسه، وبعضهم جري يقولنا (يا كورونا يا كورونا)، الأمر الذي أغضبه بشدة "الموضوع حاذذ في نفسيتنا قوي".
إلى جانب ذلك؛ يحلل "عبدالحي" البيانات التي ترد إليه ويُجمعها لكي يُعد "المنحنى الوبائي" لكورونا في الحوامدية، وتصنيف المرضى طبقًا لعدة فئات "جنسهم وسنهم وما إن كانوا مصابي أمراض مزمنة"، وكذلك تنفيذ "شجرة المخالطين"؛ لتتبع كافة الحالات ومعرفة مصدر العدوى.
يوضح أحمد الدبيكي رئيس نقابة العلوم الصحية، أن للمراقبين الصحيين عددًا من المهام الوظيفية، من بينها: ترصد الأمراض المعدية، والإشراف على تطعيمات الأطفال، ومراقبة الأغذية وصلاحية ميّاه الشرب، قبل أن تأتي كورونا؛ ليندرج أغلبهم في التواصل مع المرضى ومتابعة حالتهم يومًا بيوم.
وكشف "الدبيكي" أن أول إصابة بين الأطقم الطبية بكورونا كانت لمراقبين صحيين، حينما ذهبوا ضمن فريق تتبع مسار إصابات باخرة الأقصر مطلع مارس الماضي، إذ أصيب 5 بالعدوى بينهم 3 مراقبين و2 من فنيي المعمل "الاحتياطات الوقائية لم تكن مشددة كما هيّ مؤخرًا".
خط ساخن للمخالطين
من الجيزة إلى أسيوط، كان الوضع متقاربًا في تعامل فرق الترصد والتقصي مع حالات كورونا، لكن المراقب الصحي صلاح همام فكّر في التسهيل أكثر على المرضى مع زيادة عدد الحالات مؤخرًا، فخصص مع إدارته خطًا ساخنًا؛ لمتابعتهم على مدار الساعة "لن نستطيع متابعة كل الحالات على الأرض، واجتهدنا لتخصيص رقم (01060603745)؛ لتلقي جميع الاستفسارات بالمديرية".
في أسيوط 13 إدارة صحية، يشرف "همام" على إدارة شرق، وكان من الفريق الذي تعامل مع أول حالة "كورونا" مؤكدة، بعد أن ظهرت عليها الأعراض لأيام، وما إن تسلموا بياناتها حتى جرى تجهيز فريق مخصص من طبيب ومراقبين صحيين، وذهبوا على الفور إلى منزل الحالة "تتبعنا المخالطين المباشرين وغير المباشرين وخط سيره في آخر 14 يومًا، مين زاره وراح عند مين وكتبنا كل البيانات".
عَرف الفريق مصدر إصابة أول حالة، وعن طريقها تتبعوا الحالة الثانية لإحدى الموظفات لديه "اكتشفنا إنه جاي من القاهرة وظهرت عليه أعراض، وبتتبع المخالطين ظهرت حالة ثانية لا تُقيم معه مباشرة بالمنزل"، وبالتالي ينظر بأهمية إلى البيانات التي يحصل عليها من تتبع المرضى في ربط تسلسل الحالات المُصابة.
بالتزامن يجري تعقيم وتطهير منزل الحالة الُمصابة "بنحاول نطمن الأهالي ونقولهم يطهروا المكان كل فترة، مع الالتزام بالماسك وغسل الأيدي، والعزل المنزلي"، وفق همام.
بعد أيام، اكتشف الفريق 9 حالات مصابة بكورونا داخل عمارة واحدة "أول الخيط كان مصابًا، وبالتتبع ومناظرة السكان تم الاشتباه في 9 منهم، أخذنا مسحات، وتم إجراء أشعة، وتأكدت إصابتهم". يشعر أن فريقه لديه خبرة كبيرة في التعرف على حالات الإصابة وتحديدها قبل أن تُجرى المسحات "أصبحنا بعد الخبرة الكبيرة التي اكتسبناها نستطيع تقييم الحالات من شكلها العام".
يشكتي "همام" من شعور بعض المرضى بـ"الوصم" بعد إصابتهم، ما يدفعهم إلى طلب عدم حضور فريق التقصي "فيه ناس خايفة إننا ندخلهم، خاصة لما نكون لابسين البدلة الواقية، يقولونا متجيش دلوقتي أو تعالى بالليل، أو البس في مدخل العمارة". وفي كل الأحوال يحاول طمأنتهم وتنفيذ ما يحفظ سرهم، وعدم إلحاق الضرر لهم.
بعض الأوقات تلجأ حالات إلى "همام" وفريقه لتوفير سرير بمستشفى عزل حين تتفاقم أعراضهم إلى نحو مُقلق. ينجح في بعض الأحيان، وتتبدد محاولاته في أحيان أخرى "للأسف مش كتير بنلاقي أماكن، وبالتالي تكون الأولوية للحالات الحرجة"، مع تجاوز عدد المخالطين 400 شخص.
قبل أسابيع، شعر همام بأعراض بسيطة مقاربة لـ"كورونا"، واشتبه معها بإصابته بالفيروس "أخدت الدور، وكان مصدر العدوى من حالة ذهبت إليها في المنزل"، وخضع للعزل المنزلي حتى اختفت الأعراض وتماثل للشفاء وعاد من جديد إلى عمله: "مهما تعمل وتكون إجراءاتك قوية، أنت معرض للعدوى طوال الوقت".
على الغرار، يعمل عبدالعاطي شعبان مراقبًا صحيًا بمنطقة كوبرى العبد في البحيرة منذ 4 سنوات، يعرفه القاصي والداني بحكم اختلاطه الدائم معهم، إذ يتولى تطعيمات الأطفال وترصد الأمراض المعدية، وكان ذلك سلاحًا ذا حدين في مهمته الجديدة، فمن اليسير عليه تقصي الحالات المصابة وتحديد المخالطين لها وجمع بياناتهم، لكن ذلك وضع ضغوطًا إضافية عليه من أهل بلدته الذين يرغبون في معرفة المصابين عكس ما يؤمن به من الحفاظ على سرية المرضى.
لازمه هذا الموقف منذ أول حالتين تابعهما يوم 8 يونيو الماضي في نطاق وحدته، وعلى الفور هاتفهما لإبلاغهما بحضوره "لبست الجوانتي وواقي الرأس والكمامة ورحنا البيت". كانت الشمس ضاربة أشعتها في ظهر يوم حار، وأغلب أهل القرية بمنازلهم، ولم يشاهد الفريق أحد.
جمَّع البيانات وعرف مصدر العدوى وكانت سيدة تحضر عزاء بكفر الشيخ، وصرف العلاج للمخالطين، وطهر الفريق المنزل، وما إن انتهى حتى بدأت الاستفسارات بين أهل بلدته عن الحالة وتفاصيلها: "الناس بيسألوني كتير عن اسم المريض، وعندما تأكدت أنها لم تخرج من منزلها خلال الأيام الماضية لم أخبر أحدًا من هيّ".
مؤخرًا، أصبحت متابعة مرضى العزل المنزلي من أساسيات عمل شعبان، ولذا كونوا فريقًا للإشراف عليهم "طبيب الوحدة وممرضة وأنا بتابعهم يوميًا"، بعدما تم إلزام الكثير من الحالات بالعزل المنزلي حال كانت إصابتهم بسيطة أو متوسطة.
العائدون من الخارج كذلك ضمن عمل المراقبين الصحيين، فلديهم برنامج متابعة القادمين من الخارج وهو مربوط مع جميع منافذ وموانئ مصر البرية والبحرية والجوية: "عند قدوم أي عائد لأرض الوطن نتابعه لمدة 28 يومًا ترصدًا؛ لأي أعراض قد تظهر عليه مع إعطائه التعليمات الوقائية اللازمة".
يهتم "شعبان" بأن يعرف الناس مهام عمله: "أنا مش مجرد موظف في الوحدة"، فبالأساس يتتبع الأمراض المعدية البالغ عددها 40 مرضًا مثل: "الدرن، الحصبة، التيتانوس، السعال الديكي، والجمرة الخبيثة"، قبل أن يُضاف لها فيروس "كورونا"، فضلًا عن مراقبة الأغذية وصحة البيئة والتثقيف الصحي "دورنا كبير في كل الأزمات".
فيديو قد يعجبك: