"إسرائيل وضيوف نيرون".. ننشر النص الكامل لكلمة الصحفي كريس هيدجيز بعد فوزه بجائزة توفيق دياب الكبرى
-
عرض 4 صورة
-
عرض 4 صورة
-
عرض 4 صورة
-
عرض 4 صورة
كتب- محمد شاكر:
أعلن الكاتب الكبير محمد سلماوي، رئيس مجلس إدارة جريدة "المصري اليوم"، فوزَ الكاتب الصحفي الأمريكي الكبير كريس هيدجيز، بجائزة توفيق دياب الكبرى، في دورتها الأولى؛ وقيمتها نصف مليون جنيه.
وكتب الصحفي الأمريكي كريس هيدجيز، في هذا الصدد، كلمةً أطلقها من القاهرة؛ بعنوان "إسرائيل وضيوف نيرون"، جاء نصها كالتالي:
"لقد سُممت إسرائيل بهوسها بفكرة الحرب الدائمة، وباتت مُفلسةً أخلاقيًّا بسبب تكريسها مبدأ الضحية الذي تستخدمه لتبرير احتلالها الذي يُعد أكثر وحشيةً من الاحتلال الذي كان يمارسه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
وقد تم اختطاف الديمقراطية الإسرائيلية، التي كانت مخصصة دائمًا لليهود وحدهم من قِبل المتطرفين الذين يدفعون البلاد نحو الفاشية، إذ يتعرض نشطاء حقوق الإنسان والمثقفون والصحفيون من الجانبَين الإسرائيلي والفلسطيني، للمراقبة المستمرة من الدولة والاعتقالات التعسفية، وحملات التشهير التي تديرها الحكومة.
كما أن نظامها التعليمي، الذي يبدأ من المدارس الابتدائية، يعد بمثابة آلة تلقين تابعة للجيش، فضلًا عن أن جشع وفساد النخبة السياسية والاقتصادية المرتشية أدى إلى خلق فوارق هائلة في الدخل، وهو ما يعكس تراجع الديمقراطية الأمريكية أيضًا، إلى جانب ثقافة العنصرية المناهضة للعرب والسود.
وبحلول الوقت الذي ستحقق فيه إسرائيل تدميرها الكامل لقطاع غزة؛ إذ إنها تتحدث عن أشهر أخرى من الحرب التي ستستمر على الأقل حتى نهاية هذا العام، ستكون قد وقعت على حكم الإعدام الخاص بها، كما أن الصورة التي تظهرها عن نفسها باعتبارها دولة تلتزم بالأخلاق، واحترامها المزعوم لحكم القانون والديمقراطية، وروايتها الأسطورية عن الجيش الإسرائيلي الشجاع، والميلاد المعجزة للأمة اليهودية، وهي الرواية التي استطاعت بيعها بنجاح لجماهيرها الغربية، ستسقط على أكوام من الرماد وستتم خسارة رأس المال الاجتماعي الإسرائيلي، فضلًا عن الكشف عن نظام الفصل العنصري القبيح والقمعي المليء بالكراهية الذي كانت تل أبيب عليه دائمًا؛ مما سيؤدي إلى تنفير الأجيال الشابة من اليهود الأمريكيين.
أما بالنسبة إلى راعيتها، الولايات المتحدة، فإنه مع وصول الأجيال الجديدة إلى السلطة، فإنها ستنأى بنفسها عن إسرائيل، وسيأتي دعمها الشعبي من الصهاينة الرجعيين والفاشيين المسيحيين من الأمريكيين الذين يرون في هيمنة إسرائيل على الأراضي التوراتية القديمة نذيرًا بالمجيء الثاني (المسيح)، وفي إخضاعها للعرب عنصرية شبيهة بتلك الموجودة لديهم، وتعزيز للتفوق الأبيض.
وستصبح إسرائيل مرتبطة بضحاياها مثلما فعل الألمان مع الناميبيين، ولاحقًا مع اليهود والصرب مع البوشناق، وجيش میانمار مع الروهينجا، والهوتو مع التونسي كما ستتم إبادة الحياة الثقافية والفنية والصحفية والفكرية في إسرائيل وستصبح دولة راكدة يقوم فيها المتعصبون الدينيون والمتطرفون اليهود الذين استولوا على السلطة، بالهيمنة على الخطاب العام، وستنضم إلى نادي الأنظمة الأكثر استبدادًا في العالم؛ صحيح أنه يمكن للاستبداد أن يوجد لفترة طويلة، لكنه ينتهي في نهاية المطاف، وليس من الضروري أن تكون متعمقًا الكتب المقدسة لترى أن شهوة إسرائيل لرؤية أنهار الدم تتعارض مع القيم الأساسية لليهودية.
كما أن استخدام المحرقة كسلاح؛ بما في ذلك وصف الفلسطينيين بالنازيين، ليس له فاعلية تذكر في الوقت الذي يقومون فيه بتنفيذ إبادة جماعية تبث على الهواء مباشرةً ضد ۲,۳ مليون شخص محاصرين في معسكر اعتقال.
فالأمم تحتاج إلى ما هو أكثر من القوة من أجل البقاء؛ إذ إنها تكون بحاجة إلى مجموعة من المبادئ السامية، والتي توفر لها الهدف وتلهم المواطنين للتضحية من أجل هذه الأمة، كما أنها تمنحها الأمل في المستقبل، وكذلك معنى الوجود، والهوية الوطنية.
لكن عندما تتلاشى هذه المبادئ، وتنكشف باعتبارها مجرد أكاذيب، فإن الأساس المركزي لسلطة الدولة ينهار، وقد كتبت عن وفاة الشيوعيين عام ۱۹۸۹ خلال الثورات في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا، حينما قررت الشرطة والجيش أنه لم يعد هناك ما يمكن الدفاع عنه، وأرى أن تراجع إسرائيل سيؤدي إلى توليد نفس التراخي واللا مبالاة، كما أنها لن تكون قادرة على تجنيد متعاونين من السكان الأصليين لتنفيذ أوامر المستعمرين.
فإسرائيل لم تترك سوى تصعيد الوحشية، بما في ذلك التعذيب والعنف المميت ضد المدنيين العزل، وهو ما سيؤدي إلى تسريع انحدارها، وصحيح أن هذا العنف الشامل عادة ما ينجح على المدى القصير، كما حدث في الحرب التي شنها الفرنسيون في الجزائر، والحرب القذرة التي شنتها الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين والاحتلال البريطاني للهند ومصر وكينيا وأيرلندا الشمالية، والاحتلال الأمريكي لفيتنام والعراق وأفغانستان؛ ولكنه يعد انتحاريًّا على المدى الطويل. فقد حولت الإبادة الجماعية في غزة مقاتلي المقاومة في حركة حماس إلى أبطال في الجنوب العالمي، وصحيح أن إسرائيل قد تقضي على قيادة الحركة؛ لكن الاغتيالات الماضية والحالية لعشرات القادة الفلسطينيين لم تفعل الكثير لتخفيف حدة المقاومة، بل إن الإبادة الجماعية في غزة أدت إلى صعود جيل جديد من الشباب والشابات الغاضبين والمصابين بصدمات نفسية عميقة، والذين قُتلت عائلاتهم وتم محو مجتمعاتهم، وهؤلاء باتوا على استعداد ليحلوا محل القادة الشهداء. وقد كانت إسرائيل في حالة حرب مع نفسها قبل السابع من أكتوبر؛ إذ كان الإسرائيليون يتظاهرون لمنع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من إلغاء استقلال القضاء، كما شنَّ المتطرفون والمتعصبون الدينيون، الموجودون في السلطة حاليًّا، هجومًا شديدًا على العلمانية الإسرائيلية، وأرى أن وحدة إسرائيل تبدو كوحدة سلبية، إذ إن ما يجمعهم معا هو الكراهية، حتى إن هذه الكراهية لم تكن كافية لمنع المتظاهرين من التنديد بتخلي الحكومة عن الرهائن الإسرائيليين في غزة. لكن الكراهية تُعد سلعة سياسية خطيرة، إذ إنه عندما يتم التخلص من "الحيوانات البشرية" الفلسطينية، أو إخضاعها، فإنه سيتم استبدالها بالمارقين والخونة من اليهود، كما أن سياسة الكراهية تخلق حالة من عدم الاستقرار الدائم، والتي يستغلها أولئك الذين يسعون إلى تدمير المجتمع المدني.
وكانت إسرائيل قد قطعت شوطًا طويلًا على هذا الطريق في ٧ أكتوبر عندما أصدرت سلسلة من القوانين التمييزية ضد غير اليهود والتي تشبه قوانين نورمبرج العنصرية التي حرمت اليهود من حقوقهم في ألمانيا النازية، إذ يسمح قانون القبول في المجتمعات المحلية للمستوطنات اليهودية حصرًا بمنع المتقدمين للحصول على الإقامة على أساس "الملاءمة للنظرة الأساسية للمجتمع".
وقد حذر يشعياهو ليبوفيتش، الذي أطلق عليه أشعيا برلين لقب "ضمير" إسرائيل"، من أنه إذا لم تفصل إسرائيل بين الدين والدولة وتنهي الاحتلال، فإن ذلك سيؤدي إلى ظهور حاخامية فاسدة ستشوه اليهودية وتحولها إلى طائفة فاشية.
وكتب ليبوفيتش، الذي توفي عام ۱۹۹٤: (إن القومية الدينية بالنسبة للدين تشبه الاشتراكية القومية بالنسبة للاشتراكية)، فقد أدرك أن التبجيل الأعمى للجيش، وخاصةً بعد حرب عام ١٩٦٧ التي تم فيها الاستيلاء على الضفة الغربية والقدس الشرقية، كان خطيرًا، وحذر قائلًا (وضعنا سيتدهور لتصبح فيتنام ثانية، وسنتجه إلى حرب ستظل في تصعيد مستمر دون احتمال التوصل إلى حل نهائي).
وتوقع ليبوفيتش أن (العرب سيكونون هم العاملين واليهود سيكونون الإداريين والمفتشين والمسؤولين والشرطة وتحديدًا الشرطة السرية)، وتابع: (الدولة التي تحكم شعبًا مُعاديًا يتراوح عدده بين ١,٥ مليون إلى مليوني أجنبي ستتحول بالضرورة إلى دولة بوليسية سرية، مع كل ما يعنيه ذلك بالنسبة للتعليم وحرية التعبير والمؤسسات الديمقراطية، كما أن سمة الفساد التي تتميز بها كل الأنظمة الاستعمارية ستسود أيضًا في دولة إسرائيل، وسيكون على الإدارة قمع التمرد العربي من ناحية وتجنيد الخونة منهم من ناحية أخرى، كما أن هناك أيضًا سببًا وجيهًا للخوف من تدهور الجيش الإسرائيلي نتيجة لتحوله إلى جيش احتلال، ومن أن يصبح قادته الذين سيصبحون حكامًا عسكريين، أشبه بزملائهم في الدول الأخرى).
وكتب أن (إسرائيل حينها لن تستحق الوجود وأن يكون من المفيد الحفاظ عليها). وعادة ما تقوم الدول الاستعمارية الاستيطانية، بما في ذلك الولايات المتحدة، بإبادة السكان الأصليين من خلال الإبادات الجماعية ونشر الأمراض المعدية الجديدة مثل الجدري، وبحلول عام ١٦٠٠، لم يبق سوى أقل من عشر السكان الأصليين في أمريكا الجنوبية والوسطى والشمالية، ولكن إسرائيل لا يمكنها أن تقتل بهذا النطاق، حيث يعيش ما يقرب من ٥,٥ مليون فلسطيني تحت الاحتلال وتسعة ملايين آخرون في الشتات، ولذا فهي لا تستطيع القضاء عليهم جميعًا، كما يرغب العديد من الإسرائيليين.
لكن حملة الأرض المحروقة التي تشنها إسرائيل في غزة تعني أنه لن يكون هناك حل الدولتين، كما أن الفصل العنصري والإبادة الجماعية هما ما سيحددان وجود الفلسطينيين، وهو ما ينذر بصراع طويل لا تستطيع الدولة اليهودية أن تنتصر فيه في نهاية المطاف.
ويطلب الإسرائيليون من الفلسطينيين الهروب للنجاة وإنقاذ حياتهم؛ إذ يطلبون منهم الهروب من رفح كما هربوا من مدينة غزة وجباليا ودير البلح وبيت حانون وبني سهيلا وخان يونس، يقولون اهربوا وإلا سنقوم بقتلكم، وسنسقط قنابل GBU على خيامكم ونشعل فيها النيران، وسنقوم بنشر الرصاص فوقكم من خلال طائراتنا بدون طيار المجهزة بمدافع رشاشة، وسنقصفكم بقذائف المدفعية والدبابات، وسنقوم بإسقاطكم بالقناصين وستدمر خيامكم ومخيمات اللاجئين الخاصة بكم، ومدتكم وبلداتكم، وبيوتكم ، ومدارسكم، ومستشفياتكم، ومحطات تنقية المياه الخاصة بكم، وستمطر الموت من السماء.
ويكررون اهربوا من أجل الحفاظ على حياتكم، واجمعوا متعلقاتكم القليلة المتبقية من البطانيات والأواني البسيطة، وبعض الملابس، فلا يهمنا مدى شعوركم بالتعب، أو بالجوع، أو بالرعب، أو مدى مرضكم، أو مدى كبر أو صغر عمركم، اهربوا اهربوا اهربوا، وعندما تركضون وأنتم مرعوبون إلى إحدى مناطق غزة، فسنجعلكم تهربون إلى منطقة أخرى من جديد، وستظلون عالقين في متاهة الموت هذه، ذهابًا وإيابًا للأمام وللخلف، ٦ أو ٧ أو ۸ مرات، فنحن نلعب معكم مثل الفئران في المصيدة، ثم سنقوم بترحيلكم حتى لا تتمكنوا من العودة أبدًا، أو أننا سنقتلكم.
دعوا العالم يدين الإبادة الجماعية التي ترتكبها، ما الذي يهمنا؟ فالمليارات من المساعدات العسكرية تتدفق دون رادع من حليفنا الأمريكي، وكذلك الطائرات المقاتلة وقذائف المدفعية والدبابات والقنابل، فالإمدادات لا نهاية لها، ونحن نقتل الأطفال بالآلاف، ونقتل النساء وكبار السن، بالآلاف ويموت المرضى والجرحى بسبب عدم وجود الأدوية والمستشفيات، كما أننا نقوم بتسميم المياه، ونمنع وصول الطعام، ونجعلكم تتضورون جوعًا، فنحن من خلقنا هذا الجحيم، ونحن السادة، أما القانون والواجب ومدونات السلوك فهي أشياء ليست موجودة من أجلنا. نحن نلعب معكم، ونقوم بإذلالكم، وترهيبكم، ونستمتع بخوفكم، وبمحاولاتكم المثيرة للشفقة للبقاء على قيد الحياة، فأنتم لستم بشرًا، بل مجرد مخلوقات أو نترمينش مصطلح نازي يشير إلى الأشخاص الأقل شأنًا ونحن نقوم بتغذية شهوتنا للهيمنة، انظروا إلى منشوراتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، فهي تنتشر بشكل كبير للغاية، والتي يُظهر أحدها جنودًا يضحكون في منزل فلسطيني بينما أصحابه مقيدون ومعصوبو الأعين في الخلفية، فنحن نقوم بنهب السجاد ومستحضرات التجميل والدراجات النارية والمجوهرات والساعات والأموال والذهب والتحف القديمة، ونسخر من مأساتكم، ونحتفل بموتكم، ونعزز ديننا وأمتنا وهويتنا وتفوقنا من خلال إلغاء هويتكم ومحوها. نحن نرى أن الفساد يعد شيئًا أخلاقيًّا، وارتكاب الفظائع أمرًا بطوليًّا، والإبادة الجماعية هي الخلاص. فهذه هي لعبة الإرهاب التي تلعبها إسرائيل في غزة، وقد كانت هذه هي اللعبة التي تم لعبها أيضًا خلال الحرب القذرة في الأرجنتين عندما أخفى المجلس العسكري ٣٠ ألفًا من مواطنيه، وقد تعرَّض هؤلاء (المختفون) للتعذيب والإذلال قبل أن يتم قتلهم، هل هناك من لا يصف ما يحدث للفلسطينيين في غزة بأنه تعذيب؟ وكانت هذه هي اللعبة التي تُمارس في مراكز التعذيب والسجون السرية في السلفادور والعراق، كما أنها كانت سمة مميزة داخل معسكرات الاعتقال الصربية في الحرب في البوسنة. وقد صرح الصحفي الإسرائيلي ينون ماجال، في برنامج "هباتريوتيم" على القناة ١٤ الإسرائيلية مازحًا بأن الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس الأمريكي جو بايدن هو قتل ۳۰ ألف فلسطيني، وحينها سأل المغني كوبي بيرتس إذا كان هذا هو عدد القتلى خلال يوم واحد فقط، وبعدها ضحك الجمهور وقاموا بالتصفيق الحاد.
نحن نعرف نوايا إسرائيل، التي تتمثل في إبادة الفلسطينيين بنفس الطريقة التي أبادت بها الولايات المتحدة السكان الأمريكيين الأصليين، وكما أباد الأستراليون السكان الأوائل هناك أيضًا، وأباد الألمان الهيريرو في ناميبيا، وأباد النازيون اليهود، فصحيح أن التفاصيل مختلفة، ولكن الهدف هو نفسه محو وجودهم.
ونحن لا يمكننا أن ندَّعي الجهل، ولكن من الأسهل علينا التظاهر، التظاهر بأن إسرائيل ستسمح بدخول المساعدات الإنسانية، وبأنه سيكون هناك وقف دائم لإطلاق النار، وبأن الفلسطينيين سيعودون إلى منازلهم المدمرة في غزة، وبأنه ستتم إعادة إعمار القطاع بما في ذلك المستشفيات والجامعات والمساجد والمنازل، وبأن السلطة الفلسطينية ستدير غزة، وبأنه سيكون هناك حل الدولتين، وبعدم وجود إبادة جماعية.
إن القيم الديمقراطية والأخلاق واحترام حقوق الإنسان التي تدعيها إسرائيل والولايات المتحدة كانت دائمًا مجرد كذبة؛ ولكن عقيدتهما الحقيقية هي أن كل شيء يعود لنا، وإذا قمت بمحاولة أخذ ذلك منا فإننا سنقتلك، أما بالنسبة إلى الأشخاص الملونين، خاصةً الفقراء والفئات المستضعفة منهم، فإنهم غير مهمين، كما أن آمال وأحلام وكرامة وتطلعات من هم خارج الإمبراطورية إلى الحرية فهي لا قيمة لها، وأنه سيتم الحفاظ على الهيمنة العالمية من خلال العنف العنصري.
وتلك الكذبة، القائلة إن الإمبراطورية الأمريكية مبنية على الديمقراطية والحرية، فهي كذبة يعرفها الفلسطينيون، وأولئك الذين يعيشون في الجنوب العالمي، وكذلك الأمريكيون الأصليون والأمريكيون من ذوى البشرة السوداء والبنية، ناهيك بأولئك الذين يعيشون في الشرق الأوسط، منذ عقود، لكنها كذبة لا تزال تحظى بشعبية في الولايات المتحدة وإسرائيل، وتستخدم لتبرير كل ما هو غير مُبَرَّر.
ونحن لا نوقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل لأننا كأمريكيين، مصابون مثلها بنفس التفوق الأبيض، وبهيمنتنا على ثروات العالم، وبقدرتنا على محو الآخرين بأسلحتنا المتقدمة. لكن العالم الموجود خارج الحصون الصناعية في الشمال العالمي يدرك تمامًا أن مصير الفلسطينيين هو مصيرهم أيضًا، وفي الوقت الذي تهدد فيه قضية تغير المناخ البقاء على قيد الحياة، ومع تضاؤل الموارد الطبيعية، بما في ذلك الوصول إلى المياه، ومع تحول الهجرة الجماعية إلى ضرورة حتمية للملايين، ومع انخفاض المحاصيل الزراعية، ومع غمر المناطق الساحلية بالفيضانات وانتشار الجفاف وحرائق الغابات ومع فشل الدول، وصعود الميليشيات وحركات المقاومة المسلحة لمحاربة مضطهديها جنبًا إلى جنب مع وكلائها، فإن الإبادة الجماعية لن تبدو وكأنها أمر شاذ، بل ستكون هي القاعدة. إن المستضعفين والفقراء في الأرض، أولئك الذين وصفهم فرانتز فانون بـ"معذبي الأرض"، سيكونون هم الفلسطينيين القادمين.
وقد كتب المؤرخ الروماني تاسيتُس عن أولئك الذين استهدفهم الإمبراطور نيرون بالتعذيب والموت قائلًا: "لقد أضيفت كل أشكال الاستهزاء إلى قتلهم، إذ تمت تغطيتهم بجلود الوحوش، وتمزيقهم من قبل الكلاب وتثبيتهم بمسامير على الصلبان، أو أنه كان يُحكم عليهم بالنار ويتم حرقهم لاستخدامهم كإضاءة ليلية، عندما ينقضي ضوء النهار".
وتعد السادية التي يمارسها الأقوياء بمثابة لعنة بالنسبة للبشر، وقد كانت منتشرة في روما القديمة كما هي سائدة في غزة الآن، على بعد ۲۰۰ ميل إلى الشمال.
ونحن نعرف الوجه الحديث لنيرون، الذي أضاء حفلات حديقته الفخمة من خلال إحراق الأسرى المقيدين حتى الموت، وهو أمر لا يعد محل نزاع، لكن من كانوا ضيوفه في هذه الحفلات؟ من هم الذين كانوا يتجولون في أراضي الإمبراطور بينما كان يحرق البشر أحياء، كما جرى في رفح؟ وكيف تمكن هؤلاء الضيوف من أن يروا، ولا شك يسمعوا، مثل هذه المعاناة الرهيبة ويشهدوا مثل هذا التعذيب المروع وأن يكونوا غير مبالين، بل وحتى راضين؟ ولا يوجد شيء مخفي في هذه الإبادة الجماعية (في غزة)، فقد قتل أكثر من ١٤٧ صحفيًّا فلسطينيًّا شجاعًا على يد الإسرائيليين؛ لأنهم نقلوا صور وقصص هذه المذبحة إلى العالم، فقد استشهدوا من أجل شعبهم ومن أجلنا.
ونحن ضيوف نيرون، فلطالما تعرض الفلسطينيون للخيانة، ليس من قبلنا في الشمال العالمي فحسب، ولكن من قبل معظم الحكومات في العالم الإسلامي أيضًا، فنحن نقف سلبيين في مواجهة الجريمة الأكبر، وصحيح أن التاريخ سيحكم على إسرائيل بسبب هذه الإبادة الجماعية، لكنه سيحكم علينا أيضًا؛ إذ سيتساءل: لماذا لم نفعل المزيد؟ ولماذا لم نمزق كل المعاهدات، وكل الصفقات التجارية وكل الاتفاقات وكل التعاون مع دولة الفصل العنصري؟ ولماذا لم نوقف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل؟ ولماذا لم نستدع سفراءنا؟ ولماذا لم نفعل كل ما في وسعنا لإنهاء المذبحة؟ وسيقوم التاريخ بإدانتنا لأننا لم ننتبه إلى الدرس الأساسي المُستفاد من المحرقة، وهو ليس أن اليهود يظلون ضحايا أبديين؛ ولكن هو أنه عندما تكون لديك القدرة على وقف الإبادة الجماعية ولا تفعل ذلك، فإنك تكون مذنبًا.
وكما كتب صموئيل جونسون: "إن عكس الخير" ليس شرًّا، بل عكس الخير هو اللا مبالاة. فالمقاومة الفلسطينية هي مقاومتنا والنضال الفلسطيني من أجل الكرامة والحرية والاستقلال هو نضالنا، والقضية الفلسطينية هي قضيتنا، وذلك لأن أولئك الذين كانوا ضيوفًا عند نيرون سرعان ما أصبحوا ضحاياه بعد ذلك، وهو ما أظهره التاريخ أيضًا".
كريس هيدجيز: الصحفي الأمريكي الكبير، المراسل السابق لصحيفة "نيويورك تايمز" في الشرق الأوسط، والحائز على جائزة "بوليتزر".
اقرأ أيضا
"وطني الوحيد".. جريدة المصري اليوم تكرم مجدي الجلاد رئيس تحريرها الأسبق
فيديو قد يعجبك: