إنه 25 يناير

بقلم - عمار علي حسن :

(1)

حين اشترى ''نتيجة'' عام 2012 علقها على جدار صالة شقته وراح يقلب أوراقها ففوجئ بأن يوم 25 يناير ليس متواجدا. جرى إلى الهاتف والتقط السماعة وطلب رقم صاحب المكتبة التى اشترى منها ''النتيجة'' وتحدث معه فى هذا الشأن، ففوجئ به يقول له: حين راجعت المطبعة فى الأمر قالوا لى وجدنا أن هذا اليوم يساوى آلاف السنين، ولا توجد ورقة يمكن أن تحمله ولا جدار بوسعه أن يستقبله، إنه أعظم من أن يصير مجرد يوم فى سنة، ولذا تركنا مكانه ليتخيله كل منا كيفما شاء، ووفق ما يسع خياله من قدرة، حتى يدرك عظمته ومكانته.

(2)

كثير من الأفكار التى خطتها أناملى على الورق عن الكلمة التى تنتصر على القنبلة، والدم الذى يهزم السيف، والقادمين من الحارات الخلفية حين يرسمون لوحات المجد فى الميادين الفسيحة، رأيتها متجسدة أمامى، بل ما وقع وما جرى تعدى بكثير ما تم خطه وتحديده وتعيينه، لأن ملايين المبدعين هجموا فجأة على غرفة التاريخ التى أوصدها نظام شائخ متداع فغمرها نور ساطع اختزنته الذاكرة المصرية عبر آلاف السنين ودفعته دفقة واحدة فى وجه العمى والظلام والزيف والادعاء. عاش الشعب المصرى العظيم الذى كلما راهنوا على غيابه خذلهم وجاء من كل فج عميق ليحمى ثورته التى أبهرت العالم.

(3)

وأنا متوجه إلى ميدان التحرير صباح يوم 25 يناير أوقفنى صاحب محل ''أدوات صحية'' وسألنى: هل أغلق المحل وأروّح؟ فسألته: لِمَ؟ فأشار بيده إلى المقهى المجاور وقال: هناك مجموعة مخبرين قاعدين على القهوة وقالوا لى ''اقفل وروح عشان القيامة هتقوم''. ولفت انتباهى أنهم منتشرون على كل المقاهى ومداخل الشوارع فى المنطقة، يروعون القلوب ويشوهون الثوار ويعملون كل ما فى وسعهم حتى لا يخرج الناس محتجين. إلى متى تستمر هذه الأساليب الأمنية البالية التى تذكرنا بزمن الحجاج بن يوسف الثقفى والزينى بركات وقراقوش؟ وإلى متى تعتقد السلطة الغبية أن الكذب المتكرر يمكن أن يتحول إلى صدق؟ كانت الإجابة مذهلة، إذ لم تنطل ألاعيبهم الرخيصة وأكاذيبهم الساذجة على المصريين فنزلوا بالملايين وزلزلوا كل جبار عنيد بليد، وردعوا كل من تسول له نفسه أن يسرق الثورة أو يفرغها من مضمونها أو يحولها إلى مسارها الساعى بقوة الشعب إلى العدل والكفاية والحرية.

(4)

إذا كانت النخبة تقدم ''الرؤية''، والبرلمانيون هم أصحاب ''الشرعية الدستورية''، فالأيام الحالية تثبت أن الشعب هو صاحب ''القدرة''، فضلا عن كونه الحائز على الحق الأصلى للشرعية من المنبع، دون أن يفتقد الرؤية أيضاً لأنه كان ويكون وسيكون دوما، ''الشعب المعلم''.

(5)

حين قال الدكتور سعد الكتاتنى، رئيس مجلس الشعب، فى كلمته الافتتاحية ''الثورة مستمرة'' تناهى إلى سمعى هتاف الملايين: ''عاشت كل ميادين التحرير''، وبقى على البرلمان أن يترجم أقواله إلى أفعال.

(6)

كان المخلوع مبارك يقول لأتباعه رداً على الانتقادات اللاذعة التى توجه لنظامه: دع الكلاب تعوى. وأثبتت الأيام أن مصر ليس فيها كلاب بل أسود تزأر، فتهتز عروش، وترتعد فرائص، وتتهدل شوارب على الشفاه، ويهرب ذئاب المال والعرض كالفئران، ويصبح الصخر الصوان رملاً ناعماً أمام الأقدام الزاحفة إلى الخلاص والأيادى المقبضة التى تدق الهواء وهى تهتف: الشعب يريد إسقاط النظام.

(7)

نزلت إلى السوق مع زوجتى لأقف على حال الناس، فى منتصفها وجدت رجلاً عجوزاً يرتدى لبساً بسيطاً جداً، وأمامه كومة من ''الأراجوزات'' يبيع الواحد بجنيه، قلت له: هات خمسة عاوز أشجع الصناعة المحلية، فضحك وبانت أسنانه المتآكلة وقال: بعد الثورة بطلوا يستوردوا الصينى، وهانشتغل تانى، حاجات كتير كانت وقفت اشتغلت من جديد، والأيام الجاية هتكون أحلى ومصر هتبقى أحلى''. ووجدت نفسى أقبل رأسه، وبعض دموعى يتساقط على شعره الأبيض.

(8)

وقفت على إحدى عربات الفول لأتناول إفطارى، فسمعت أظرف تعليق على الثورة من رجل بدين كان يلتهم لقيماته وكأنه يأكل آخر زاده، حيث قال: المشكلة فى ثورتنا إنها كانت بالزيت الحلو ومن غير شطة كمان، لو كانت بالزيت الحار كان أمرها اختلف.

(9)

لن يتحقق الأمن إلا حين يشعر الناس بالعدل وتغمرهم الكفاية وترفرف على رؤوسهم أجنحة الحرية. لو كان البطش نافعاً لأنقذ المخلوع وتابعه العادلى، الذى ليس له أى نصيب من اسمه.

وزير خارجية تونس يقول: العالم العربى بخير طالما مصر بخير. هذا كلام حقيقى وصائب ويضع علينا مسؤولية إنجاز دولة العدل والحرية والكفاية، وهذا لن يتحقق إلا بعد أن تكتمل ثورتنا السلمية، لأننا لا نملك وسيلة غيرها الآن لنبنى الدولة التى ينتظرها من يحسنون الظن بنا. ولا أبالغ حين أقول إن العالم بأسره يترقب ما سينجزه المصريون بإذن الله تعالى.

حين تطلق 6 أبريل، التى اتهموها بالعمالة والسعى إلى التخريب، حملة ''حافظوا على الجيش''، فلا مجال لأحد كى يزايد على الثوار ويصدر البيانات والتصريحات التى تحاول أن توهم الشعب بأن النازلين يوم 25 هم مجموعة جانحة هادفة إلى التدمير. ولنعد بالذاكرة إلى حملة التخويف والتحذير التى سبقت جمعتى 27 مايو و9 سبتمبر، ومع هذا مرت هاتان الجمعتان بسلام، ولندقق فى كل حوادث العنف سنجد أنها مفتعلة وكانت فى إطار خطة ''شيطنة الثورة''. فى كل الأحوال لا خروج على سلمية الثورة مهما كان، وفى النهاية نحن شعب أعزل، وعلى من يمتلك السلاح والمال والنفوذ والقرار أن يساعد الثوار على نهجهم السلمى هذا على الدوام.

اقرأ ايضا:

رسائل إلى أعضاء مجلس الشعب (1- 3)