لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الثورة على ''لا نظام''

الثورة على ''لا نظام''

08:39 م الخميس 25 أكتوبر 2012

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - عمرو الشوبكى:

قد يكون أهم ما ميز تجربة الثورة المصرية مقارنة بتجارب تغيير أخرى أنها واجهت ''نظاما'' هو أقرب إلى الـ''لا نظام''، فعلى خلاف تجارب أخرى فى أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية كان هناك نظام قوى وتسلطى وشمولى، وكان تغييره أصعب، لكن بناءه للجديد كان أسهل من الحالة المصرية لأنه ارتكن على مؤسسات نظام كانت المهمة الوحيدة''دمقرطتها'' وليس بناءها من جديد.

والمؤكد أن أحد العوامل الرئيسية وراء الانتصار السهل للثورة المصرية يكمن فى ضعف وهشاشة نظام مبارك، خاصة بعد حالة التجريف الشاملة التى فرضها على البلاد ٣٠ عاماً، وربما من حسن حظ الثورة المصرية أن كل قيادات نظام مبارك بمن فيهم قادة المؤسسة الوحيدة المتماسكة (الجيش) كانوا قد تجاوزا سن السبعين وبقوا جميعهم فى أماكنهم مرؤوسين لمبارك ٢٠ عاما مما جعل شرعيتهم فى الشارع محدودة وقدرتهم على المبادرة معدومة،

وهو أمر مستحيل أن تجده فى تجربة أخرى فى العالم، فديكتاتوريات أمريكا اللاتينية العسكرية الأكثر قسوة - بما لا يقارن - من نظام مبارك عرفت أنظمة قوية فيها قيادات صف ثان وثالث دعمت بقاءها حتى النهاية وتفاوضت بشراسة مع النظام الجديد، وأسست لأحزاب يمينية ارتدت رداء ليبرالياً ووصل بعضها للحكم، كما أن تجارب أوروبا الشرقية أو إسبانيا فى عهد فرانكو، والتى بدأت التحول نحو الديمقراطية فى منتصف السبعينيات - كانت فى وضع شبيه بمصر فى الستينيات، أى هناك نظام سلطوى ودولة قوية بها مؤسسات تعمل، وتعليم جيد، وصحة معقولة، وجهاز إدارى فيه حد أدنى من الكفاءة، ودولة مليئة بالأسماء اللامعة والكفاءات القادرة على أن تقود البلاد نحو نظام جديد.

إن الـ''لا نظام'' فى عهد مبارك يمثل استثناء مما عرفته مصر منذ تأسيس محمد على الدولة الوطنية الحديثة، صحيح أن الجميع لم يتركوا لنا إرثاً ديمقراطياً حقيقياً لا فى العهد الملكى رغم ليبراليته النسبية، ولا فى العهد الناصرى رغم ثوريته، إنما عرفنا عند الجميع مؤسسات دولة تعمل بكفاءة ولو نسبية، وقانوناً يطبق فى كل المجالات إلا ربما المجال السياسى.

إن الـ''لا نظام'' فى عهد مبارك كان أقل استبداداً من النظام التونسى أو الليبى أو السورى، وتجلت ''خيبته'' فى إضعاف الدولة وتخريبها فى التعليم والصحة والإعلام والأمن والمواصلات والزراعة والصناعة، بحيث من المستحيل أن يحدث إصلاح حقيقى دون أن تنتقل مصر من حالة الـ''لا نظام'' إلى النظام.

ففى النظم الاستبدادية القوية والشرسة وجدنا الثمن الذى تدفعه الشعوب من أجل أن تتخلص منها، ويكفى مشهد واحد من مشاهد القتل اليومى فى سوريا لنكتشف كيف نجت مصر من مصير كارثى لم تكن ستقوم منه لو انحاز الجيش أو قسم منه بشكل سافر للنظام القائم، وهو أمر كان وارداً أن يحدث لو تعرضت البلاد لموقف مشابه لثورة ٢٥ يناير فى ظل نظام السادات مثلا على عكس الـ''لا نظام'' فى عهد مبارك، حيث كان الانحياز له يعنى الانحياز لشخص بلا نظام وبلا مشروع ولا حتى رغبة فى التواصل مع شعبه.

إن تحديات الثورة على الـ''لا نظام'' تعنى فى الحقيقة التخطيط لبناء نظام ووضع قواعد دستورية وقانونية جديدة وبناء منظومة سياسية وإدارية جديدة.

معضلة مصر أن البعض استغل حالة الـ''لا نظام'' التى تركها مبارك ودخل فى معارك وهمية بناء على تصورات متخيلة لمؤامرات المجلس العسكرى الذى يخطط للبقاء فى السلطة - ''ليتهم متآمرون''، عنوان مقال سابق فى ''المصرى اليوم''، وعاش البعض ١٧ شهرا من البطولات الوهمية، هى عمر إدارة المجلس العسكرى لشؤون البلاد، مرددا نظريات المؤامرة التى ترتبها الأجهزة، وسمعنا بعض من يقول إن هناك استحالة أن يلقى قادة القوات المسلحة التحية العسكرية لرئيس مدنى، وأنهم متآمرون سيخطفون السلطة إما عنوة أو عن طريق مرشح رئاسى سرى مثل عمر سليمان، وبعد استبعاده، لأسباب قانونية، تحول أحمد شفيق لمرشح المجلس العسكرى الوهمى.

المؤكد أن المجلس العسكرى ارتكب أخطاء جسيمة لكنها أخطاء تمثل عكس ما تصوره الكثيرون عنه، فهو مجلس غير سياسى ورث ''لا نظام''، وبصورة جعلته ضعيفاً وعاجزاً عن اتخاذ أى قرار يؤسس لأى نظام من أى نوع.

وجاءت الحكومة التى اختارها رئيس من الإخوان المسلمين لتحاول هى الأخرى وضع نظام لإغلاق المحال فى العاشرة مساء مثل كل بلاد العالم بلا استثناء، فقوبل بالرفض من تيار الـ''لا نظام'' الذى ورثناه عن مبارك، ودخلت المزايدات السياسية طرفا وترددت الحكومة فى اتخاذ هذا القرار وارتعشت يداها واختارت المواءمات تماما كما كان يفعل مبارك.

إن الـ''لا نظام'' هو المسؤول الأساسى عن كل مظاهر الفوضى والعشوائية التى تعيشها البلاد ولايزال البعض يذكيها تحت حجج ثورية، فيضرب بأحكام القضاء عرض الحائط - مهما كان الاعتراض عليها - ويدعم إقالة النائب العام بالمخالفة لكل القوانين التى جاءت بمرسى رئيسا ولا يريد أن ينتقل بالبلاد نحو عصر ''النظام'' الديمقراطى الذى يوضع فيه دستور بالتوافق وقوانين تطبق على الجميع بما فيها حق الاحتجاج والتظاهر السلمى.

القادم لن يكون أفضل ما لم نعٍ أننا يجب أن نبنى أولا نظاماً فى مصر، وأن الثورة نجحت بأقل الخسائر المادية والبشرية بسبب ضعف النظام القديم وهشاشته الداخلية - ''لا نظام'' - وأن الجميع مسؤولون إلى الآن عن دعم هذه الحالة، فالمجلس العسكرى سلمها ''مع الشكر'' كما هى مثلما كانت فى العهد السابق للإخوان المسلمين، والأخيرة مازالت تعيش على ثقافة المواءمات أحيانا أو الرغبة فى الهيمنة الكاملة أحياناً أخرى، والمعارضة لايزال كثير منها يعيش على ثقافة الاحتجاج ضد الدولة الضعيفة والأجهزة المترهلة دون أن يبذل جهداً حقيقياً فى بناء البديل.

نعم الدولة المباركية سقطت بفضل الثورة، وبسبب ضعفها وترهلها، ولا بأس أن يطالب البعض بهدم ما تبقى منها عن طريق الفعاليات الثورية على أمل أن يبنى نظاماً جديداً نفياً وطاهراً، والحقيقة أن هذا النظام لن يأتى فقط عبر الاحتجاج، فالمطلوب الآن هو امتلاك مهارة البناء وليس ثقافة التفكيك.

المؤكد أن الغالبية الساحقة من المصريين ترفض خيار سقوط الدولة وانهيارها، ولكن البعض أراد أن يخطف صوتها وإرادتها لصالح حساباته السياسية أو صوته العالى، والحقيقة أن مهمة بناء النظام كما جرى فى كل تجارب التغيير غابت عن الكثيرين، فمصر تكاد تكون هى الدولة الوحيدة فى العالم التى حول فيها البعض طاقة البناء التى أطلقتها الثورة إلى طاقة هدم، والحل أن نعترف بأن الناس ثارت على ''لا نظام''، أى على الفوضى والعشوائية والتسيب والفساد وأنها فى حاجة إلى بناء نظام يواجه كل هذه المظاهر.

إعلان

إعلان

إعلان