إعلان

بدون ذكر أسماء.. ''السر''.. قراءة أولى

بدون ذكر أسماء.. ''السر''.. قراءة أولى

10:04 م الثلاثاء 13 أغسطس 2013

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - صبري سراج:

هل احتوى مسلسل بدون ذكر أسماء على عناصر التشويق المعتادة في القصة؟.. هل جعلك المسلسل تنتظر أحداثه لتعرف ماذا جرى لأبطاله أو لمعرفة سر اللغز؟.. الإجابة دائما هي ''لا''.. إذن لماذا نجح ''بدون ذكر أسماء''.. وما سر عبقريته؟

الإجابة تبدأ عند وحيد حامد ولا تنتهي عنده، فالكاتب الكبير ''اسمه لوحده كفاية''.. اسم وحيد حامد كفيل لأن تتأكد أنك سترى عملا مميزا، فقدم حامد كعادته سيناريو متماسكا إلى أبعد أحد، ورغم أن المسلسل ليس من هذه النوعية التشويقية، ورغم أنه اعتمد على شخصيات معظمها عادية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إلا أن وحيد حامد قدم عملا رصد فيه ببراعة فائقة هذا الانهيار الذي حدث للدولة في حقبة الثمانينات.

قلت سلفا أن الإجابة لا تنتهي عند اسم وحيد حامد، فهنا نشاهد العمل الأول للمخرج تامر محسن، الذي كان اختياره لإخراج المسلسل نقطة فاصلة في الانتقال بـ''ورق وحيد حامد'' من مرحلة التميز إلى مرحلة الإبداع والإبهار.. فهو مخراج يمتلك القرار الذي جعله يقدم بعدا آخر لسيناريو وحيد حامد لا أن يكتف بتنفيذه فقط.

أراد وحيد حامد التوثيق لهذا الانهيار المجتمعي فأتى بمخرج أفلام وثائقية مميز يمتلك حسا دراميا عاليا.. فاستطاعا سويا أن يقدما عملا للتاريخ.. وأراد وحيد حامد أن يؤكد أنه يقدم عملا توثيقيا لحقبة هامة في تاريخ مصر المعاصر وأن شخصيات العمل وأبطاله ما هي إلا أدوات لرصد هذه المرحلة فكان طبيعيا أن يكون اسم العمل ''بدون ذكر أسماء''.. فالبطل هنا هي مرحلة الثمانينات وليست شخصية بعينها أو اسم بذاته.

نجح وحيد حامد كاتبا ومشرفا على الإنتاج وتامر محسن مخرجا في تقديم صورة حقيقية وواقعية للمجتمع المصري في السنوات الأولى من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك.. ونجحا بمساعدة فريق العمل في العودة بك عبر آلة الزمن إلى هذه المرحلة بدء من الفونت المستخدم للكتابة في تترات المسلسل.. هذا الفونت الذي نقل إليك الشعور بأن هناك اهتمام غير عادي بالتفاصيل.. أدق التفاصيل.. فالاهتمام هنا لم يكن فقط بتقديم عمل جيد لكن صناع المسلسل أرادوا أن ينقلوك حرفيا إلى المرحلة الزمنية.. فكادرات التصوير والعدسات المستخدمة وتفاصيل الصورة وعناصرها من ألوان وإضاءة وملابس للأبطال والكومبارس.. وسيارات ومحال وسط البلد، كل ذلك كان يدل على أنك هنا في حقبة الثمانينات.. لم يجرح عينيك لباسا خارج هذا الزمن، ولم تجد مساحة للتندر لأنك شاهدت سيارة حديثة في الكادر.

الاهتمام بالتفاصيل لم يتوقف عند حدود الصورة ولكنه تواصل كذلك في مفردات الحوار الذي اعتنى وحيد حامد به واجتهد لكي يختار مفردات هذا العصر بدقة يحسد عليها.. لا لفظ غريب عن هذه المرحلة تسمعه في حوار شخصيات المسلسل.

موسيقى محمد مدحت جاءت لتصاحبك منذ بداية الرحلة إلى منتهاها.. سبع مقطوعات موسيقية ابتكرها الموسيقار الذي عرفت اسمه لأول مرة من خلال هذا العمل.. جاءت لتؤجج حالة النوستالجيا التي أصابت جيل الثمانيات وتثبت قواعدك عزيزي المشاهد داخل هذه المرحلة الهامة من تاريخ مصر المعاصر.

في قصة وحيد حامد أربعة خيوط درامية رئيسة متوازية ابتكرها الكاتب لتجسد طبقات مجتمع الثمانيات الذي ينهار..

أول الخيوط جاء في حدوتة سطوحي القصاص وولده سعيد.. سطوحي قصاص الحمير الذي جسد دوره باقتدار وبراعة الممثل محمد أبو الوفا.. هذا الرجل المعدم الذي لا قيمة له في قريته سوى لكونه ''حلاق حمير''.. هذا الرجل الذي أراد يأخذ من الدنيا نصيبه وحظه بواسطة ولده الذي اهتم بتعليمه إلى أن تخرج من كلية الهندسة ليصبح ابن القصاص مهندسا.. هنا تصل قصة سطوحي وولده إلى قمة منحنى الصعود حين يعمل القصاص وابنه المهندس مع اللواء مجدي الذي استخدمهما في جمع 10 آلاف حمار من كل أنحاء الجمهورية مقابل عمولة كبيرة في صفقة مشبوهة.. وتبدأ علامات ''النعمة'' في الظهور على سطوحي الذي اشترى أرضا ليشعر بأنه أصبح ''له قيمة'' بين أهل بلده الذين احتقروه طيلة عمره.. ''العز'' المفاجئ الذي ظهر على سطوحي وشغل أهل قريته كان كفيلا بأن يطلب اللواء مجدي منه أن يغادر القرية إلى مكان جديد لا يسأله فيه أحد عن أصله وفصله.. هنا شعر سطوحي بأنه لم يحقق ما سعى إليه طيلة عمره.. شعر بأنها النهاية فمات فوق ''حماره''.

تستمر حدوتة ''القصاص'' في ولده الذي هو امتداده.. يهتم اللواء مجدي بسعيد الشاب الذكي ويستخدمه كواجهة لأعماله التجارية المشبوهة.. يعرف سعيد أن اللواء مجدي يتاجر في السلاح ويقبل أن يستمر.. ثم يزيد طمعه فيخون ''ولّي نعمته''.. وينتهي به الحال بأن أصبح مطلوبا من جهات مشبوهة أصدرت فرمانا بقتله.

الخيط الثاني حمل لنا فساد ما يسمونها بالطبقة الراقية.. تلك الطبقة التي تكونت بعد سياسة الانفتاح الاقتصادي في السبعينات ثم استوطنت وتعفنت في عهد مبارك.. هنا اللواء مجدي ابن عمدة إحدى القرى الذي يعمل لحساب جهة مشبوهة مستغلا نفوذه ومنصبه الكبير في الداخلية.. وهناك الأستاذة نجوى رئيسة تحرير مجلة ''زهرة الربيع'' والتي تستغل مجلتها في ابتزاز أبناء الطبقة الراقية والمشاهير لكسب المال، فهي ''أستاذة'' في الابتزاز واستغلال فضائح تلك الطبقة، والتي انتهى بها الحال مقتولة بيد أحد ضحاياها.

الخيط الثالث جاء حاملا تلك الطبقة ''المستورة''.. التي لم تعد متوسطة منذ بدء تطبيق سياسة الانفتاح.. عم ربيع بائع البسبوسة وأسرته الذين يعيشون مستورين بالكاد في منزل إيجار قديم.. هذا الأب الذي اختار ''المشي جنب الحيط'' لأجل أن يربي عياله بالحلال.. وهذه الأم المصرية التقليدية التي تساعد زوجها على تحمل أعباء الحياة.. وتربي أبناءها على القيم الفضيلة دون أن تعي التغيرات التي تحدث في المجتمع خارج حدود بيتها.. وهذا الابن ''عاطف'' الشاب المتمرد الذي يبحث لنفسه عن مكان ودور في الحياة، والذي يزيد طموحه ويتوحش مع كل مرحلة جديدة في حياته.. فبعد أن كان أقصى طموح له أن يرافق مدرب ولاعبي الفريق الذي يشجعه ولو بالعمل كجامع للكرات.. هو نفسه الذي تحول إلى صحفي أستاذ في الابتزاز كمعلمته ''نجوى''.. وهذه الإبنة الكبري التي كاد قطار الزواج أن يفوتها فارتضت الزواج من فني تكييف غليظ الطباع يعاملها بقسوة وحيوانية حتى لا تصبح عزباء أو مطلقة.. تسافر مع زوجها للسعودية ويعودان بعد أن ''تخلجنا'' فأصبح زوجها ''الشيخ معتمد'' وأصبحت هي زوجة الشيخ.. في هذا الخيط نرى الإبنة الصغرى البريئة التي تحارب للحفاظ على براءتها ونقاءها الإنساني.. تتحمل الضغوط وترفض الإغراءات.. لكن المجتمع لا يرحم.. تتزوج من شيخ سعودي وترثه لتعود إلى حبيبها - إلى نقاءها وإنسانيتها المسلوبة.

الخيط الرابع كان لأولاد الشوارع.. فنرى ''النعجة'' التي تمتلك مخزنا كبيرا تجعله مأوى للشحاذين والباعة السريحة، ونرى رجب الفرخ البلطجي الذي يحمل بداخله جينات إنسان حقيقي، والذي تتزوجه النعجة رغم فارق العمر الكبير بينهما فقط من أجل تورثه تركتها فيموت هو قبلها.. ونرى ''مبسوطة'' بائعة الفل والهوى التي تسوقها الأقدار للتعرف على ''نعناعة'' الراقصة درجة ثالثة، التي تستبشر بها وتأخذها للعمل والعيش معها.. فتبدأ رحلة صعودها من مساعدة لراقصة درجة ثالثة لتصبح نجمة استعراض ثم نجمة سينما وسيدة من سيدات مجتمع الصفوة - إنها حقا مبسوطة.

المسلسل رصد لنهايات لشخصيات اختارات أن تسلك طريقا لا نهاية له سوى الانهيار.. وترك شخصيات أخرى جعلك تتوقع أنت كيف ستنهار وتنتهي.

في بدون ذكر أسماء قدم وحيد حامد دراما راقية مليئة بالإنسانية ومفعمة بالمشاعر الصادقة.. وكذلك قدم توثيقا حقيقيا لمرحلة الثمانينات بكل أوجهها.. الصورة.. الملابس.. تفاصيل الحياة.. مفردات اللغة.. تكوين المجتمع وما شابه من فساد.. وكل شيء.

الممثلون:

قدم أحمد الفيشاوي شخصية عاطف ربيع بحس ووعي شديدين.. وعرف الفيشاوي كعادته كيف يختار طبقة الصوت وأسلوب الشخصية التي يتقمصها.. فجاء أداءه صادقا في كل مراحل الشخصية.

عبد العزيز مخيون ''عم ربيع'' من نوعية الممثلين الذين لهم تأثير الملح على الطعام.. فلا يستقيم الطعم سوى بتواجده.

ناهد رشدي ''الأم'' قدمت دورها بتألق لافت يجعلني أحسب أننا فزنا بممثلة عملاقة في هذه النوعية من الأدوار.. فهي في شكلها وتلقاءيتها وروحها تشبه أمي وأمك.

حورية فرغلي ''نوارة'' قدمت دورا يناسب أسلوبها وشخصيتها، فجاء اختيارها في هذا الدور موفق إلى حد كبير.

''تغريد''.. الأخت الصغرى التي لم أتمكن للأسف من معرفة اسمها الحقيقي.. موهبة حقيقية تمثل بتلقائية محببة إلى النفس.. وتتمتع بوجه مصري بشوش وجذاب.

وليد فواز ''معتمد'' ظللت طيلة أحداث المسلسل مصابا بالحيرة.. هل طبيعة وليد فواز أنه شخص ''رخم'' أم أنه ممثل أجاد دوره إلى هذا الحد.. ظل السؤال يشغلني حتى قام في أحد المشاهد بإلقاء درس ديني داخل الجمعية الشرعية.. هنا بصمت أنني أشاهد ممثلا كبيرا.. فظهر متمكنا ومجيدا للغة العربية.. يقرأ القرءان بصوت عذب.. يعي وهو يلقي خطبته متى يعلو بصوته ومتى يخفضه وأين يتكئ على الحروف والكلمات.

محمد فراج ''رجب الفرخ''.. قدم فراج أداء مميزا واعيا يؤكد موهبته وكونه ممثل ''كبير'' ينتظر الفرصة للانطلاق بقوة.

روبي ''مبسوطة'' قدمت روبي نفسها كما لم تقدمها من قبل.. هنا تثبت روبي بما لا يدع مجالا للشك أنها موهبة استثنائية.. لا تملك عزيزي القارئ سوى أن تتوحد مع شخصية مبسوطة كما توحدت روبي معها.

فريدة سيف النصر ''النعجة'' هي إحدى مفاجآت رمضان بحق.. فالممثلة التي يمتد تاريخها ربما إلى ثلاثين عاما والذي امتلئ بأعمال المقاولات.. نراها هنا وجها جديدا وممثلة كبيرة.. قدمت دور ''النعجة'' بتميز لافت وصدق نادر.

صفوة ''نعناعة''.. صفوة لا تقدم في أعمالها سوى دور الراقصة درجة ثالثة.. ولكنها هنا تقدم هذه الشخصية ببعد جديد وبمساحة تمثيلية أكدت قدرتها وتميزها كممثلة.

محمد أبو الوفا ''سطوحي القصاص''.. هو إحدى الجواهر التي تزيد قيمة أي عمل يشارك فيه.. ممثل حقيقي صاحب موهبة فائقة.. مشهد واحد في أي عمل يشارك فيه كفيل بأن يطبعه في ذاكرتك للأبد.

علاء حسني ''سعيد القصاص'' وجه جديد قدم دوره بتمكن ووعي وساعدته ملامحه ونبرة صوته لإيصال الشخصية للمشاهد.

محمد حسيب ''اللواء مجدي'' تشعر أنه لواء شرطة حقيقي بملامحه وصوته وشخصيته.. جاء اختياره لهذا الدور موفقا تماما.

شرين رضا ''نجوى''.. قدمت دور المرأة اللعوب رئيسة التحرير التي تبتز الطبقة الراقية بتقنية الشرير الذي يضيق عينيه ويرفع حاجبا واحدا.. لكنه أداء جاء مناسبا للشخصية وطبيعة العمل والمرحلة.

تحية واجبة لكل من ساهم في إبداع هذا العمل.. المؤلف والمخرج والأبطال ومديري التصوير والإضاءة ومسؤلي الملابس.. وكل من ساهم في التحقق التاريخي.. تحية لكل فرد ساهم في '' بدون ذكر أسماء''.. هذا العمل الذي لا تكفيه قراءة واحدة.. لذلك فاسمحوا لي أن يكون للمقال جزء ثان.

المقال يعبر عن رأيه كاتبه فقط ولا يعبر بالضرورة عن سياسة الموقع.

للتواصل مع الكاتب
sabrysiraj@gmail.com

إعلان

إعلان

إعلان