لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

خالد داود يكتب ..أغاني الانقسام

خالد داود يكتب ..أغاني الانقسام

11:23 ص الخميس 12 سبتمبر 2013

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم- خالد داود:

ليس من العيب مطلقا أن تحب الشعوب أوطانها وتغني لها. هذا أمر طبيعي. أمريكا، الدولة الأحدث والأقوى في عصرنا الحديث، شعبها يحب الأغاني الوطنية جدا، وينظمون مسابقات سنوية ضخمة يتنافس فيها الآلاف على من سيقوم بغناء النشيد الوطني (زي بلادي بلادي كده) في حفل تنصيب الرئيس، أو في نهائي بطولة كرة القدم الأمريكية كل عام، على سبيل المثال. فرنسا أيضا بكل ما تفخر به من تاريخ، وثورة فرنسية ألهمت العالم بشعار حرية ومساواة وأخوة، تشتهر أيضا بالأغاني الوطنية التي تنتفخ فيها الأوداج وقد تنهمر خلال أدائها الدموع من العيون تأثرا بحب الوطن.

شخصيا، نشأت وترعرعت منذ طفولتي على الأغاني الوطنية، وعرفت أنها علامة مميزة لنا في مصر. وكنت طفلا في الخامسة أردد في طابور الصباح في فترة الاستعداد لحرب 1973 كل الأغاني المعروفة "الله اكبر فوق كيد المعتدي" و "خلي السلاح صاحي." وعندما بدأت الاهتمام بالسياسة وأنا طالب جامعي في النصف الثاني من الثمانينات، كان أول ما يقوم الزملاء الناصريين بتوزيعه علينا، شرائط كاسيت تحتوي أغاني عبد الحليم الرائعة في الخمسينات والستينات.

ورغم حبي وعشقي لأغاني عبدالحليم، وأنها كانت تعبر عن مشروع وطني حقيقي طموح ألتف حوله ملايين المصريين حتى هزيمة 1967 القاسية، فلقد وجدت نفسي أكثر انجذابا لأغاني الشيخ إمام من كلمات شاعرنا أحمد فؤاد نجم، والتي كان يروج لها الزملاء في الجامعة من أحزاب اليسار، رغم أن صوته بكل تأكيد لا يمكن مقارنته من قريب أو بعيد بالملائكي عبدالحليم. فإمام ونجم المشاغبان كانا يسخران من الشعارات الطنانة التي تمتلأ بها أغاني المرحلة الناصرية، ويتناولان الواقع الذي يعيشه فقراء المصريين ونفاق الحاكم وقمع السجون، وهي حقائق لم تكن لتسمع لها إشارة من قريب أو بعيد في أغاني عبدالحليم وأم كلثوم وغيرهم كثيرين في تلك المرحلة.

ولأنني أحد ضحايا عهد مبارك الذي استهلك ثلاثين عاما من عمري هو وحده فقط من دون تغيير أو تبديل، بل وسط استعدادات محكمة لتوريث الحكم لنجله الذي لم يكن يتميز بأي شئ سوى أنه نجله، فلقد شهدت عهد انحطاط وانهيار الأغنية الوطنية إلى عصر "اخترناك..اخترناك" و "نعم نعم من جوه القلب، نعم نعم بنقولها بحب،" عندما يحل موعد التجديد الدوري للرئيس المخلوع في ما كان يعرف باسم الاستفتاء على تجديد الرئاسة لرئيس مرشح وحيد مرة كل ست سنوات. لم تكن المشكلة في الأغاني، والألحان والمطربين ممن كانوا يرون في تلك الأغاني تأشيرة دخول لعالم الشهرة وعقود التلفزيون الرسمي والغناء في الحفلات، ولكن في خوائها تماما من المضمون وانفصالها العبثي عن الواقع ونفاقها الزاعق الداع للغثيان. فلا نحن اخترناه، ولا خيرنا أحد ولا يوجد بديل سواه. والأهم أن مبارك، وحتى إجباره على الخروج من الرئاسة، فشل فشلا ذريعا في لعب دور الزعيم الملهم الذي يستحق كل هذا التطبيل والتزمير.

انا من جيل كان يفتح التلفزيون منتظرا نشرة الأخبار على القناة الأولى الرسمية يوم عيد ميلاد الرئيس المخلوع جل علاه يوم عيد ميلاد سيادته في الرابع من مايو من كل عام، لأجد بدلا من المذيعة في بداية النشرة صورة لكعكة عيد الميلاد تصحبها موسيقى أغنية "هابي بيرث داي تو يو." وكانت هذه أبسط معالم النفاق العديدة التي كان يقوم بها جوبلز عصر مبارك، وزير الإعلام السابق صفوت الشريف.

سنة الإخوان الحزينة السوداء في الحكم، لم يكن لا أغاني وطنية ولا فرح. ومرسي كانت خيبته ثقيلة وظاهرة في لعب دور الزعيم أو القائد، بل إنه "كان حاجة تكسف" من الأساس. كان اقصى ما يستطيع الذهاب إليه لمحاولة لعب دور الزعيم هو دخول استاد القاهرة او أحد الكليات العسكرية في عربة مكشوفة ليلوح لجماهير الشعب والإدارات الإخوانية المختلفة الذين تم حشدهم في عربات واتوبيسات من كل أنحاء الجمهورية. إلى جانب طبعا أن الغناء والمزيكا والكلام ده مش حرام اوي، بس مكروه في عرف الإخوان وفيه ملهاة عن العبادة، وعليكم بعقاب أغاني قناة 25 يناير التي كان يظهر في الأخ يغني وهو يرفع يده للسماء، بينما الطبول تدق في الخلفية، وبس خلاص.

الآن وبعد انتفاضة الشعب المصري في 30 يونيو للخلاص من مشروع ديكتاتور فاشل، عادت الأغاني الوطنية سريعا جدا، وبإفراط بالغ في ظل أننا نعيش أجواء "الحرب ضد الإرهاب،" ولتتصدر القائمة بلا منازع الأغنية الأولى في مصر الآن "تسلم الأيادي." كم مرة قرأنا في الصحف على مدى الأسابيع الماضية أن هذه الأغنية الحماسية أدت لاندلاع معارك في الشوارع؟ عروسة وعريس يرقصان ويصهللان على نغمات "تسلم الأيادي"، يتصادف مرور مسيرة لأنصار الإخوان الذين تمثل لهم هذه الأغنية أكبر استفزاز ممكن، فينقلب الفرح غم وضرب. أو أن الإخوان يمضون في مسيرتهم في القاهرة أو أي مدينة مصرية أخرى تتقدمهم عربة نصف نقل تحمل سماعات ضخمة، وتخرج منها هذه المرة نفس نغمات الأغنية ولكن بكلمات مختلفة مقدمتها "تتشل الأيادي." وينتهي الأمر بنفس النتيجة، أهالي الحي أو المنطقة يستفزهم للغاية أن يهين أحدا جيشهم الوطني الذي يحبونه، وهو ما يغفل عنه الإخوان بغباء شديد في احتجاجاتهم الحالية، وينتهي الأمر بعراك وربما قتلى ومصابين.

الأغاني الوطني في العهود السابقة كان هدفها عموما توحيد الشعب وشحذ الهمم بناء على حقائق أو أوهام. أما أغاني هذه الأيام الغريبة وغير المسبوقة فهدفها ترسيخ الإنقسام، وحشد كل فريق في مواجهة الآخر. وكانت الأغنية الأكثر فجاجة في هذا الشأن "هما شعب واحنا شعب" والتي يجب أن نواريها التراب سريعا. نحن شعب واحد، ما زال يبحث عن طريق لبناء مجتمع جديد بعد عقود طويلة من دولة الرجل الواحد والفكر الواحد والحزب الواحد. ومن الواضح أن الطريق وعر للغاية. من الصعب استمرار الغناء وسط أنباء القتل والتفجيرات اليومية، ولكن إذا قرر أحد أن يغني، فليكن الهدف السعي لتوحيد القلوب في محبة الوطن، مصر.


· هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

إعلان

إعلان

إعلان